العلم في صور
العلم في صور
نباتات البروميليا في الغابة الأطلسية(*)
على طول شاطئ البرازيل، لم يتبق إلا 8 في المئة مما كان في يوم من الأيام غابة مزدهرة
تؤوي فصيلة متنوعة من البروميليات. ويقوم فريق من البيولوجيين بتسلق الجروف والأشجار
لجمع بعض عناصر هذه الفصيلة الجميلة النادرة.
<G.مارتينيلي>
في يوم من الأيام كان شاطئ البرازيل غابة مطيرة كثيفة، تعج بكساء خضري غطى 1.4 مليون من الكيلومترات المربعة، بل نافس الأمازون في تنوعه الحيويbiodiversity. أما اليوم فلم يتبق من هذه الحصيرة الأطلسية Mata Atlantica (أو الغابة الأطلسية) إلا بُقع وشُدف، فقد نجا 88 في المئة فقط من الغابة الأصلية من فؤوس الحطابين ومناجل مزارعي البن وقصب السكر، وهذه المساحة المتبقية مبعثرة على طول ساحل البحر الشرقي المكتظ بالسكان، بحيث يقع بعضها في محميات وبعضها الآخر في أراض ذات ملكية خاصة أو في أمكنة غير متوقعة داخل المدن الرئيسية وحولها. وتُشكِّل هذه البقع الصغيرة من الحصيرة الأطلسية أكثر منظومة بيئية تعرضًا لخطر الانقراض في البرازيل، وهي تمثل الملاذ الأخير للعديد من عناصر فصيلة نباتية فريدة هي البروميلية (الأناناسية)Bromeliaceae.
إن البروميليات (التي ربما يكون الأناناس والحزاز الإسباني(1) أكثرها شهرة) هي في الغالب نباتات زهرية جميلة الألوان ومذهلة في تنوعها. فمن بين الأنواع والنُّوَيْعات (تحت الأنواع) subspecies البالغ عددها 3146 والواقعة في 56 جنسا تشكل النباتات الهوائية epiphytes ما يزيد على النصف: وهي نباتات تستطيع جذورها أن تتثبت بجذوع الأشجار أو الصخور أو ركائز أخرى، تأخذ الرطوبة من الهواء والندى بدلا من الأرض. وتحتجز بعض هذه النباتات الهوائية الماء في التشكيلة الوردية التي تؤلِّفها أوراقها، وكذلك تستطيع أن تتكفل بيئات ميكروية (دقيقة) microenvironments بكاملها. فمثلا يستطيع نوع ضخم منها يعيش في القسم العشبي الجبلي من الحصيرة الأطلسية الجنوبية الشرقية ويدعى ألكانتاريا إمپرياليس Alcantarea imperialis أن يحتبس 300 لترا من الماء. وقد اكتشف الباحثون أن أكثر من 9000 من الكائنات الحية ـ التي يتألف معظمها من الحشرات، إضافة إلى ضفادع وسرطانات (سلطعونات) وديدان وكائنات ميكروية (دقيقة) ـ تعيش في هذه «الصهاريج» المورقة. وبدورها تهيئ هذه المخلوقات الصغيرة في موئلها المائي أسبابَ العيش لحيوانات أخرى، بما في ذلك العديد من الطيور وبعض الرئيسيات Primates كالطمارين(2) tamarin الذهبي المهدد بخطر الانقراض.
وفي حالات معينة، تبدو البروميليات وما تتكفله من كائنات وكأنها قد تطورت مع بعضها بعضا. فأحد الضفادع (ويدعى هايلا ڤينيولوزا Hylavenulosa) يلجأ إلى البيات الشتوي طوال الفصل الجاف من السنة في شمال البرازيل داخل النبتة البروميلية بلْبرْجيا زبرينا Billbergia zebrina. فهو يعيش داخل تجويف النبتة البروميلية ويكب رأسه المنبسط العريض بزاوية قائمة على جسمه حابسا بذلك الماء داخل هذه النبتة، الأمر الذي يؤمن له وللنبتة البروميلية مصدرا للتميُّه hydration. وقد أدى هذا الضفدع وغيره من جنسه دورا انتقائيا (انتخابيا) مهمًا في تطور الخزان الأنبوبي الضيق لدى أنواع معينة من البلْبرْجيا.
تنمو غالبية البروميليات (سواء كانت هوائية أو ساكنات التُّرَب) في العالم الجديد ممتدة بين الحد الشمالي لولاية ڤيرجينيا في الولايات المتحدة وپاتاگونيا في جنوب الأرجنتين وبين شرقي البرازيل وجزر جوان فيرنانديز الواقعة على بعد 300 ميل من شواطئ تشيلي. ولا يوجد سوى نوع واحد في جهة أخرى من العالم، إذ نجد لسبب مجهول في غينيا بغرب إفريقيا نوعا يسمى پتْكيرنيا فيليسيانا Pitcairnia feliciana.
إن هذا النبات البروميلي نيدولاريوم إنوتشنتي Nidularium innocentii من ولاية ساوباولو في جنوب البرازيل، شأنه شأن أفراد عديدة من هذه الفصيلة، هو نبات هوائي epiphyte؛ إذ إنه يستطيع النمو على جذوع الأشجار وعلى الصخور وفي أمكنة أخرى. ولا تحتاج جذوره إلى التغلغل في التربة، بل تستطيع امتصاص الرطوبة من الهواء. |
|
غالبا ما توجد الأجزاء المتناثرة للغابة الأطلسية البرازيلية حول المناطق المكتظة بالسكان على الشاطئ. وعلى سبيل المثال، فإن النبات ألكنتاريا گلازيوانا Alcantarea glaziouana هذا (1) كان قد اكتشف شمال مدينة نيتيروي Niteroi التي تقع إلى الشرق من ريودي جانيرو مباشرة. ولكن ليس من السهل دائما الحصول على هذه العينات، إذ غالبا ما يكون على البيولوجيين تسلق أشجار عالية أو سفوح حادة على شاكلة ما فعلت < Th. بربارا> حين حاولت جمع النبات دِكْيا إنكوليريويدس (Dyckia encholirioides. (2 ولكن الألوان الجميلة لأزهار البروميليات تساعد الباحثين أحيانا على إيجادها، مثال ذلك: نيوريجيليا كاروليني (3) Neoregelia carolinae وإكميا نوديكاوليس Aechmea nudicaulis (4) وإكميا أورناتا (5) A. ornata وبروميليا پلوميري (6) Bromelia plumieri وكانيستروم أورانتياكوم (7) Canistrum aurantiacum. |
|
يشكل العديد من البروميليات مثل نيوريجيليا مارموراتا (1) Neoregelia marmorata حفرا مائية صغيرة تتكفل حياة أنواع متباينة تطور بعضها بالمشاركة مع البروميليات نفسها. وقد اكتشف الباحثون نحو 900 من الكائنات الحية تعيش في «الصهاريج» cisterns التي تكونها هذه الفصيلة النباتية، بما في ذلك حشرات مثل العنكبوت السام الذي يعتمد على النبات هوهنبرجيا (3). Hohenbergia sp. كملاذ له. وتعد الطيور الطنانة من بين عوامل التلقيح الرئيسية للبروميليات. وهذا الطائر الطنان في الصورة (5) يتفقد النبات ڤريسيا نيوگلوتينوزا Vriesea neoglutinosa بحثا عن الغذاء. أما البروميليات الأخرى المبينة هنا فهي بروميليا أنتي أكانثا (2) Bromelia antiacantha و ڤريسيا روديگازيانا (4) Vriesea rodigasiana ونيدولاريوم (6) .Nidularium sp. |
لا يوجد توصيف جيد لنباتات البروميليا في الحصيرة الأطلسية، وقد اختفى العديد منها منذ قرون من دون أن تترك أي أثر. ومع ذلك فإنها تتمتع بأهمية بالغة بسبب المستوى العالي لتوطُّنها endemism في هذه المناطق: ففي بعض الأمكنة يقتصر وجود ما يزيد على 53 في المئة من الأشجار و377 في المئة من الأنواع غير الشجرية و74 في المئة من البروميليات على هذه البقع الغابية فحسب. وفي الواقع يجادل بعض العلماء بأن مصطلح «الحصيرة الأطلسية» يُعَد اسمًا على غير مسمى إلى حد ما؛ لكونه ينقل الانطباع بأنها غابة متجانسة، في حين أنها في الحقيقة تشمل غابات موسمية وغابات تقع على ضفاف الأنهار وغابات مطرية. وفي أي حال، وبالنظر إلى كون النباتات البروميلية مهمة للعديد من الأنواع الأخرى، فإنها تتيح نافذة للاطلاع على هذه المنظومات البيئية المهددة بخطر الانقراض.
ومن أجل تسجيل بروميليات الحصيرة الأطلسية ودراستها، شرعتُ وزملائي منذ عامين بزيارة ما استطعنا من البقايا الغابية الشاطئية الأصلية، حيث قمنا على مدار 14 شهرا بسبع حملات وقطعنا نحو 82400 كيلومتر. ومن أصل ال1056 نوعا ونُوَيْعًا التي حددنا مواقعها في حملاتنا وبعثاتنا الفجائية، كان 66 في المئة منها متوطنا endemic في الحصيرة الأطلسية، وتبيَّن أن ثمانية أجناس منها لا توجد في أي مكان آخر غير هذه الحصيرة. هذا وقد اكتشفنا بضعة أنواع لا تعيش إلا على قمة جبل وحيد بمفرده؛ ووجدنا عدة أنواع أخرى لا تزدهر إلا داخل مساحة 20 هكتارا فحسب؛ وقد وفقنا بالحظ بمشاهدة زهرة بطول ثلاثة أمتار لنبات يزهر مرة واحدة كل أربعين سنة. ومع أننا مانزال نواصل سيرورة وصف موجوداتنا (ولن نعرف لبعض الزمن كل ما حصلنا عليه بدقة) فإننا نقدِّر أن ما يقرب من 119 نوعا من الأنواع التي جمعناها مهددة بخطر الانقراض، وأن 188 نوعا عرضة للخطر، وأن 58 نوعا توشك على الانقراض.
ستساعدنا هذه الموجودات الجديدة على صون النباتات البروميلية الراهنة، وفي الوقت المناسب بالضبط. ويقدِّر دعاة الحفاظ على البيئة أن ضغط التنمية على طول الشاطئ سرعان ما سيكلف البرازيل سبعين ألف كيلومتر أخرى أو نحو ذلك من الحصيرة الأطلسية، وأن 2 إلى 3 في المئة فقط من الغابة الأصلية هو ما سيبقى في مساحات محمية قليلة. وتبعا لذلك، فقد وضعنا العينات الـ1842 التي جمعناها في دفيئتين greenhouses بُنيتا خصيصا لها في معهد أبحاث حديقة ريودي جانيرو النباتية. ونأمل، عن طريق حفظ البلاسما المنشئة (المادة الوراثية) germplasm، أن نستطيع إعادة إدخال reintroduce بعض الأنواع عند الضرورة.
|
يستغرق النبات البروميلي العملاق ألكانتاريا إمپرياليس Alcantarea (1) imperialis أربعين عاما لاكتمال نموه، وبعدها ينتج أزهارا يصل ارتفاعها إلى ثلاثة أمتار. وبعد إزهاره يموت النبات من دون أن يترك أية فَسائِل. ومن حسن حظ فريقنا أننا عثرنا على هذا النبات في حالة الإزهار في ولاية ميناس جيرايس. أما أكثرية البروميليات الأخرى فإنها تزهر كل سنة أو كل بضع سنين معطية بذورا أو فسائل. وكذلك فإن أكثرية البروميليات الأخرى أقل حجما من ألكانتاريا إمپرياليس، بما في ذلك ڤريسيا إنكرڤاتا (2) Vriesea incurvata وكيسنيليا إدمندوي (3) Quesnelia edmundoi وكيسنيليا لاتيرالس (5) Q lateralis. هذا وإن عملية تصنيف البروميليات التي جمعها المؤلف وفريقه تستغرق وقتا طويلا، ولكنهم حاولوا أن يحرزوا قصب السبق على هذا الطريق. أما هذه العينة فقد تبين أنها آكْميا كاستلناڤاي (4) Aechmea castelnavii. |
وفي الوقت نفسه، نأمل أن نكتشف المزيد عن البيولوجيا الأساسية لهذه الفصيلة المتنوعة من النباتات. ومع أن البروميليات تستعمل بكثرة من قبل أصحاب مهنة البستنة كنباتات للزينة، بسبب أزهارها ووريداتها الجميلة التي تزهر بألوان أرجوانية وبيضاء وحمراء وزرقاء وصفراء وبرتقالية وحتى بنية، فمن المستغرب أننا لا نعرف إلا القليل عن استراتيجياتها التكاثرية. صحيح إننا نعرف أنه يبدو أن الطيور الطنانة والخفافيش من العوامل الرئيسية لتلقيح (تأبير) pollination البروميليات في الحصيرة الأطلسية، ولكنني وزملائي لم نستطع إلا في السنوات القليلة الماضية تحديد كون معظم هذه النباتات يقوى على التلقيح الذاتي self pollination كذلك. وإذا ما وجب علينا إنقاذ البروميليات (والأنواع العديدة التي تعتمد عليها) من الفقدان الشديد والمتواصل للموائلhabitats فسنحتاج إلى معرفة المزيد عن كيفية جعلها تتكاثر بشكل ناجح.
المؤلف والمصور
Gustavo Martinelli – Ricardo Azoury
تعاونا في إطار المشروع البروميلي منذ عام 1997، وسافرا إلى أجزاء كثيرة قدر الإمكان من الحصيرة الأطلسية من أجل جمع هذه الفصيلة النباتية الاستثنائية وتصويرها. وقد عمل مارتينيلي (في الأعلى) مختصا بعلم النبات في معهد بحوث الحديقة النباتية بريودي جانيرو منذ عام 1972. حصل على الدكتوراه في علم البيئة من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا وعاد إلى وطنه الأم (البرازيل) ليدرس الغابة الأطلسية. أما أزوري [وهو مصور في مطبعة سابا Saba] فإنه متخصص بالموضوعات البيئية. لقد عمل بشكل مكثف في الغابة المطرية الأمازونية ويتنقل بشكل واسع لصالح مقاصده؛ ومن ذلك أنه انتقل من جنوب إفريقيا حيث قام بتصوير أسماك القرش، إلى نهر هدسون لتصوير سمك الحَفش sturgeon الأطلسي.
مراجع للاستزادة
THE POTENTIAL ROLE OF THE RIO DE JANEIRO BOTANICAL GARDEN IN CONSERVING THE ATLANTIC FOREST OF BRAZIL. G. Martinelli in Tropical Botanic Gardens: Their Role in Conservation and Development. Edited by V.H. Heywood et al. Academic Press, 1991.
REPRODUCTIVE BIOLOGY OF BROMELIACEAE OF THE ATLANTIC RAINFOREST. In Floristic and Ecologic Aspects of Macae de Cima Ecological Reserve. Edited by H. C. Lima and R. G. Bruni. Rio de Janeiro Botanic Garden Research Institute, 1997.
REGIONAL FLORISTICS ON INSELBERG. VEGETATION: SOUTHEAST PRAZIL. H. D. Safford and G. Martinelli in Inselbergs: Biotic Diversity of Isolated Rock Outcrops in Tropical and Temperate Regions. Edited by S. Porembski and W. Barthlott. Springer Verlag (in prss).
Scientific American, March 2000
(*) The Bromeliads of the Atlantic Forest
(1) الحزاز الإسباني Spanish moss هو الاسم الشائع للنبات Tillandsia usneoides، وهو ليس بحزاز وإنما هو نبات زهري.
(2) الطمارين: قرد صغير طويل الذنب ذو أصل جنوب أمريكي. (التحرير)