بعثات استكشافية
بعثات استكشافية
(*)البحيرات القاتلة
ثمة بحيرتان في الكاميرون متهيئتان لإطلاق غاز قاتل، كما فعلتا في الثمانينات.
وتقدِّم المؤلفة تقريرا عن جهود العلماء لمنع حدوث كارثة أخرى.
< M.هولوِي>
في صباح أحد أيام السبت استيقظ محمد موسى عبدالله ليجد نفسه غير مستطيع الإحساس بذراعه اليمنى أو تحريكها. لقد تذكَّر أنه لم يكن يشعر أنه على ما يرام، وأنه ذهب ليرقد في مبنى المدرسة بدلا من العناية بالطلبة الصغار، كما كان يفعل أحيانا. وعندما استيقظ كانت ذراعه متدلية بجانبه من دون حراك. ونخس صديقه الذي كان قد دلف هو أيضا إلى الداخل ليغفو قليلا، فاستيقظ الصديق منتفضا، وأخذ يصيح من دون سبب ظاهر، ثم ولَّى مسرعا. شرع عبدالله يسير قاصدًا منزله في القرية التي تقع في شمال غربي الكاميرون، ولكنه وجدها في صمت مرعب. لقد كانت الشوارع والأفنية الترابية لقرية سوبوم Subum مفروشة بالجثث المبعثرة. فقد ارتمى الناس على الأرض من دون حراك، وكأنهم سقطوا فجأة بينما كانوا يتجولون أو يتحادثون؛ كذلك كانت الكلاب ميتة والماشية أيضا. وتساقطت الطيور والحشرات من على الأشجار.
لقد شق عبدالله طريقه إلى منزل والده، ولكنه وجد أفراد أسرته جميعا أمواتا أيضا ـ إخوته وأخواته وزوجَتَيْ أبيه. ومع ذلك بدا، للحظة، كأن هناك أملا ضئيلا؛ فقد لمس عبدالله أحد الأطفال فبدأ يبكي، وحاول أن يلتقطه ولكنه لم يتمكن من ذلك بسبب ذراعه التي لا حياة فيها، ولذلك صنع معلاقا فِجّا من قماش ليحمل به الطفل؛ ولكنه عندما لمسه مرة أخرى وجده ميتا.
قال عبدالله: “إنه لأمر مخيف أن تكون بلا عائلة. فكل شيء تقوم به تشعر أنك لست على صواب تماما.” كان عبدالله يسرد قصته بينما كنا نجلس على الشاطئ الجنوبي لبحيرة نايوس Nyos، وهي البحيرة عينها التي قذفت سحابة من غاز مميت مساء الخميس 21/8/1986 والتي قتلت جميع أفراد أسرته المكونة من 11 شخصا وما لا يقل عن 1700 شخص آخرين؛ وهي البحيرة نفسها التي قد تتفجر مرة أخرى في أية لحظة. إنها المرة الأولى التي يعود فيها عبدالله منذ وقوع الكارثة، عندما أمضى يومين في الغيبوبة التي كانت على نحو ما سببا في نجاته. وهو حاليا رجل طويل القامة، في التاسعة والعشرين من عمره. ويقول عبدالله بطريقته الهادئة: “ليس الأمر أنني اتخذت قرارا ألا أعود مرة أخرى، إنما هو الآن قضاء وقدر.”
إنها لظروف غريبة حقّا تلك التي ربطت عبدالله بفريق دولي من العلماء أتوْا إلى الكاميرون لدراسة البحيرة المميتة كي يتمكَّنوا من نزع سلاحها، إذا كان بمقدورهم في النهاية أن يفعلوا ذلك. وفي وقت مبكر بعد ظهيرة ذلك اليوم نزل عبدالله ماشيا من الجبال (من بلدة إيسِه Eseh) إلى البحيرة، مرتديا معطفا ذا لون بني مشوب بصفرة وبنطال أسود وقميصا مخططا بمربعات بيض وسود. لقد جلب جوًّا من الرشاقة والأناقة إلى الشاطئ المزدحم بمعدات التحكم والمتابعة، وأدوات بناء الأطواف، والقوارب المطاطية القابلة للنفخ، والخيام، والمبرِّدات، والكلاب الجرباء، والدجاج السريع الطهي، والعلماء المهتاجين الغُبر (غير المغتسلين) ـ وصحفي أشعث ـ المحاطين بحشد من بضع عشرات من الزائرين المحليين. وقبل ذلك بيوم واحد أو نحوه، استفسر أحد السائقين ـ وهو في طريقه لمقابلة الفريق ببحيرة نايوس ـ عن الاتجاهات بينما كان في مدينة بامندا Bamenda، فتمكّن من الحصول على عبدالله مرشدا. وقبل أسبوع واحد، كان عبدالله قد استمع إلى إذاعة نبأ وصول فريق العلماء إلى مدينة ياوُندِهYaoundé العاصمة، وتساءل حينئذ: كيف يمكنه أن يشارك في هذا الأمر، ثم إذا به يجد نفسَه مخيِّما بجوار بحيرة نايوس ومُشاركا في المشروع.
أما بالنسبة إلى أعضاء الفريق، فقد كان وصولهم إلى مدينة ياونده في الشهر 10 (1999) إشارة البدء لهم. ومنذ عام 1986 فكَّر العلماء الذين يدرسون البحيرة في أن يخلصوها من الغاز المميت الذي يتراكم في مياه قعرها قبل أن ينفجر مرة أخرى ليقتل آلافا آخرين. إن تخليص البحيرة من الغاز عملية مباشرة من الناحية التقانية، وهي في إطار منع الكوارث الطبيعية أمر سهل وزهيد التكاليف. ومع ذلك ثبت أن إنجاز هذا العمل البسيط نسبيّا أمر صعب إلى حد يدعو إلى الدهشة. فعلى الرغم من كون المشكلة ملحّة وعاجلة بصورة واضحة، وكونها فرصة فريدة لتوقِّي كارثة طبيعية قبل وقوعها، لم تُتخذْ إلا إجراءات قليلة لحماية الناس الذين يعيشون حول بحيرة نايوس. فالمشكلات السياسية والافتقار إلى الدعم المالي (بسبب توجه بعض الهيئات المموِّلة نحو الاستجابة للكوارث بعد وقوعها بدلا من توقّيها)، وكذلك سوء التواصل، كلها عوامل تضافرت على التعويق. ولكن في ياونده يبدو أن أمورا أصبحت في النهاية وشيكة الحدوث، على الرغم من ظهور بعض هذه المشكلات بعينها بين الحين والآخر بصورة مزمنة ومقلقة.
لقد انطلق غاز ثنائي أكسيد الكربون من أعماق بحيرة نايوس (الصورة في أقصى اليمين) في الشهر 8 (1986)، فأودى بحياة نحو 1700 شخص مع ماشيتهم. |
إن بحيرة نايوس ساحرة وخلابة، فهي محاطة بمشاهد متنوعة من الحقول المزروعة وواجهات صخرية تشبه الكاتدرائيات وتلال مخضرة. وبعد ظهيرة اليوم الذي وصل فيه عبدالله بدت البحيرة رمادية اللون وساكنة وكأنها لوح من الزجاج. ولكن بحيرة نايوس مفعمة بالنشاط في أعماقها، فهي بحيرة في فوهة بركان crater lake؛ أي بحيرة تكونت نتيجة انفجار بركاني حدث قبل نحو خمسة قرون وترك سدادة من الصهارة(1) magma في قعر فوهة البركان، ثم بردت هذه السدادة وامتلأ المنخفض بالمياه بعمق 2100 أمتار. إنها واحدة من كثير من أمثالها تنتشر في أنحاء العالم بطول السلاسل البركانية ـ ولكنها فيما يبدو، إحدى بحيرتين فقط انفجرتا وأدتا إلى خسائر بشرية؛ أما البحيرة الثانية فهي بحيرة مونون Monoun التي لا تبعد سوى 95 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي.
وبسبب النشاط البركاني في الأعماق، يصعد غاز ثنائي أكسيد الكربون CO2 حتى يلتقي المياه الجوفية أسفل البحيرة، حيث يذوب في تلك المياه، ثم يتدفق إلى بحيرة نايوس حامل معه المعادن التي ذابت هي بدورها في الغاز الناشط التفاعل، ثم يتراكم الغاز في حالة ذوبان، ولكنه يبقى منفصلا عن الطبقات العليا للمياه العذبة. وفي معظم البحيرات التي تتكون في فوهات بركانية يحدث تقليب دوري للمياه السفلية يحمل معه إلى السطح أي مياه غنية بالغاز، حيث ينتشر الغاز في الجو من دون أن يُحدث أي أضرار. ولكن بحيرتي نايوس ومونون لا يحدث فيهما أي تقليب، ولذلك فإن الحد بين المياه السطحية العذبة والمياه المعدنية العميقة الكثيفة والغنية بثنائي أكسيد الكربون ـ الحد الذي يسمى الممال الكيميائي chemocline ـ يبقى سليما متماسكا على نحو خطير (وتسود حالات مماثلة في بحيرة كيڤو Kivu في رواندا وجمهورية الكنگو الديمقراطية، مع أنه لا يوجد أي سجل لانفجارها في أي وقت مضى).
وفي هذه البحيرات يشبِّع الغاز مياه القعر إلى أن يتسبب حافز ما ـ مثل ريح قوية، أو عاصفة عنيفة، أو طقس بارد يؤدي إلى غوص جيب من المياه السطحية، أو زحزحة لليابسة، أو زلزال، لا أحد يدري ـ في تحريض جزء من المياه العميقة ليصعد إلى أعلى. ونظرا لأن ثنائي أكسيد الكربون لم يعد مؤازَرا بالضغط فإنه يتحرر من المحلول، ومن ثم تصعد فقاعاته إلى السطح ساحبة مزيدا من مياه الأعماق. ويُظن أن هذا الصعود يكتسب زخما(2)، ومن ثم تتحول الفقاقيع القليلة إلى تيار من الفقاقيع (كما يحدث عند نزع سدادة زجاجة الشمبانيا)، وعندئذ تندفع المياه المحملة بالغاز على هيئة نافورة هائلة ـ وفي بحيرة نايوس كانت تلك النافورة بارتفاع 80 مترا ـ فيملأ ثنائي أكسيد الكربون الهواء.
ولما كان ثنائي أكسيد الكربون غازا ثقيل، أثقل من الهواء مرة ونصف المرة، فإنه يغلف الأرض خانقا أي حي في طريقه. فعندما انفجرت بحيرة مونون في 15/8/1984 قُتل 37 شخصا؛ أما بحيرة نايوس التي هي أكبر وأعمق، فقد كانت أشد أذى. لقد انحدرت سحابة الغاز من أعلى التلال بسرعة قدرت بنحو 72 كيلومترا في الساعة، هابطة إلى الأودية والقرى حتى مسافة تبعد 20 كيلومترا عن البحيرة. وطبقا لما ذكره <W .G. كلنگ> [وهو بيولوجي من جامعة متشيگن درس كلتا البحيرتين باستفاضة، وهو قائد الفريق الذي انضم إليه عبدالله]، فإن آخر شخص توفي كان فتاة هبطت في صباح اليوم التالي للانفجار إلى واد ضيق شديد الانحدار حيث تجمع الغاز الثقيل في المنخفض. ويعتقد عبدالله أنه وصديقه قد نَجَوا لأنهما كانا نائميْن في غرفةٍ حَمَتْهُما بطريقة ما من وطأة الانقضاض الكامل والضار للغاز، مع أن باب الغرفة كان مفتوحا. ولقد نام عبدالله نحو يومين، ولأنه كان نائما على ذراعه اليمنى هذه المدة الطويلة، أصبح عاجزا عن استعمالها بضعة أشهر. ويعتقد عبدالله أن الغاز سبب اضطرابا في عقل صديقه، وهي ملاحظة تتمشى مع تقارير عن التَّوَهان disorientationالذي أصاب كثيرا ممن بقوا على قيد الحياة.
ومن الواضح أن بحيرة نايوس متحفزة لأن تقتل ثانية وثالثة، وكذلك بحيرة مونون. وطبقا لأحدث الحسابات التي أجراها كلنگ والكيميائي <C .W. إيڤانز> [من المساحة الجيولوجية الأمريكية]، تحتوي بحيرة نايوس على ما يساوي ضعفي ثنائي أكسيد الكربون الذي انطلق خلال الانفجار (حاليا 0.4 كيلومتر مكعب، مقابل 0.17 كيلومتر مكعب فقط عام 1986). وقد يتسبب انفجار آخر أيضا في خرق السد الهش أو القناة الموجودة في النهاية الشمالية للبحيرة. وقد تتدفق المياه حتى تبلغ نيجيريا ـ لتُغرق أو تشرِّد نحو 000 10 شخص. ومع أن المنطقة المحيطة بالبحيرة أُخليت بعد الكارثة وأعيد توطين نحو 3500 لاجئ في أمكنة آمنة، لا يزال العديد من الناس يقطن بالقرب من البحيرة، يجتذبهم ثراء الأرض؛ فحقول الذرة تتاخم حافة البحيرة على الجانب الجنوبي، والماشية ترعى في التلال المحيطة بالبحيرة تحت العيون اليقظة للرعاة الفولانيين Fulani. وفي باكورة التسعينات أطلق بعض العلماء الأوروبيين سمك البلطي tilapia في البحيرة الخالية من الأسماك في تجربة لا تحكمها ضوابط ولم يصرح رسميّا بها. وعاشت الأسماك مؤدية إلى تغيير في النظام البيئي بطرق غير معروفة وأصبحت حافزا آخر يغري الناس بالبقاء حول البحيرة. ومع وجود موارد أو إمكانات محدودة لكسب العيش، لم يكن أمام الفقراء الذين يقطنون المنطقة سوى ذلك الخيار المحدود، وهو التوجه نحو مياه بحيرة نايوس ذات المظهر الحميد الخادع.
1 حقول الذرة المتاخمة لبحيرة نايوس
2 محمد موسى عبدالله 3 القنطرة بين بلدتي بافومِن وإيسه 4 النصب التذكاري لضحايا بحيرة نايوس في بلدة بافومن 5 < W .G. كلنگ> 6 المخيم على الشاطئ الجنوبي |
وربما كان من حسن الحظ، أن الصعوبة الهائلة لبلوغ تلك البقعة الساحرة تُبعد عنها الدخلاء. ولكن انعزالها وبُعْدها يجعلان من العسير أيضا دراستها وتخليصها من الغاز. فبعد خمسة أيام من وصولنا إلى العاصمة ياوندِه بدأنا رحلتنا إلى نايوس في أربع مَرْكَبات. وقد احتل قسم من الفريق أمكنتهم في سيارتيْ پاترول نيسان بسائقيها وهم: إيڤانز؛ كلنگ ومساعدته <J .K. ريزنگ>؛ < M. كوزاكابي> [من جامعة أوكاياما] وأربعة من زملائه من معاهد مختلفة في اليابان؛ < G. تانيليك> [من المعهد الكاميروني للبحوث الجيولوجية والتعدينية (IRGM)]؛ وأنا. أما الآخرون ـ بمن فيهم زملاء تانيليك من المعهد IRGM وهم: < H. مڤوگو>، <J. نوالال>، <P. نايا>،<J.تلُوزُوَا> ـ فقد قادوا شاحنتين محمَّلتين بالمعدات. وكان سفرنا إلى بلدة بامينداBamenda مريحا، مارين بشاحنات محملة بجذوع الأشجار من بقايا الغابات الكاميرونية القديمة والتي مازالت قائمة، وقد تكدَّست تلك الجذوع عالية على ظهورها؛ ومررنا على حبوب الكاكاو الحمراء التي كانت لها رائحة الخل، وكذلك نباتات الكاساڤا(3) البيضاء الزغباء منشورة على جانب الطريق السريع لتجف. وقضينا الليل في أحد الفنادق، وحصلنا على إمدادات تشمل 366 لفة من ورق الحمام القرنفلي اللون لاستخدام 14 شخصا، ثم اتجهنا حتى نهاية الطريق المرصوف في بلدة فندونگ (وبعد ذلك نفدت منا المياه العذبة، ولكن ورق الحمام مازال معنا).
إن الطريق الوحيد المتجه شمالا من بلدة فندونگ طريق رهيب، يعزل المنطقة التي تحيط ببحيرة نايوس على نحو فعال. فهو أقرب لأن يكون سلسلة من النُّقر الطينية الواسعة ـ والمتصلة في الأيام الجافة بممر تَرِب غير مُستو ـ منه لأن يعد طريقا. وقطعنا مسافة 13 كيلومترا نتزحلق ونتدحرج ونتمايل ونغرز في الوحل، ثم انكسر القضيب المقاوم للتأرجح في إحدى سيارتَيْ النيسان. وفي وقت متأخر من بعد الظهر، كان من الواضح أنه على الرغم من إحباط كلنگ لن نتمكن من الوصول إلى أبعد من قرية بافومن Bafumen. وتصرف أعضاء الفريق الياباني بحكمة، إذ وجدوا منزلا ليقيموا فيه، أما باقي جماعتنا فقد أقاموا خياما في مقبرة تقع تماما أسفل نصب تذكاري لضحايا كارثة بحيرة نايوس. وأصبحنا الآن نبعد عن بحيرة نايوس نحو 17 كيلومترا، ولكن يبدو أنه يتعذر الوصول إليها، كما هي الحال بالنسبة إلى بلدة ياوندِه. وثمة شائعة انتشرت في البلدة بأن القنطرة التي توجد في الطريق إلى بلدة إيسه Eseh جرفتها المياه.
لقد بدأنا بالتحرك في صباح اليوم التالي بإيمان جديد. فقد تم لحام القضيب المانع للتأرجح. كما أمكننا التغلب على لسعة برد المساء بمدد من بيرة بافومن الجالبة للدفء. وبعد أن أصلحنا أول إطار فَرُغَ منه الهواء في ذلك اليوم وصلنا إلى القنطرة. واتضح لنا أن المياه لم تكتسحها وأن جانبها الأيسر كان في الواقع سليما، أما الجانب الأيمن فوحده الذي سقط في النهر. وترجَّل جميع أعضاء الفريق من المركبات، وكان هناك الكثير من الثرثرة العلمية على مستوى تقاني رفيع حول ما يتعلق بالكتلة والثبات والسرعة والحمولة والتوزيع، والتي في غمرتها قفز مڤوگو إلى شاحنة الإمدادات التي يتولى قيادتها، والمعروفة باسم “الجَدَّة” وانطلق بسرعة كبيرة عبر القنطرة. وبحلول نهاية اليوم وصلنا إلى بلدة إيسِه، وقضينا ساعات منتظرين توقف هطل الأمطار الغزيرة، ونصبنا مخيما بعد أن استأجرنا أهلَ البلدة جميعا ليحملوا فوق رؤوسهم كل الأشياء الخاصة بنا ـ بما فيها الحقائب الصلبة الثقيلة والتي لم يكن أعضاء الفريق موفقين في اختيارها، إذ اعتقدوا أن العربات سوف تحملنا حتى حافة مياه البحيرة ـ مسافة الكيلومترات الستة، هابطين الممر المؤدي إلى البحيرة، وهو ممر شديد الانحدار، زلق عندما يبتل. ووضعنا في منتصف المخيم صندوقا أزرق مملوءا بأنابيب الأكسجين، التي يكفي كل واحد منها لمدة عشر دقائق ولعشرة منا فقط. (في البداية حاول بعضنا نصب الخيام على أحد التلال حتى نكون أكثر أمانا إذا قررت البحيرة أن تنفجر مرة أخرى. ولكن ثبت أن ذلك أمر صعب للغاية. ومع شعورنا بشيء من خوف لم يبارحنا، نصبنا خيامنا في مكان منخفض ضمن المخيم الرئيسي).
إن المهمة الأولى في صباح اليوم التالي هي بناء طوف(4). فبعد انفجار عام 1986 أقام كلنگ وزملاؤه محطة أرصاد مناخية على طوف في منتصف البحيرة لمتابعة درجات الحرارة والرياح والشمس وسقوط الأمطار. وهذه المحطة التي هلهلتها ضربات الطقس لم تعد صالحة للعمل، ومن ثم لزم إعداد طوف جديد. إضافة إلى ذلك، رَغْبَةُ الفريق في تركيب مقاومات حرارية (ثرمستورات)(5) thermistors تُدلّى من الطوف الجديد إلى تسعة أعماق مختلفة لتسجيل التغيرات في درجة الحرارة والتي تعكس تحركات مياه البحيرة وخصائصها الكيميائية. ويلزمهم أيضا أن يُدلوا مسابر probes لقياس ضغط ثنائي أكسيد الكربون. فلن يكون من المأمون التفكير في عملية كبيرة لتحرير الغاز إلا بعد أن تكون تلك الأجهزة في أمكنتها. وكل مرحلة من تلك العملية ينبغي ملاحظتها لنرى ما إذا كانت تُغير من الظروف على نحو خطير. لذلك كان أول أمر تشغيل في العمل هو بناء طوف قوي وثابت بدرجة كافية لتحمُّل محطة الأرصاد المناخية الجديدة، وحتى يمكن إرساء المسابر المختلفة وتهيئة منصة متسعة بالقدر الكافي (إذا كان ذلك ممكنا)، وذلك كي يستخدمها العلماء في إنزال أوعية لجمع المياه حتى يستطيعوا قياس تركيز ثنائي أكسيد الكربون. والفريق الياباني، بقيادة المهندس <Y. يوشيدا> [من مكتب يوشيدا للاستشارات الهندسية في اليابان]، هو الذي أخذ على عاتقه بناء الطوف.
وعندما وصل عبدالله إلى المخيم بعد يومين، كان بناء الطوف قد تم، وأمكن تجميع محطة الأرصاد التي أُلحقت به. ووجد عبدالله مكانا له في إحدى الخيام، واستعار بعض الملابس اللازمة لإقامته. وفي اليوم التالي شرع يساعد إيڤانز وريزنگ في أعمالهما. وتحتاج المقاوِمات الحرارية إلى فك لوالبها ووسمها بعلامات تدل على العمق الذي ستنزل إليه ثم حزمها معا بأشرطة لاصقة ابتغاء تثبيتها؛ ولذلك أرسلت ريزنگ مساعديها إلى الأطراف البعيدة لحقول الذرة ومعهم الأسلاك الطويلة التي ستمتد إلى قعر البحيرة تقريبا. وانتشر سبعة عشر رجلا بين النباتات ذات الخضرة الزاهية وقد تدلت الأسلاك من فوق أكتافهم ـ وأحدهم، يبعد 2011 متر، يمكن رؤيته في الأفق بصعوبة. وقام عبدالله بمساعدة ريزنگ على فك لوالب المقاوِمات الحرارية، ثم انطلق في رحلة جريئة في البحيرة، كي يتحقق من ضبط مراسي anchors الطوف الجديد، وذهب معه كل من إيڤانز وتانيليك. إن الشمس شديدة الحرارة لدرجة تعمي الأبصار، وجلس بعضنا حول المخيم في نُعاس. وأحضر وجيهٌ فولانيّ هدية من ثمار الأڤوكادو. وهكذا مضي اليوم.
ثم عاد عبدالله من البحيرة، وهو يحمل جهاز إرسال واستقبال walkie-talkie وأصبح منسقا ميدانيا، يساعد كلا منا في العثور على ضالته. وقد جلسنا على أحد صناديق المعدات ـ في الفترات بين الأوامر المشوشة الصادرة عن جهاز الإرسال. وأخذ عبدالله يتحدث عن رغبته في أن تكون له عائلة، فقال إنه التقى امرأة يرغب في أن يتزوجها وهي أيضا ترغب في أن تتزوجه، ولكن عائلتها اعترضت على ذلك، فهم يأملون تزويجها برجل ثري بدلا من مهندس كهربائي، وهي الوظيفة التي اختارها عبدالله منذ سنوات مضت. وسأل عبدالله بحزن “لماذا يحدث ذلك؟ فقدتُ عائلتي أولا، والآن أفقد زوجة.”
1 أطفال من بلدة إيسه 2 إنزال الطوف 3 محطة الأرصاد المناخية فوق الطوف 4 قناة عند الجانب الشمالي لبحيرة نايوس 5 يساعد <H. مڤوگو> على فك لوالب المقاوِمات الحرارية (الثرميستورات) |
ومع الانتهاء من بناء الطوف وإنزال الأجهزة وجمع عينات الماء، يكون كلنگ وزملاؤه قد أعدوا المسرح لعملية تحرير الغاز التي ستبدأ ـ إذا حالفها الحظ ـ في الخريف أو الشتاء. وخلال السنوات القليلة الماضية أعد كوزاكابي ويوشيدا خطة تكلف ثلاثة ملايين دولار أمريكي لتحرير الغاز من البحيرتين وقدمتها الحكومة الكاميرونية للوكالة اليابانية للتعاون الدولي(6). ويتضمن هذا التصميم إنزال 12 أنبوبا في بحيرة نايوس إلى ثلاثة أعماق مختلفة، والسماح للمياه المحملة بثنائي أكسيد الكربون بأن تتدفق إلى أعلى كالرُّغاوى، ربما بمعدل ابتدائي مقداره 320 كيلومترا في الساعة، لإطلاق غازها. ويقدر العلماء اليابانيون أن الأمر يحتاج إلى وضع ثلاثة من هذه الأنابيب في بحيرة مونون.
لقد كانت هذه الفكرة تدور هنا وهناك في صيغ متكررة متباينة، وذلك منذ انفجار بحيرة نايوس. وقد تم اختبار إحدى هذه الصيغ في كلتا البحيرتين. ففي عام 1992 تمكّن < M. هالبواكس> [من جامعة ساڤوي] من الحصول على تمويل من الحكومة الفرنسية والاتحاد الأوروبي European Community للقيام باختبار أوّلي لتحرير بحيرة مونون من الغاز. فقام هالبواكس وزملاؤه، ومن بينهم تانيليك، بإنزال أنبوب قطره خمسة سنتيمترات وآخر قطره 14 سنتيمترا، ثم استخدموا مضخة ماصة تدار بمحرك في سحب بعض مياه الأعماق. وبسبب الاختلاف في الضغط، تدفقت من كلا الأنبوبين نافورة مستدامة ذاتيا من مياه غنية بالغاز، وانتشر غاز ثنائي أكسيد الكربون بعيدا. وأمكنهم غلق صمامات في الأنبوبين لإيقاف التدفق.
لقد قاد نجاح مشروع بحيرة مونون إلى جهد مماثل عام 1995 في بحيرة نايوس. فبتمويل من شركة غاز فرنسا Gas de France، أنزل هالبواكس وآخرون أنبوبا قطره 14 سنتيمترا وطوله 205 أمتار. ولكن الأمور لم تمض بسلاسة كما حدث في بحيرة مونون، فبعد أن بدأ انبثاق النافورة ارتفع الأنبوب من القعر فأثار الذعر. ولكن، لحسن الحظ، لم يحدث حفز لأي انفجار وألمحت التجربة إلى أن تحرير الغاز عملية مجدية.
لقد كان لهالبواكس خطة مختلفة عن تلك التي ليوشيدا وكوزاكابي. فخطته كانت تتضمن إنزال خمسة أنابيب فقط في بحيرة نايوس، ومفتاحا للفتح والغلق يمكن التحكم فيه عن بعد من فرنسا عن طريق ساتل (قمر صنعي) satellite. ومع أن العلماء اجتمعوا في العاصمة ياونده في الشهر 10 (1999) لتسوية خلافاتهم وبدا أنهم قد فعلوا ذلك، برز خلافهم بعد يوم واحد في اجتماع عام مع أعضاء لجنة شُكِّلت حديثا من ممثلي وزارات كاميرونية مختلفة لتولِّي مسألة تحرير الغاز. فقد عرض هالبواكس خطته ذات الأنابيب الخمسة، وقدم كوزاكابي خطته التي تتضمن 12 أنبوبا، وركز الوزراء على أوجه الاختلاف. ومضى وقت قصير ولكنه مثير للأسى ومهدِّد بالفشل، بدا فيه المشروع وكأنه في طريقه إلى الرفض.
وفي النهاية، تكلم < N .H. نلِنْد> [وزير البحث العلمي والتقانة، رئيس اللجنة] مؤكدا لجميع الحضور أن الاختلافات القائمة تعد أمورا ثانوية. ثم أعلن الوزير بقوة وجزم: “كل رقم يذكرونه الآن تقريبي، وكل شيء هو الآن مجرد تقدير. إن التقانة التي قاموا بشرحها ستظل في تطور.” ثم أضاف قائلا إنه لا يمكن لأي واحد منا أن يتوقع من معماريين ينوون بناء إحدى الكاتدرائيات أن يقدموا تفصيلات محددة في مشروع ضخم من هذا القبيل. إن توحيد الوزارات المختلفة وراء تلك العملية كان مهمة عظيمة، فمن دون تأييدهم المشترك لم يكن بالاستطاعة تحسين الطرق، ولا إجلاء السكان من المناطق المحيطة بالبحيرتين، ولا إيجاد أفراد من الجيش الكاميروني في أثناء عملية تحرير الغاز مزودين بمستودعات الأكسجين تحسبا لحدوث أي انفجار. وكان من الواضح أن الوزير نلند لن يسمح لبعض المشكلات اليسيرة بأن تحول دون تحقيق المشروع. وهكذا عاد جميع العلماء يعملون معا متعاونين مرة أخرى.
إن الخلاف كان أمرا شاذا بالنسبة إلى جماعة كانت متعاونة إلى حد كبير لأكثر من عقد كامل. وكان الجدل ناشئا عن اختلاف وجهات النظر العلمية، ولكن الاختلافات في التصاميم كانت في الواقع تافهة. ويبدو أن معظمها قد نشأ عن عدم التواصل بين الباحثين حول، أو في أثناء، جهودهم وسعيهم إلى الحصول على تمويل. فقد شعر هالبواكس بأنه أُقصي من العمل الذي قام بوضع أساسه. ويقول آخرون إنهم كانوا يسعون إلى الحصول على تمويل بأسلوب “احصل على ما يمكنك الحصول عليه”، مفكرين دائما أن هالبواكس سيعمل معهم. ويقول كلنگ: “لقد افترضنا دائما أن أي واحد يهتم بهاتين البحيرتين إنما يشارك في العمل الجماعي.”
“مازلنا نحن العلماء نتساءل: هل كان كافيا أن يقتصر
عملنا على إرسال تقارير إلى كل شخص؟”
والواقع إن تأمين الحصول على تمويلٍ كان مغامرة مستميتة. فهنا بحيرتان سوف تتفجران وآلاف الناس معرضون للخطر، وهناك حل سهل قد يكلف مبلغا ضئيلا لا يتجاوز مليون دولار أمريكي. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن باحثين مختلفين قد حصلوا على دعم من حكوماتهم أو من معاهدهم لدراسة البحيرتين، أصاب الإحباط والقنوط كثيرا منهم بسبب عجزهم عن الحصول على المال اللازم لتخليصهما من الغاز. فمثلا، في عام 1992 نُظِّم اجتماع لتحرير الغاز بدعم من منظمة اليونسكو UNESCO وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. ومع ذلك، لم تقدم أي من المنظمتين أي تمويل للمشروع الفعلي، كما يقول كلنگ. ولقد حاول العلماء الوصول إلى قنوات أخرى للتمويل، ولكن نجاحهم كان ضئيلا. فمثلا، حاول كلنگ وأحد زملائه أن يثيرا اهتمام شركات البترول ـ التي لها وجود قوي ومربح في الكاميرون ـ ولكن لم يحالفهما الحظ. وفي العام نفسه، في مؤتمر الأمم المتحدة، ناشد كلنگ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (AID)، ولكنه قُوبل بالرفض؛ لأن الوكالة في ذلك الوقت كانت عازفة عن تمويل مشروعات في الكاميرون. وتفسر< C. نيل> [وهي جيولوجية في مكتب المساعدات الأجنبية للكوارث (OFDA)] الأمر فتقول إن الوكالة AID، بعد أن قدمت مساعدات للضحايا بعد الكوارث مباشرة، “انسحبت من الموضوع نوعا ما. إن للكاميرون مشكلة مع الديمقراطية والحكم الصالح.”
وكذلك فإن مجهودات كوزاكابي للحصول على أموال من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) باءت بالإخفاق والفشل. ويقول البعض إن الحكومة اليابانية لم تكن ملتزمة بمشروع تحرير الغاز التزامها بالمشروعات الأخرى في الكاميرون. ويقول آخرون إن الحكومة الكاميرونية ـ التي كان عليها أن تضع المشروع على رأس قائمة أولويات المساعدات المحتاجة إلى تلقي تمويل ـ لم تتمكن من التوصل إلى إجماع في الرأي، حتى إن أحد الوزراء فضل حفر بئر في قريته بدلا من تحرير الغاز.
إنه لا يمكنك أبدا أن تسبر تماما غور الأمور السياسية، ولكن القضية الأولى هنا هي أن الكثير من منظمات الغوث تقدم المساعدات استجابة للكوارث بعد وقوعها، ولكنها لا تقدمها قبل وقوعها توقيا لها. وكثير من الناس داخل هذه الجماعة أكدوا أخطار هذا الأسلوب، ولكن نيل [من المكتب OFDA] تقول إن هذه الجماعة لم تبدأ بالتغير إلا مؤخرا، وهي تشير إلى الجهود الحديثة في تخفيف هذه النظرة داخل الوكالة AID وكذلك داخل الوكالة الفدرالية لإدارة الطوارئ(7). وتقول نيل: “أعتقد أنه في السنوات القليلة الماضية حدثت في الوكالة AID عملية تعلم وتحول ثقافي نحو الإيمان بأن التلطيف من شدة الآثار المتوقعة آخذ في أن يصبح بشكل متزايد هو الأسلوب المهم للاقتراب من المشكلات، وأننا بإسراعنا بعد حدوث زلزال أو مجرد إنقاذنا الأجساد وتقديم الإسعافات الأولية، لا نكون قد صنعنا شيئا للمشكلة على الأمد البعيد.”
إن معظم الفضل في حصول كلنگ والفريق في خريف عام 1999 على 000 433 دولار أمريكي يردُّ إلى اهتمام <نيل> بالكاميرون وببحيرتيها وإلى اعتقادها الراسخ بمبدأ التلطيف(8). لقد كان الحافز إلى الحصول على منحة المكتب OFDA هو انفجار ماونت كاميرون(9) في ربيع عام 1999. فلقد أرسل المكتب < P .J. لوكهيد> [الذي كان يعمل سابقا في المساحة الجيولوجية الأمريكية والذي كان قد أجرى دراسات على بحيرة نايوس] لتحديد مدى الخطر الكامن في هذه البحيرة. وبعد مقابلة مع ممثلي سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في ياونده والعلماء الكاميرونيين والوزراء، خَلُص لوكهيد إلى أنه إذا كان المكتب OFDA يرغب حقا في مساعدة الكاميرون، فينبغي عليه أن يعمل شيئا ما بخصوص البحيرتين.
ومع أن تحرير الغاز يبدو الآن في طريقه إلى التحقق، مازال كثير من الباحثين يشعرون بأنهم مذنبون على نحو ما ـ لأنهم لم يعرفوا على وجه الدقة ما الذي كان ينبغي عليهم أن يفعلوه، وأنه كان عليهم أن يقوموا بعمل المزيد. إن ما يقلق تانيليك أن صورة الخطر لم تكن واضحة لديه ولدى الآخرين بالقدر الكافي ـ أو على الأقل لم تكن على النحو الذي يدفع أي واحد منهم للعمل. وفي وقت متأخر بعد الظهيرة، حيث كنا نجلس على أحد المبردات في الشمس حول بحيرة نايوس، وكان ثقل الحرارة مخدرا مرهقا حتى في ذلك الوقت المتأخر من النهار، قال تانيليك “نحن العلماء مازلنا نتساءل: هل كان كافيا أن يقتصر عملنا على إرسال التقارير لكل مسؤول؟ لم تكن تلك التقارير قوية بالقدر الذي يبعث فيهم الحمية والهمة.”
1 الأطفال عند بحيرة مونون يحملون المقاوِمات الحرارية
2 <G. تانيليك> 3 قرويون من نايوس يشربون من مياه بحيرتهم 4 بحيرة مونون |
وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، وصل وفد من قرية نايوس مكون من تسعة أشخاص، وكانوا مصطفين بملابسهم المزوّقة ـ قبعات ومظلات وملابس زاهية، وأحضروا معهم خطابا من رئيسهم < F. تانگ-نمبونگ>: “زوارنا الأعزاء، نحن سعداء جدا لرؤيتكم هنا في بحيرتنا. إننا هنا لنقول مرحبا بكم جميعا.” ويشرح تانيليك للوفد ما الذي يفعله الفريق البحثي ولماذا، فيقول محذرا “قد يحدث انفجار في أي يوم. وإذا كنا نفعل أي شيء يخالف تقاليدكم، فينبغي عليكم أن تخبرونا بذلك.” إن أعضاء الفريق، ولا سيما تانيليك وإيڤانز، يحاولون أن يشرحوا ما يقومون به للناس الذين يقابلونهم.
إن مثل هذا التواصل أمر مهم لأسباب عديدة، وليس فقط لخلق العلاقات الطيبة. فهذا يشجع الناس على أن يأخذوا حذرهم من البحيرة التي تبدو آمنة، وكذلك يعزز الوعي العلمي الذي يأمل تانيليك أن يسهم في جعل بحيرة نايوس مركزا للبحوث بمجرد أن يتم تحرير البحيرة من الغاز. وأخيرا، فإنه سيساعد على إخماد إشاعة معوِّقة. لقد بدأت تلك الإشاعة، طبقا لعالمة الأنثروپولوجيا < E. شانكلن> [من كلية نيوجرسي]، عندما زار كاهنٌ القرى المدمَّرة ووصف المشهد هناك بأنه يشابه المأساة التي خلَّفتها قنبلة النيوترون. وهكذا وُلدت قصة القنبلة. وتقول إحدى الصيغ البدائل إن الأمريكيين والإسرائيليين فجَّروا تلك النبيطة device للحصول على الألماس الدفين تحت البحيرة. وثمة قصة أخرى تقول إن عامل أشقر الشعر من فيلق السلام Peace Corps قام بوضع القنبلة حتى يتسنى للأمريكيين أن يستقروا في المنطقة.
وتضايق هذه الإشاعة الفريق ـ وكذلك فيلق السلام، وسفارة الولايات المتحدة الأمريكية في العاصمة ياونده، وربما أيضا الهيئة الطبية الإسرائيلية التي قدمت إسعافات الإغاثة من الكارثة عام 1986، ويمكن أن تعوق مجهودات الإجلاء في أثناء عملية تحرير الغاز إذا شارك بعض من تلك الجماعات نفسها. ولكن شانكلين ترى أن بزوغ أسطورة جديدة أمر مثير للاهتمام والفضول، شأنها في ذلك شأن الأساطير القديمة في المنطقة. فتومئ إحدى هذه الأساطير إلى أن ما حدث في بحيرتي نايوس ومونون ليس من دون سابقة، فثمة أسطورة لشعب الكُم Kom تصف إحدى البحيرات التي انفجرت فجأة وقضت على إحدى القبائل.
بيد أن الوفد الذي جاء من نايوس، لم يُبد من ناحيته أي ارتياب في عمل الفريق. بل إن <T. شيته> قال: “نحن سعداء جدا بحضوركم هنا، فكل واحد في نايوس عليل بسبب هذا الغاز.” ثم تكلم بعد ذلك أحد أعضاء الوفد في مطلب مثير إثارة اقتحام عبدالله البحيرة بجسارة، راجيا أن يتذوق الماء الذي قتل العديد من أقاربه. ومع وجود عبدالله واقفا في مكان قريب، قدم له تانيليك بعضا من الماء المُكَرْبَن(10) الذي جُمع بالقرب من قعر البحيرة تماما. وتجمع الأشخاص حوله، كي يشرب كل منهم، بدوره، من مياه أعماق بحيرتهم.
Scientific American, July 2000
(*) The Killing Lakes
(1) مادة صخرية منصهرة في باطن الأرض تنشأ عنها، حين تبرد، الصخور البركانية.
(2) momentum (التحرير)
(3) نبات اسمه العِلْمي Manihot esculenta، يزرع في معظم البلاد المدارية، تؤكل درناته وأوراقه؛ ويستخرج من درناته نَشَا التاپيوكا الذي يستخدم في إعداد العصائر وصنع الحلوى.
(4) raft (التحرير)
(5) ثرمستور thermistor نحت من الكلمتين: thermal أي حراري، و resistor أي مقاوم. وهو شبه موصلsemiconductor يتألف من أكاسيد الكوبلت والنيكل والمنگنيز مع نحاس مسحوق سحقا دقيقا، ومقاومته شديدة الحساسية للتغيرات في درجة الحرارة.
(6) Japanese International Cooperation Agency (التحرير)
(7)Federal Emergency Management Agency
(8) mitigation
(9) وهي قمة بركانية ترتفع نحو أربعة كيلو مترات، وتعد أعلى ذروة في غرب إفريقيا وأعلى بركان ناشط في إفريقيا. (التحرير)
(10) المشبع بثنائي أكسيد الكربون. (التحرير)