أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الاجتماع

نهاية المواجهة بين الطبع والتطبع

نهاية المواجهة بين الطبع والتطبع(*)

أيتحدد سلوك الإنسان بالوراثة أم بالبيئة؟

ربما حان الوقت للتخلي عن هذا التقسيم الثنائي.

<M .B .F. دو ڤال>

 

لقد بحّت حناجر المدافعين عن كل من الطبع والتطبع في مواجهة كل منهما للآخر منذ أمد طويل؛ فبينما اعتقد علماء البيولوجيا دائما أن الجينات تؤدي الدور الأساسي في سلوك الإنسان، تكتل العلماء الاجتماعيون(1) مع الرأي المناقض القائل: بأن كل إنسان يكيف سلوكه وشخصيته بشكل مستقل تماما عن الحتمية البيولوجية. لقد أحسست حرارة هذه المناظرة في السبعينات من القرن الماضي، خلال محاضراتي العامة، وذلك كلما ذكرت اختلافات الجنس في الشمپانزي (كقولي مثلا، إن الذكور هم أشد عدوانية وأكثر طموحا من الإناث)، حيث كانت تتعالى صرخات الاحتجاج. ألم أكن أسقط قيمي الخاصة على هذه الحيوانات المسكينة؟ كم كانت أساليب معالجتي صارمة وقاسية؟ ولماذا اهتممت بمقارنة الجنسين؟ وما هي براهيني على ما أؤكده؟

ويتضجر الناس حاليا من مثل هذه المعلومات، وحتى المقارنات المباشرة بين سلوك الإنسان والقردة، التي كانت تعتبر من الأمور المحظورة، تفشل في إثارة أي منا. وقد سمع الجميع أن «الرجال من المريخ وأن النساء من الزهرة»، كما شهد الكثيرون في صحيفتي التايم Time والنيوزويك News week  صورا مقطعية  لدماغ الإنسان المنشغل بأعمال مختلفة، تضيء فيها مساحات في أدمغة الذكور، بعضها يختلف عما يضيء في أدمغة الإناث.

 

ومن ناحية أخرى، لم أعد أوافق على هذا الهوس برد الاختلاف بين الرجال والنساء إلى البيولوجيا وحدها. وهذه التبسيطات المغالى فيها مطابقة لذوق العصر (مثلا، عندما يُشار إلى التأثيرات الهرمونية العادية على أنها «تسمم بالتِستوستيرون» testosterone poisoning)، فنحن نظل على الدوام بعيدين عن الفهم المعقد للتفاعل بين الجينات والخبرات المكتسبة، وذلك من أجل تحديد السلوك. وقد انتقلنا فجأة من مغالاة إلى أخرى في اتجاه آخر، متناسين إسهامات العلوم الاجتماعية. فمازلنا نردّ كل سلوك إما إلى تأثير الجينات وحدها أو إلى الخبرات المكتسبة وحدها، وليس إلى الاثنتين معا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H02_001977.jpg
جرت دراسة توأمين نشأ كل واحد منهما منعزلا عن الآخر، وذلك من أجل تحديد الإسهامات النسبية للجينات والخبرات المكتسبة أو البيئة في سلوك الإنسان. لقد أعاد الشقيقان اكتشاف أحدهما للآخر في وقت متأخر من حياتهما عندما صارا من رجال الإطفاء.

 

من المستحيل أن نستكشف إلى أين سنتجه بعد خمسين عاما من الآن من دون أن ننظر إلى الوراء عددا مساويا من السنين، إلى التاريخ الحافل بخلافات الطبع/ التطبع. فقد كان الجدل حولها متقدا على الدوام، حيث إن اتخاذ أي موقف يترتب عليه تداعيات سياسية خطيرة؛ وقد تراوحت المواقف من ثقة لا أساس لها في قابلية الإنسان للتكيف من قبل المجددين reformists، إلى استحواذ فكرة الدم والعِرق على المحافظين conservatives. وهذه المواقف، كل بطريقته الخاصة، تسببت في معاناة لا حصر لها للبشرية خلال القرن الماضي.

 

التعلم والغريزة(**)

قبل خمسين عاما، كان لأصحاب مدرستي الفكر السائد حينذاك عن سلوك الإنسان والحيوان وجهتا نظر متضادتان تماما، ففي تعليم الحيوانات الأداء التحكمي، مثل الضغط على رافعة، اعتبر علماء السلوك الأمريكيون أن السلوك هو نتيجة التعلم بالمحاولة والخطأ. وكانت هذه السيرورة تعتبر عامة جدا إلى درجة أن الاختلافات بين الأنواع لم تكن ذات شأن في هذا المضمار: تعلم مطبق على جميع الحيوانات بما فيها الإنسان؛ وكما عبر عنها بصراحة قاسية <F .B.سكينّر> [مؤسس السلوكية(2)] «حمامة، فأر، قرد، لا يهم، أي منها يكون.»

مقابل ذلك ركزت مدرسة علم علاقة السلوك بالبيئة ethological school في أوروبا على السلوك الطبيعي، حيث يولد كل نوع من الحيوانات وهو مزود بعدد مما يسمى بأنماط الأداء الثابتة(3) التي تعتريها بعض التعديلات بفعل  البيئة. وتمثل هذه الأنماط المتخصصة للنوع تكيفات تطورية، وعلى ذلك فلا أحد يحتاج إلى تعليم البشر كيف يضحكون أو يبكون، فهذه إشارات فطرية (متأصلة) innate signals  مستخدمة ومفهومة من قبل كل إنسان. وبالمثل، فإن العنكبوت لا تحتاج إلى تعلّم كيف تكوّن نسيجها. فهي تولد مجهزة بمجموعة من المغازل (أنابيب غزل متصلة بغدد حرير) إضافة إلى برنامج سلوكي «يُعلّمها» كيف تنسج الخيوط مع بعضها.

 

ونظرا لبساطتهما، فإن وجهتي النظر الخاصتين بالسلوك لهما جاذبيتهما الكبيرة. ومع أنهما تقرّان بنظرية التطور، فقد كان ذلك في بعض الأحيان بشكل سطحي. وقد أكد السلوكيون behaviorists  على الاستمراريات بين البشر والحيوانات الأخرى، مُرجعين ذلك إلى التطور. ولكن بما أن السلوك بالنسبة إلى هؤلاء كان بالتعلم أكثر من كونه خلقيا (غريزيا)، فقد تجاهلوا الجانب الجيني، الذي هو في واقع الأمر يدور حوله التطور. ومع حقيقة أن التطور يقتضي الاستمرارية فهو أيضا يقتضي التنوع: فكل حيوان مكيف لطريقة معينة من الحياة في بيئة معينة. وكما يتضح مما عبّر عنه سكينّر، فقد تم تجاهل هذه النقطة بابتهاج.

 

وبالمثل، كان لبعض الباحثين في علم علاقة السلوك بالبيئة أفكار تطورية غير واضحة المعالم إلى حد ما، حيث أكدوا الانحدار التطوري بدلا من سيرورات الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي. وكانت نظرتهم لبعض الصفات السلوكية، مثل كبح العدوانية، أنها لصالح الأنواع. وكان دليلهم على ذلك هو أنه إذا قتلت الحيوانات بعضها بعضا فستنقرض الأنواع. وقد يكون ذلك صحيحا، إلا أن الحيوانات لديها أسباب أنانية بحتة لتجنب تصاعد القتال الذي يؤذيها ويضر بعلاقاتها. لذا فقد تم الآن الاستعاضة عن هذه الأفكار بنظريات عن كيف تتطور السلوكيات تبعا للفوائد التي تجنيها منها الحيوانات فرديا. ومكسب النوع ككل ليس سوى نتيجة لذلك.

 

لقد بدأ مذهب السلوكية يفقد سيطرته باكتشاف أن التعليم ليس واحدا في جميع الأحوال وفي كل الأنواع. فالجرذ مثلا، عادة ما يربط بين الأفعال والتأثيرات، فقط عندما يتتابع الاثنان مباشرة؛ وعلى ذلك سيكون تعلمه الضغط على قضيب بطيئا جدا إذا كانت المكافأة تلي ذلك ببضع دقائق. أما عندما يختص الأمر بالطعام الذي أمرض هذا الجرذ، فإنه يربط بين مرضه وما استهلكه من طعام، حتى وإن ظهرت أعراض المرض متأخرة عدة ساعات. ويبدو أن الحيوانات تكون متعلِّمة متخصصة في أحسن حالاتها في المواقف المهمة لبُقْياها.

 

وفي الوقت نفسه الذي كان فيه السلوكيون مضطرين إلى تبني المقدمات المنطقية للبيولوجيا التطورية والأخذ في الاعتبار العالَم خارج المختبر، كان الباحثون في علم علاقة السلوك بالبيئة يضعون الأساس للثورة الداروينية الجديدة في السبعينات من القرن الماضي، وكان الرائد هنا العالم في علاقة السلوك بالبيئة الهولندي <N. تينبرگين> الذي أجرى تجارب ميدانية مبدعة عن قيمة البُقْيا في سلوك الحيوان؛ فقد أدرك مثلا، لماذا يقوم كثير من الطيور بالتخلص من قشور بيضها من الأعشاش بعد فقس صغارها. فهذه القشور ملونة من الخارج للتمويه وليست كذلك من الداخل، ومن ثم فإن المفترسات كالغربان يمكنها تحديد مكان البيض إذا وضعت قشور البيض المكسورة بالقرب من هذا المكان. ويعتبر التخلص من هذه القشور استجابة تلقائية، لأن الطيور التي تمارس هذا السلوك يعيش لها عدد أكبر من الصغار.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H02_001978.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H02_001979.jpg
تأتي الخطورة من تطرف كلتا النظريتين: الحتمية البيولوجية للنازيين، والهندسة الاجتماعية للشيوعيين.

 

وقد وضع علماء آخرون نظريات لتفسير سلوك يبدو لأول وهلة أنه لا يساعد صاحبه وإنما يساعد فردا آخر. ويمكن ملاحظة هذا «الإيثار» altruism  لدى  عساكر النمل التي تضحي بحياتها دفاعا عن مستعمراتها، أو لدى الدلافين وهي ترفع إلى سطح الماء رفيقا يشرف على الغرق. وقد افترض البيولوجيون أن الانتقاء الطبيعي يسمح بالمساعدة بين الأقارب كوسيلة لتعزيز نفس الجينات، أو في حالة حيوانين لا تربطهما قرابة، فإن المساعدة التي يقدمها أحدهما إلى الآخر لا بد أن تُرد إليه في وقت لاحق.

 

لقد أحس الباحثون في علم علاقة السلوك بالبيئة بثقة كبيرة في تفسيراتهم للجماعات الحيوانية المتعاونة، لدرجة أنهم لم يستطيعوا مقاومة امتداد هذه الأفكار إلى الجنس البشري. وكانت نظرتهم إلى مشروع التعاون الضخم في المجتمع البشري على أساس نفس منظور القيم الأسرية والمقابل الاقتصادي.

 

وفي عام 1975 قام <A .E. ويلسون> [أحد خبراء النمل الأمريكيين] بنشر أخبار عن أن جزءا كبيرا من سلوك الإنسان متلائم مع منظور الداروينية وأن العلوم الاجتماعية يجب أن تتهيأ للعمل مع البيولوجيا في هذا المسعى، بدلا من سلوك طريقين منفصلين أحدهما بعيدا عن الآخر. فمن منظور علماء البيولوجيا ليس علم الاجتماع أكثر من دراسة سلوك الحيوان بالتركيز على نوع واحد، وهو النوع البشري. لكن هذه النظرة لا تروق لعلماء الاجتماع، ومن ثمّ فإن مقترحات العمل في إطار متحد لم تلق الترحيب من قبل هؤلاء، حتى أن أحد خصوم <ويلسون> الحانقين قام بصب الماء البارد على رأس ويلسون عقب إلقائه محاضرته. ولأسباب يأتي شرحها في السطور الآتية، فإن تركيبته التي أطلق عليها «البيولوجيا الاجتماعية» sociabiology تمت معادلتها بالسياسات  العرقية السابقة، وفي نهاية المطاف الإبادة الكاملة.

 

ومع أن النقد الموجه إلى ويلسون كان ظالما بوضوح (فقد كان «هذا» يقدم تفسيرات تطورية، وليس أفكارا سياسية)، فيجب ألا تعترينا الدهشة، لأن موضوع بيولوجية الإنسان يثير أحاسيس شديدة.

 

أعباء الماضي(***)

يُعتَقد بصفة عامة، أن بعض السلوك البشري يمكن تغييره بسهولة لأنه نتيجة تعلم، في حين يقاوم البعض الآخر التغيير لأنه جزء من ميراثنا البيولوجي.

 

لقد تمسكت الأيديولوجيات على اختلاف اتجاهاتها بهذا التمييز لتبرير كون بعض الخصائص البشرية فطرية (مثل الاختلافات العرقية المزعومة في الذكاء) وكون بعضها الآخر مكتسبا ومن ثمّ يمكن تغييره (مثل الآراء المقولبة حول الجنسين، الذكر والأنثى). وهكذا تأسست الشيوعية على الثقة الكبيرة في قابلية الإنسان للتطويع. ولأن الناس، على خلاف الحشرات الاجتماعية، يراعون بشكل عام مصالحهم الشخصية قبل مصالح مجتمعهم، فقد صاحبت بعض الأنظمة الحاكمة ثوراتها بجهود مكثفة لتلقين مبادئها. وقد ثبت أن كل هذا كان بلا جدوى. فقد انهارت الشيوعية، لأن تركيبة الحوافز الاقتصادية كانت منقطعة الاتصال بالطبيعة البشرية. ولسوء الحظ جرى هذا الانهيار بعد أن سبب بؤسا شديدا وهلاك الكثيرين.

 

وكانت كارثة أكبر أن تحتضن ألمانيا النازية البيولوجيا، فهنا أيضا وضعت مصلحة الشعب (das Volk) فوق مصلحة الفرد؛ ولكن، بدلا من الاعتماد على الهندسة الاجتماعية، جرى الاعتماد على المعالجة الجينية. فقد تم تصنيف الشعب إلى «طبقة عليا» متميزة قوية النفوذ وأخرى «دنيا»، تحتاج الأولى إلى الحماية من الاختلاط والتلوث بالأخيرة. وباللغة الطبية الرهيبة للنازيين، يتطلب وجود شعب معافى استئصال كل «العناصر السرطانية». وقد اتُّبِعت هذه الفكرة إلى أقصى حدّ لها بأسلوب جعل الحضارة الغربية تؤلي على نفسها ألا تنسى ذلك أبدا.

 

لا تظن أن أيديولوجية النخبة المختارة، كانت مقتصرة على هذه الفترة وهذا المكان بالذات. ففي الفترة المبكرة من القرن العشرين لاقت حركة تحسين النسل(4)ـ التي كانت تنشد تحسين البشرية عن طريق «التناسل من السلالات الأصلح» ـ قبولا واسع الانتشار من المفكرين في الولايات المتحدة وبريطانيا. وبناء على أفكار ترجع إلى جمهورية أفلاطون Plato’s Republic، كان تعقيم المجرمين والمعوّقين ذهنيا يعتبر مقبولا تماما، ومازالت الداروينية الاجتماعية SocialDarwinism ـ التي تنادي بفكرة الاقتصاد الرأسمالي وعدم التدخل الحكومي والتي يُخرِج القوي فيها الضعيفَ من المنافسة مما يؤدي إلى تحسين حال السكان بصفة عامة ـ تؤثر حاليا في البرامج السياسية. وتبعا لهذه النظرية يجب عدم مساعدة الفقراء في صراعهم للبُقْيا حتى لا يختلّ النظام الطبيعي.

 

وفي ظل هذه الأيديولوجية يمكن أن ندرك لماذا لا تعتبر الفئات المكبوتة من الشعب، كالأقليات والنساء، البيولوجيا صديقا لها. ومع ذلك، فسوف أدلل على أن الخطورة تأتي من كلا الاتجاهين، من الحتمية البيولوجية، ومن نقيضها؛ أي إنكار الاحتياجات البشرية والاعتقاد بأننا يمكن أن نكون كل شيء نريد أن نكونه. لقد سعت جاهدة كل من الجماعات الهيپية hippic  في الستينات، والكيبوتسات الاسرائيلية، والثورة النسائية من أجل المساواة، إلى تنظيم المجتمع كما لو أن الغيرة والرابطة بين الآباء والأبناء والاختلافات بين الجنسين غير موجودة. لكن هذه الأفكار هي شاذة لأنها لا تأخذ في الاعتبار الميول الطبيعية لدى البشر.

 

إن ما يجعل التاريخ المعاصر مختلفا هو أن الإبادة الجماعية لبعض الأعراق خلال الحرب العالمية الثانية تتلاشى في الذاكرة، في حين يتعاظم في الوقت نفسه الدليل على الارتباط بين الجينات والسلوك، كما تُبينه دراسة التوائم التي تمت تنشئتها منعزلة بعيدا عن بعضها. وتتحدث الصحف أسبوعيا عن جينة بشرية جديدة. وهناك أدلة عن جينات مسؤولة عن انفصام الشخصية، وأخرى عن الصرع وأَلْزايْمر، وحتى عن السمات السلوكية الشائعة، كالبحث عن الإثارة. كما أخذنا نعرف أكثر عن الاختلافات الجينية والعصبية بين الرجال والنساء، وبين المثليين والقويمين. وعلى سبيل المثال، هناك منطقة صغيرة من الدماغ لدى الرجال المتأنثين trans sexual (الذين يرتدون ويتصرفون كالنساء) تشبه المنطقة  نفسها في أدمغة النساء.

 

وتَكبر يوما بعد يوم قائمة التقدمات العلمية، مؤدية إلى كمية ضخمة من الأدلة التي يستحيل تجاهلها. ويمكن فهم معارضة الأكاديميين الذين أمضوا حياتهم في رفض الفكرة القائلة بأن البيولوجيا تؤثر في سلوك البشر، إلا أن هؤلاء الأكاديميين فوجئوا بالرأي العام، الذي يبدو أنه تقبل فكرة أن الجينات منغمسة تقريبا في كل ما نفعله ومن نكون. ويتزامن مع ذلك أن معارضة مقارنة البشر بالحيوانات قد تبددت بسبب السيل المتدفق من البرامج التلفزيونية عن الطبيعة التي أدخلت الحياة البرية المثيرة إلى منازلنا بإظهار الحيوانات في صورة أكثر ذكاء وأكثر إمتاعا مما اعتاد الناس اعتقاده.

 

وتوضح الدراسات حول الشمپانزي والبونوبو، كتلك التي أجريتُها و<J. گودال>، أن هناك ممارسات وقدرات بشرية لا حصر لها ـ تُلاحظ في السياسة وتربية الأطفال وفي العنف وحتى في الأخلاقيات ـ لها ما يماثلها في حياة أقرب أقاربنا من الحيوان. كيف لنا أن نستمر في الاعتقاد بثنائية الماضي ـ بين الإنسان والحيوانات، وبين الجسد والعقل ـ أمام هذه الأدلة إلى النقيض؟.

 

ومع ذلك، تستمر بعض الإيديولوجيات في استخدام البيولوجيا لدعم أطروحاتها. ولا يتوانى السياسيون عن رسم الطبيعة البشرية في ضوء ما يناسبهم. فبالنسبة إلى محافظين منهم، إن الإنسان أناني بطبيعته؛ أما بالنسبة إلى المتحررين (الليبراليين) liberals  فإن الإنسان قد تطور ليكون اجتماعيا ومتعاونا. ومن هذين الاستدلالين يتبين بوضوح خطأ التطبيق الساذج للحتمية الجينية.

 

الأفضل من كلا العالَمين(****)

إن الجينات وحدها، كالبذور التي تلقى على رصيف الشارع: ليست لها القدرة على إنتاج أي شيء. وعندما يقول العلماء عن صفةٍ ما إنها موروثة فهم إنما يعنون أن جزءا من متغيراتها يمكن تفسيره بعوامل جينية. ولكن غالبا ما يُنسى أن الجزء الآخر يمكن ردّه إلى الخبرات المكتسبة والبيئة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H02_001980.jpg

أقرب أقاربنا من الحيوانات ـ مثل أسرة البونوبو هذه ـ تشارك الإنسان في كثير من سلوكه. لقد أوضحت البرامج التلفزيونية عن الطبيعة لعامة الناس تأثير البيولوجيا في السلوك.

 

وكما ذكر عالم الرئيسيات primatologist السويسري <H. كومّر> قبل سنوات: إن محاولة تحديد كم من صفة ينتج من الجينات، وكم منها ينتج من البيئة هي محاولة عديمة الجدوى، مثل السؤال إن كان صوت الموسيقا الذي نسمعه من على بعد، من أداء الموسيقي أو من آلته. ومن جهة أخرى، عندما نسمع أصواتا مميزة في مناسبات مختلفة، فمن المنطقي أن نتساءل إن كان الاختلاف بينها بسبب الموسيقيين أو بسبب آلاتهم. وهذه هي فقط نوعية الأسئلة التي يمكن أن يطرحها العِلم عند النظر إلى دور الجينات مقابل التأثيرات البيئية والخبرات المكتسبة.

 

أتنبأ بنجاح العلماء في هذا القرن بتحديد الارتباطات بين الجينات والسلوك، وبتحقيق معرفة أكثر دقة عن كيفية عمل الدماغ، وبتبنٍ تدريجي لنموذج تطوري في العلوم الاجتماعية. وأخيرا سوف تزين صورة <تشارلز دارون> جدران أقسام علم النفس وعلم الاجتماع! إلا أننا نأمل أن يصاحب ذلك تقييم مستمر للمضامين الأخلاقية والسياسية لعلم السلوك.

 

وبشكل عام، يعمل العلماء وكأنه ليس من شأنهم كيف تستخدم المعلومات التي يقدمونها، وفي بعض الفترات أسهموا في الإفساد السياسي، وكان أحد الاستثناءات الجديرة بالذكر بلا شك <ألبرت آينشتاين> الذي يصلح أن يكون نموذجا لنوعية الوعي الأخلاقي المطلوب في العلوم السلوكية والاجتماعية. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئا فهو أنه من الأهمية بمكان أن نبقى متيقظين حيال إساءة التفسير والتبسيط. وليس هناك من هو في موقع أفضل من العلماء للتحذير من المخاطر ولتفسير التعقيدات.

 

قد يكون من الممكن توضيح إلى أي اتجاه سوف يتطور التفكير بإعطاء مثال حيث تلتقي الأنثروبولوجية الثقافية بالأنثروبولوجية التطورية. فقد افترض <سيگموند فرويد>، وكثير من علماء الأنثروبولوجيا التقليديين مثل <C. ليفيشتراوس>، أن تحريم الاتصال الجنسي بين المحارم من الأقارب incest tabooمن الناس يعمل على كبت الدوافع الجنسية بين أفراد الأسرة الواحدة. وقد اعتقد <فرويد> أن الإثارات الجنسية المبكرة للشباب تأخذ بلا اختلاف صفة سفاح الأقارب incestuous character، ومن هنا كان النظر إلى تحريم الاتصال الجنسي بين المحارم هو الانتصار النهائي للتطبع (للثقافة) على الطبع (الطبيعة).

 

وفي المقابل، افترض العالم الاجتماعي الفنلندي <E. ويستمارك>، الذي عاصر فرويد، أن الألفة المبكرة (بين الأم والابن، وبين الإخوة والأخوات ومحارم الأقارب) تقتل الرغبة الجنسية، ووجد أن الانجذاب الجنسي يكون ضعيفا أو منعدما بين الأفراد الذين شبوا وكبروا معا. وكمعتنِق للداروينية، اعتبر <ويستمارك> ذلك آلية متطورة صممت لمنع العواقب الوخيمة للتزاوج بين الأقارب.

 

وفي أوسع الدراسات نطاقا عن هذه القضية حتى الآن، قام <A. وولف> [عالم الأنثروبولوجيا بجامعة استانفورد] بحصر تواريخ الزيجات ل 400 14 امرأة في «تجربة طبيعية» أجريت في تايوان. فقد اعتادت الأسر في هذه المنطقة من العالم على تبني وتربية البنات ليكنّ زوجات لأبنائهن مستقبلا، بقصد تنشئة الزوجين معا منذ الطفولة. وقد قارن وولف بين هذه الزيجات والزيجات التي تمت بين رجال ونساء لم يلتق أطرافها قبل يوم الزفاف. وباستخدام معدلات الطلاق والخصوبة كمقاييس للسعادة الزوجية والنشاط الجنسي على التوالي، دعمت النتائج بشدة «تأثير ويستمارك»(5): إن تنشئة الزوجين معا منذ طفولتهما تُعرِّض للخطر حياتهما الزوجية مستقبلا. وتخضع الرئيسيات من غير البشر للآلية نفسها. فكثير من الرئيسيات تمنع زواج الأقارب عن طريق هجرة أحد الجنسين عند البلوغ، ويلتقي الجنس المهاجر بشريك جديد من غير الأقارب؛ في حين يكتسب الجنس المقيم تنوعا وراثيا من الخارج، إلا أن حميمي القرابة الذين يبقون معا يتحاشون بشكل عام الاتصال الجنسي فيما بينهم.

 

خلال الخمسينات من القرن الماضي لاحظ <K. توكودا> ذلك للمرة الأولى في مجموعة من قردة المكاك اليابانية في حديقة الحيوان بمدينة كيوتو؛ فقد استخدم ذكر شاب، بعد أن أصبح رئيس المجموعة، امتيازاته الجنسية مرارا وتزاوج بجميع الإناث عدا واحدة هي أمه. ولم تكن هذه حالة استثنائية، فالتزاوج بين الأم والابن ممنوع تماما لدى جميع الرئيسيات، حتى لدى جماعات البونوبو، وهي أنشط الرئيسيات جنسيا على الأرض، فإن هذا هو الجمع الوحيد بين شريكين الذي تندر أو تحظر فيه ممارسة الجنس. لقد أصبح تجنب تزاوج المحارم واضحا لدى كثير من الرئيسيات، ويعتقد أن آلية تحقيق ذلك هي التآلف المبكر.

 

يُعتبر «تأثير ويستمارك» مثالا على المقاربات الداروينية للسلوك البشري لأنه يستند بوضوح إلى الجمع بين الطبع والتطبع. فهو يبيّن بوضوح أن السلوك يتحدد بعدة عوامل متأصلة (تأثير الألفة المبكرة)، ومكتسبة (في بعض الثقافات يتم تربية أطفال لا تربطهم صلة قرابة معا، وفي البعض الآخر يعزلون الإخوة عن الأخوات، ولكن في أكثرها ثمة ترتيبات أسرية تؤدي تلقائيا إلى الحيلولة دون الاتصال الجنسي بين الأقارب)، وهناك أيضا سبب تطوري عميق (منع التزاوج بين الأقارب). ويأتي فوق كل ذلك التحريم الثقافي cultural tabooالذي ينفرد به الجنس البشري. والسؤال الذي يثير الفضول هو ما إذا كان تحريم الاتصال الجنسي بالمحارم هو مجرد العمل على إضفاء الصفة الرسمية على «تأثير ويستمارك» وتقويته أو أنه يضيف بالفعل بعدا جديدا؟

 

إن الثراء غير المتوقع لبرنامج بحثي متكامل يجمع بين المقاربات التطويرية والجينية والتطورية والثقافية لظاهرة محددة بعناية، يوضح قوة إزالة الحواجز القديمة بين فروع المعرفة المختلفة. ومن المتوقع أن ما سوف يحدث في الألفية الجديدة هو أن المقاربات التطورية للسلوك البشري ستصبح أكثر تعقيدا بعد أخذ المرونة الثقافية في الحسبان بشكل صريح. ومن هنا فإن استمرار المقاربة المعهودة (إما تعلما أو غريزة) سوف يحل محلها منظور أكثر تكاملا. وفي الوقت نفسه سيصبح الدارسون لسلوك الحيوان أكثر اهتماما بالتأثيرات البيئية في السلوك وبخاصة ـ في حيوانات مثل الرئيسيات والثدييات البحرية ـ احتمال النقل الثقافي للمعلومات والعادات؛ فمثلا: تستخدم بعض جماعات الشمپانزي الأحجار لكسر ثمار البندق في الغابة، في حين هناك جماعات أخرى تتوافر لديها الثمار والأحجار نفسها، ولكنها لا تفعل بها شيئا. واختلافات كهذه لا يمكن تفسيرها باختلافات جينية.

 

إن هذه التطويرات مجتمعة سوف تضعف من التقسيمات الثنائية الشائعة اليوم حتى يتم القضاء عليها. وبدلا من النظر إلى التطبع (الثقافة المكتسبة) كنقيض للطبع (الطبيعة)، فإننا نكتسب فهما أكثر عمقا للسلوك البشري بأن نُشيّع في هدوء المناظرات حول الطبع/ التطبع القديمة إلى مثواها الأخير.      

 

 المؤلف

http://oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H02_001981.jpg

Frans B. M. de Waal

تم تدريبه في موطنه الأصلي بهولندا كعالم حيوان وباحث في علم علاقة السلوك بالبيئة البيولوجية في العادات والتقاليد الأوروبية، يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1981، وهو حاليا مدير مركز الصلات الحية Living Links التابع للمركز الإقليمي لبحوث الرئيسيات في يركس بولاية أتلانتا، وهو أيضا أستاذ كرسي <H .C. كاندلر> لسلوك الرئيسيات في قسم علم النفس بجامعة إيموري. وتتضمن أبحاثه التفاعلات الاجتماعية لدى الرئيسيات وكذلك أصول الأخلاقيات والعدالة في المجتمع البشري.

 

مراجع للاستزادة 

SOCIOBIOLOGY. THE NEW SYNHFSIS. EDWARD O. WILSON. Belknap Press (Harvard University Press), 1975. 25th anniversary edition (in press) .

SEXUAL ATTRACTION AND CHILDHOOD ASSOCIATION: A CHINESE BRIEF FOR EDWARD WESTERMARCK. Arthur P. Wolf. Stanford University Press, 1995.

THE MISMEASURE OF MAN. Revised edition. Stephen Jay Gould. W. W. Norton, 1996.

GOOD NATURED: THE ORIGINS OF RIGHT AND WRONG IN HUMANS AND OTHER ANIMALS. Frans de Waal. Harvard University Press, 1997.

Scientific American, December 1999

 

 (*)INNÉ CONTRE ACQUIS: LA FIN DE L’OPPOSITION

(**)Apprentissage Contre Instinct

(***)Le Fardeau du Passé

(****)La Meilleur des Deux mondes

 

(1) socialogists

(2) behaviorism

(3) fixed action patterns

(4) Eugenics movement

(5)westemarck effect

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى