أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيولوجيا

قتامة الجلد البشري

قتامة الجلد البشري(*)

تطوَّر لون الجلد البشري عبر تاريخ البشرية ليكون داكنا بما

يكفي لمنع ضوء الشمس من تخريب مادة الفولات المغذية له،

وليكون فاتحا بما يكفي لتعزيز إنتاج الڤيتامين D.

<G.N.جابلونسكي> ـ <G.تشاپلن>

 

من بين الرئيسات يتفرد الإنسان بامتلاكه أوسع مساحة من الجلد العاري الذي يأخذ ألوانا مختلفة. ومنذ زمن بعيد أدرك الجغرافيون والمختصون في علم الإنسان anthropologists أن تفاوت لون الجلد بين الجماعات البشرية الأصليةindigenous ليس عشوائيا؛ فالشعوب الأكثر سمرة تعيش عموما قرب خط الاستواء، وأصحاب الجلد الأفتح يكونون أقرب إلى القطبين. ولقد سادت لسنوات طويلة نظرية مفادها أن قتامة الجلد إنما نشأت للحماية من سرطان الجلد. بيد أن سلسلة من الاكتشافات قادتنا لبناء إطار جديد يفسر الأسس التطورية للاختلافات في لون جلد الإنسان. وتشير الأدلة الوبائيةepidemiological  والفيزيولوجية الحديثة إلى أن النمط العالمي الانتشار للون الجلد البشري هو نتاج الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي، الذي يعمل على تنظيم تأثيرات الأشعة فوق البنفسجية (UV) في مغذيات أساسية وحاسمة لإنجاح التوالد.

 

من كثيف الشعر إلى عديم الشعر(**)

يرتبط تطور تصبّغ الجلد بانعدامية الشعر hairlessness. ولفهم هاتين السيرورتين، فإننا بحاجة إلى تصفح التاريخ البشري. فالجنس البشري ظل يتطور كسلالة مستقلة عن القردة منذ ما لا يقل عن سبعة ملايين عام، عندما تباعد أسلافنا المباشرون عن أقرب أقربائنا؛ أي الشمپانزي. وبالنظر إلى أن تغير الشمپانزي عبر الزمن كان أقل من تغير الإنسان، فإن بوسع هذه القردة أن تزودنا بفكرةٍ عما كانت عليه البنية التشريحية والخصائص الفيزيولوجية للإنسان. فجلد الشمپانزي لونه فاتح ويكسو الشعر معظم أجزائه. ولصغار الشمپانزي وجه ويدان وقدمان قرنفلية اللون، تصير نمشية أو داكنة عندما تتعرض مع الزمن لأشعة الشمس. وبالتأكيد، كان جلد البشر الأوائل ذا لون فاتح ومكسوا بالشعر. ويفترض أن فقدان الشعر حدث أولا، وتبعه تغير لون الجلد. بيد أن هذه المقولة تطرح السؤال التالي: متى فقد الإنسان شعره؟

 

تزودنا الهياكل العظمية للإنسان القديم ـ كالهيكل العظمي الشهير ل«لوسي» Lucy، الذي يعود إلى ما قبل 3.2 مليون عام تقريبا ـ بفكرة جيدة عن بنية أسلافنا ونمط حياتهم. فالنشاط اليومي ل«لوسي»، وأشباه الإنسان الآخرين الذين عاشوا قبل نحو ثلاثة ملايين عام، يبدو مشابها لما نصادفه لدى الرئيسات التي تعيش في ساڤانا(1) savanna إفريقيا اليوم. ويحتمل أن يكونوا قد اعتادوا على أن يمضوا سحابة يومهم يلتمسون الغذاء في دائرة قطرها ما بين ثلاثة وأربعة أميال، قبل أن يرجعوا إلى الأحراج الآمنة كي يخلدوا إلى النوم.

 

تطور لون الجلد/ نظرة إجمالية(***)

▪ بعد أن فقد أشباه الإنسان الأوائل شعرهم كتلاؤم للحفاظ على برودة معتدلة لأجسامهم، اكتسبوا جلدا متصبغا. في البداية اعتقد العلماء أن نشوء هذا التصبغ كان للحماية من الأشعة فوق البنفسجية (UV) المسببة لسرطانات الجلد.

▪ بيد أن سرطانات الجلد تنزع إلى النشوء بعد العمر الإنجابي. وتقترح نظرية بديلة أن الجلد القاتم ربما تطور في المقام الأول لحماية الفولات من التفكك. والفولات هي أحد المغذيات الأساسية للخصوبة ولتنامي الجنين.

▪ يعوق الجلد الشديد القتامة ضوء الشمس الضروري لتحفيز إنتاج الڤيتامين D، الأساسي لعظام الأم والجنين. ووفقا لذلك، تطور الإنسان على نحو يجعل جلده فاتحا بما يكفي لصنع كمية كافية من الڤيتامين D، وقاتما بما يكفي لحماية مخزون الجسم من الفولات.

▪ ونتيجة للهجرات البشرية الحديثة، تعيش حاليا كثرة من الناس في مناطق تتلقى من الأشعة فوق البنفسجية أكثر (أو أقل) مما يلائم لون جلدهم.

 

بيد أننا بدأنا نعثر على أدلة يعود تاريخها إلى ما قبل 1.6 مليون عام، تشير إلى أن نمط الحياة هذا أخذ يتغير تغيرا مثيرا. فالهيكل العظمي الشهير ل«غلام توركانا» Turkana Boy ـ الذي ينتمي إلى النوع هومو إرگاستر Homoergaster ـ يدل على كائن واسع الخطى، ذي قدمين وساقين طويلتين، ربما كان يمشي مسافات طويلة. ولقد واجه هذا الإنسان الأكثر نشاطا من سلفه مشكلة تلطيف حرارة جسمه وحماية دماغه من التعرض لفرط التسخين. ولقد بين <P.ويلر> [من جامعة <جون مورز> في ليڤربول بإنكلترا] أن هذه المشكلة تم حلها بزيادة عدد الغدد العرقية على سطح الجسم وبإنقاص الشعر الذي يغطيه. وما إن تم التخلص من معظم الشعر، حتى واجه الأفراد الأوائل للجنس هوموHomo  (البشر) التحدي المتمثل في حماية جلدهم من التأثيرات المؤذية لضوء الشمس، ولا سيما الأشعة فوق البنفسجية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N6-7_H03_00515.jpg

 

دارئات ذاتية لحماية الجسم من أشعة الشمس(****)

يحوي جلد الشمپانزي في الأجزاء العارية منه خلايا تعرف بالخلايا الملانيةmelanocytes، بوسعها تركيب صباغ بني قاتم هو الملانين، كاستجابة للتعرض إلى الأشعة فوق البنفسجية. وعندما صار جسم الإنسان عديم الشعر في معظمه، فإن قدرة الجلد على إنتاج الملانين اكتسبت أهمية جديدة. فالملانين هو وقاء الطبيعة من الشمس؛ إنه جزيء عضوي ضخم يؤدي غرضين اثنين: فهو أولا يستبعد، عن طريق الترشيح الفيزيائي والكيميائي، التأثيرات الضارة للأشعة فوق البنفسجية؛ فلا يمتص هذه الأشعة، فتفقد طاقتها. ومن جهة أخرى، يُحيّد neutralizes الملانين الكيميائيات الضارة المعروفة بالجذور الحرة freeradicals، التي تتشكل في الجلد إثْر الأذى الذي تسببه الأشعة فوق البنفسجية.

 

عموما، علل المختصون في علم الإنسان anthropologists والبيولوجيون نشوء التراكيز العالية من الملانين في جلد سكان المناطق المدارية بأنه يحميهم من سرطان الجلد. فعلى سبيل المثال، بيّن <E.J .كليڤر> [من جامعة كاليفورنيا في سان فرنسيسكو] أن مرضى جُفاف الجلد المصطبغ xeroderma pigmentosum (حيث تتخرب الخلايا الملانية بسبب التعرض للشمس) يعانون معدلات مرتفعة ارتفاعا ذا دلالة significant من الإصابة بسرطان الخلايا الحرشفية(2) وسرطان الخلايا القاعدية(3)، مقارنة بالأشخاص الأسوياء. وكلا النوعين من السرطان سهل المعالجة. ومع أن الملانومات (الأورام الملانية) melanoma الخبيثة تُميت بتواترات أعلى من أنواع السرطانات الأخرى، إلا أنها نادرة الحدوث؛ إذ تشكل  4 في المئة فقط من حالات سرطان الجلد. وغالبا ما تقتصر إصاباتها على أصحاب الجلد الفاتح اللون. وتظهر جميع سرطانات الجلد عادة في سنوات العمر المتأخرة نوعا ما، وفي معظم الحالات بعد السنوات الأولى من سن الإنجاب. لذا، فإنه من غير المرجح أن تكون هذه الأنماط السرطانية بمفردها هي التي مارست ما يكفي من الضغط التطوري لحماية الجلد وتفسير ألوانه القاتمة. وبناء على ذلك، شرعنا في التساؤل عن دور الملانين في التطور البشري.

 

صلة الفولات(*****)

في عام 1991، عثر أحدنا (جابلونسكي) مصادفة على بحث نشره <F.R.براندا> [حاليا في جامعة ڤيرمونت] عام 1978 و<W.J.إيتون> [حاليا في جامعة لويزڤيل]. وتبين أن هذا البحث كان حاسما. فلقد أوضح الباحثان أن لدى الأشخاص ذوي الجلد الفاتح، الذين كانوا قد تعرضوا إلى ما يحاكي ضوء شمس قوي، مستويات منخفضة على نحو غير عادي من فولات الڤيتامين Bالأساسي في الدم. كما لاحظ العالمان أن تعريض مصل دم الإنسان للظروف نفسها مدة ساعة واحدة، أدى إلى فقدان 50 في المئة من محتواه من الفولات.

 

لقد اتضحت أهمية هذه النتائج في ما يتعلق بالتوالد (ومن ثم بالتطور)، عندما علمنا بأبحاث تُجرى على طائفة كبيرة من العيوب الولادية، قام بها زملاؤنا في جامعة وسترن أستراليا. ففي أواخر الثمانينات خلصت كل من <J.F.ستانلي> و <C.باور> إلى أن عوز الفولات لدى الحوامل له علاقة بارتفاع مخاطر الإصابة بعيوب الأنبوب العصبي، مثل السِّنْسِنَة المَشْقوقة (الشوك المشقوق) spina bifida، حيث تخفق أقواس الفقرات في الانغلاق حول النخاع الشوكي. ومنذ ذلك الحين، أكدت كثرة من الباحثين من أصقاع العالم كافة هذه العلاقة، وبُذلت جهود كبيرة لإضافة الفولات إلى الطعام ولتثقيف النساء بأهمية هذا النوع من المغذيات.

 

وإثر ذلك مباشرة، اكتشفنا أن الفولات مهمة، ليس فقط من أجل منع حدوث عيوب الأنبوب العصبي، بل أيضا من أجل طيف آخر من السيرورات الحيوية. فبالنظر إلى أن الفولات أساسية لتركيب الدنا DNA في الخلايا الآخذة بالانقسام، فأي سيرورة حيوية تنطوي على تكاثر خلوي سريع (كالإنطاف(4)) تتطلب وجود الفولات. فذكور الجرذان والفئران، التي تم فيها إحداث عوز الفولات كيميائيا، تكون معطلة الإنطاف ومن ثم عقيمة. ومع أنه لم تجر دراسات مشابهة على الإنسان، فقد أعلن مؤخرا <Y.W.وُنگ> وزملاؤه [من المركز الطبي لجامعة نيميگن في هولندا] أن المعالجة بحمض الفوليك تزيد من تعداد النُّطَف في الرجال الذين لديهم مشكلات في الخصوبة.

 

حَمَلتنا مثل هذه الملاحظات على الافتراض أن الجلد الداكن تطور كي يحمي مخزونات الفولات في الجسم من التخرب. وقد دعم فرضيتنا هذه تقرير نشره عام 1994 طبيب الأطفال الأرجنتيني <P.لاپونزينا>، الذي وجد أن ثلاث شابات سليمات البنية ممن ترددن عليه، أنجبن أطفالا لديهم عيوب في الأنبوب العصبي، بعد أن كن قد عرَّضن أجسامهن لحمامات شمسية لاكتساب لون برونزي في الأسابيع الأولى من الحمل. وهكذا، فإن الدليل الذي قدمناه على تفكك الفولات بفعل الأشعة فوق البنفسجية، يدعم ما هو معروف فعلا عن تأثيرات الأشعة فوق البنفسجية المؤذية «للدنا» والمسببة لسرطان الجلد.

 

الجلد والشمس(******)

تعد أشعة الشمس فوق البنفسجية (UV) مزيجا من النعم والنقم؛ فهي تستثير إنتاج الڤيتامين D، ولكنها من جهة أخرى تخرب الفولات، وبوسعها إحداث سرطانات الجلد، وذلك بإلحاق الأذى بالدنا DNA. ويحمي صباغ الملانين، الذي تنتجه الخلايا الملانية، الدنا من التأذي والفولات من التفكك. ولكن لا بد للخلايا الكيراتينية keratinocytes أن تتلقى ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية لتصنيع الڤيتامين D.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N6-7_H03_00516.jpg

 

تطور جلد الإنسان(*******)

لقد تطور أول أفراد الإنسان العاقل Homo sapiens، أو الإنسان الحديث، في إفريقيا ما بين 000 120و 000 100عام مضت. وكان لجلده لون داكن، متلائم مع ظروف الأشعة فوق البنفسجية والحرارة التي تسود المنطقة الاستوائية. ولكن ما إن تجرأ الإنسان الحالي على الابتعاد عن تلك المنطقة، حتى واجه بيئات فيها نقص ملحوظ في الأشعة فوق البنفسجية خلال العام. وفي ظل هذه الظروف، ربما صارت كثافة الدارئات الشمسية الطبيعية ضارة. فالجلد القاتم الذي يحتوي الكثير من الملانين لا يسمح بالنفوذ عبر الجلد إلا لكمية ضئيلة جدا من الأشعة فوق البنفسجية، وبخاصة النمط B منها (UVB) الأقصر موجة. ومع أن معظم تأثيرات النمط B مؤذٍ، فهذه الأشعة تؤدي وظيفة لا غنى عنها: إنها تستهل تفاعلات تصنيع الڤيتامين D في الجلد. فالناس ذوو الجلد القاتم، الذين يقطنون المناطق المدارية، يتلقون خلال العام ما يكفيهم من الأشعة فوق البنفسجية، بحيث تنفذ موجات النمط B من هذه الأشعة إلى الجلد وتتيح تصنيع الڤيتامين D. أما خارج المناطق المدارية فالأمر مختلف. وتَمثَّل الحل بالنسبة إلى المهاجرين باتجاه خطوط العرض شمالا، في فقدان صباغ الجلد خلال زمن التطور.

 

في عام 1967، درس <F.W.لوميس> [من جامعة براندايس] الصلة بين تطور الجلد المتصبغ بلون فاتح وتكوين (تخليق) الڤيتامين D دراسة مفصلة، وأثبت أهمية هذا الڤيتامين في إنجاح التوالد، بسبب دوره في تمكين المعى من امتصاص الكالسيوم، وهذا يؤدي إلى تنام سَوِي للهيكل العظمي وإلى الحفاظ على جهاز مناعي صحيح. كما أن الأبحاث التي قادها <M.هوليك> [من كلية طب جامعة بوسطن] خلال السنوات العشرين الفائتة، عززت أكثر فأكثر أهمية الڤيتامين D في إحداث التنامي والمناعة. وبيَّن فريقه أيضا عدم احتواء ضوء الشمس دائما على ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية من النمط B لتنبيه إنتاج الڤيتامين D؛ إذ يتفاوت هذا المحتوى زمانا ومكانا. ففي بوسطن مثلا، التي تقع على خط العرض 42 شمالا، تبدأ خلايا الجلد بإنتاج الڤيتامين D  فقط بعد أواسط الشهر 33. أما في أثناء الشتاء فلا يتوافر ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية من النمط B للقيام بذلك. ولقد أدركنا عندئذ أن هذه المعلومات تشكل  بَيِّنة أخرى أساسية لفهم قصة تلون الجلد.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N6-7_H03_00517.jpg

 

وفي أثناء إجرائنا أبحاثنا في مطلع التسعينات، حاولنا عبثا العثور على مصادر للمعلومات عن مستويات الأشعة فوق البنفسجية B على سطح الأرض. ونجح مسعانا عام 1996 عندما اتصلنا ب<E.وذرهيد> [من المعهد التعاوني لأبحاث العلوم البيئية، التابع لجامعة كولورادو في بولدر]. لقد تقاسمنا معا قاعدة بيانات لقياسات الأشعة فوق البنفسجية B على سطح الأرض، قامت بها وكالة الفضاء الأمريكية NASA  بوساطة ساتل المقياس الضوئي الطيفي لرسم خريطة الأوزون الكلي Total Ozone Mapping Spectrophotometer Satellite. عندئذ صار بمقدورنا أن نضع نموذجا لتوزع الأشعة فوق البنفسجية على سطح الأرض، وأن نربط بيانات الساتل بكمية الأشعة فوق البنفسجية B الضرورية لإنتاج الڤيتامين D.

 

لقد وجدنا أنه بالإمكان تقسيم سطح الأرض إلى ثلاث مناطق لتوزع الڤيتامين D: الأولى تشمل المناطق المدارية، والثانية تشمل المناطق شبه المدارية والمعتدلة، والثالثة تشمل المنطقتين حول القطبيتين شمال خط العرض 45 وجنوبه. في المنطقة الأولى، تكون جرعة الأشعة فوق البنفسجية B طوال العام عالية بما يكفي، بحيث تتاح للإنسان فرصة كبيرة لتصنيع الڤيتامين D في جميع أيام السنة. أما في المنطقة الثانية فإن كمية الأشعة فوق البنفسجية B في شهر واحد على الأقل من العام تكون غير كافية لتصنيع هذا الڤيتامين. وأما في المنطقة الثالثة، فإن كمية هذه الأشعة لا تصل ـ طوال العام في المتوسط ـ بما يكفي لتحريض تصنيع الڤيتامين D. إن هذا التوزع يمكن أن يفسر لماذا يكون جلد سكان المناطق المدارية الأصليين قاتما عموما، في حين أن جلد سكان المناطق شبه المدارية والمعتدلة أفتح لونا وقابل للسفع(5)، وأن جلد سكان المناطق القريبة من القطبين يميل إلى اللون الفاتح جدا ويسفع بسهولة.

 

الجلد والهجرة(********)

لقد تلاءم جلد الشعوب، التي قطنت مناطق معينة آلاف الأعوام، بشكل يسمح بإنتاج الڤيتامين D ويحمي، في الوقت نفسه، مخزون الجسم من الفولات. وتحتاج درجة تلون جلد المهاجرين الجدد إلى آلاف الأعوام كي تتلاءم مع هذه الأجواء الجديدة، الأمر الذي يعرض الأفراد ذوي الجلد الفاتح لخطر الإصابة بسرطانات الجلد، ويعرض ذوي الجلد القاتم لخطر عوز الڤيتامين D.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N6-7_H03_00518.jpg

 

وتتمثل أكثر مظاهر هذا البحث أهمية بتفحص المجموعات التي لم تتوافق بدقة مع طرز لون الجلد التي تم التنبؤ بها. وكمثال على ذلك، شعب الإنويتInuit في آلاسكا وشمال كندا؛ فلون جلد الإنويتيين يكون إلى حد ما أشد قتامة مما يمكن التنبؤ به من مستويات الأشعة فوق البنفسجية في خط العرض الذي يعيشون فيه. وقد يرجع سبب ذلك إلى عاملين: الأول، أنهم سكنوا هذه المنطقة منذ زمن قريب نسبيا، فقد هاجروا إلى أمريكا الشمالية قبل 5000 عام تقريبا. والآخر، أن القوت التقليدي للإنويت غني جدا بالڤيتامين D، وبخاصة الأسماك والثدييات البحرية. وهذا القوت الغني بالڤيتامين D يمثل حلا ملائما للمعضلة التي كان يمكن أن يواجهها الإنويتيون في ما يتعلق بتصنيع الڤيتامين D في جلدهم، الذي يظل ـ بسبب هذا القوت ـ أشد قتامة، حتى في تلك المناطق الشمالية.

 

وأتاح لنا تحليلنا لإمكانات تصنيع الڤيتامين D فَهْم خلة أخرى ذات صلة بلون الجلد البشري؛ فالنساء عموما، وفي الجماعات البشرية كافة، يتمتعن بجلد لونه أفتح من لون جلد الرجال. وتشير البيانات المتوافرة لدينا إلى أن جلد النساء أفتح لونا من جلد الرجال بما يتراوح بين 3 و 4 في المئة. ولطالما فكّر العلماء في أسباب هذا التفاوت، وحاجّ معظمهم على أن الظاهرة ترجع في جذورها إلى الانتقاء الجنسي؛ إذ يفضل الرجال النساء ذوات الجلد الأفتح. ونحن نأخذ بهذا الرأي مع أنه جزء من الحقيقة ولا يفسر السبب الأصلي للفرق بين الجنسين. فحاجة النساء إلى الكالسيوم طوال حياتهن الإنجابية ـ وبخاصة في أثناء الحمل والإرضاع ـ تفوق على نحو واسع حاجة الرجال، ويجب عليهن الاستفادة إلى أكبر قدر ممكن من كالسيوم الطعام. ولذا، فنحن نقترح أن النساء يرغبن في التمتع بجلد أفتح لونا من جلد الرجال، بحيث يتسنى لزيادة يسيرة من الأشعة فوق البنفسجية B  النفوذ إلى جلودهن، فتزداد بذلك مقدرتهن على إنتاج الڤيتامين D. وبالفعل، فإن النساء في مناطق العالم، التي تتلقى كميات كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية، عليهن الموازنة بدقة بين اختيارين للانتقاء الطبيعي؛ فهن بحاجة إلى زيادة وظيفة الوقاية الضوئية لجلودهن إلى الحد الأعلى من جهة، وإلى زيادة قدراتهن إلى أعلى مستوى ممكن على تصنيع الڤيتامين D من جهة أخرى.

 

من يصنع ما يكفي من الڤيتامين D؟(*********)

تتلقى الجماعات السكانية، التي تعيش في المناطق المدارية، من الشمس ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية (UV) (الخريطة العلوية، البني والبرتقالي) لتصنيع الڤيتامين D  طوال العام،  على العكس من أولئك الذين يعيشون في خطوط العرض الشمالية والجنوبية. أما في المناطق المعتدلة (المظللة تظليلا فاتحا)، فإن الناس لا يتلقون، في خلال شهر واحد فقط من العام، ما يكفي لصنع الڤيتامين D. وأما أولئك الذين هم أقرب إلى القطبين (المنطقة المظللة تظليلا قاتما)، فلا يتلقون في معظم شهور العام ما يكفي لصنع هذا الڤيتامين. وتوضح الخريطة السفلية ألوان الجلد البشري، التي يمكن التنبؤ بها بناء على مستويات الأشعة فوق البنفسجية. وتتقابل ألوان الجلد كثيرا لسكان العالم القديم الأصليين مع الطرز التي تم التنبؤ بها. أما في العالم الجديد، فإن لون جلد السكان الذين أقاموا لمدة طويلة، يكون عموما أفتح مما يتوقع ـ ولعل ذلك يرجع إلى حداثة الهجرة، وإلى عوامل أخرى، كالغذاء.
http://oloommagazine.com/images/Articles/19/SCI2003b19N6-7_H03_00519.jpg

حيث تتلاقى الحضارة والبيولوجيا(**********)

مع ترحال الإنسان المعاصر عبر العالم القديم قبل نحو مئة ألف عام، تلاءمت جلود جماعاته مع الظروف البيئية التي سادت في كل منطقة من المناطق المختلفة. وكان أمام لون جلد سكان المناطق الإفريقية الأصليين الفترة الزمنية الأطول للتلاؤم، ذلك أن الإنسان الحديث (من الوجهة التشريحية) نشأ في تلك المناطق. ويمكن، إلى حد ما، إعادة رسم مخطط تغيرات لون الجلد، التي خضع لها الإنسان المعاصر وهو يرتحل من قارة إلى أخرى ـ أولا إلى آسيا، ثم إلى أستراليا-ميلانيزيا، ثم إلى أوروبا، وأخيرا إلى الأمريكتين. بيد أنه من المهم أن نتذكر أنه كان لهؤلاء البشر ثياب يرتدونها ومآوٍ تحميهم من عوامل البيئة. كما أنهم تمتعوا ـ في بعض الأمكنة ـ بالقدرة على جني أطعمة غنية جدا بالڤيتامينD، كما هي الحال لدى شعب الإنويت. وكان لهذين العاملين ـ الكساء والغذاء ـ تأثيرات بالغة في درجة تطور لون الجلد في الجماعات البشرية وفي سرعة هذا التطور.

 

إن إفريقيا قارة غير متجانسة بيئيا. وقد يمم عدد من الهجرات الأولى للإنسان المعاصر وجهه خارج إفريقيا الاستوائية شطر إفريقيا الجنوبية. ولايزال بعض المتحدرين من هؤلاء المستعمرين الأوائل ـ ويعرفون باسم الخُويْزان Khoisan (وعرفوا سابقا باسم الهوتنتوتس Hottentots) ـ يقطن حتى الآن في إفريقيا الجنوبية، وجلدهم لونه أفتح على نحو واضح من جلد السكان الأصليين لإفريقيا الاستوائية. ويمثل هذا تلاؤما واضحا للمستويات الأقل من الأشعة فوق البنفسجية التي تسود الأطراف الجنوبية للقارة الإفريقية.

 

ولكن من المهم أن نشير إلى أن لون الجلد البشري في إفريقيا الجنوبية ليس واحدا. فالجماعات التي تتكلم لغة البانتو Bantu، وتعيش حاليا في إفريقيا الجنوبية، تتمتع بجلد أكثر قتامة بكثير من جلد «الخُويْزان». ونحن نعلم من تاريخ هذه المنطقة أن متكلمي لغة البانتو هاجروا حديثا إليها ـ ربما قبل ألف عام ـ من أجزاء من إفريقيا الغربية قرب خط الاستواء. ويدل اختلاف لون الجلد بين «الخُويْزان» وأقوام لغة البانتو، مثل الزولو Zulu، على أن المدة الزمنية التي تمضيها مجموعة من الأفراد في منطقة معينة، مهمةٌ لفهم أسباب اكتسابها لون الجلد الخاص بها.

 

ويحتمل أن يكون السلوك الحضاري قد أثر أيضا بشدة في تطور لون الجلد في خلال التاريخ البشري المعاصر. ويمكن ملاحظة هذا التأثير لدى السكان الأصليين الذين يقطنون الضفتين الشرقية والغربية للبحر الأحمر؛ إذ يُعْتقد أن قبائل الجانب الغربي، الذين يتكلمون ما يعرف باللغات الحامية-النيلية Nilo -Hamitic، قطنوا هذه المنطقة مدة تصل إلى 6000 عام. ويتميز هؤلاء الأفراد بجلد شديد التصبغ وأجسام طويلة ونحيلة وأطراف طويلة. وتمثل هذه الخصائص تلاؤما بيولوجيا ممتازا لتبديد الحرارة والأشعة فوق البنفسجية الشديدتين. وبالمقابل، فإن المجموعات الزراعية والرعوية الحديثة على الضفة الشرقية للبحر الأحمر وفي شبه الجزيرة العربية، قطنت هذه المناطق منذ 2000 عام فقط. إن هؤلاء العرب الأوائل، وهم من أصل أوروبي، تلاءموا مع ظروف بيئية شديدة التماثل (لتلك التي تسود الضفة الغربية للبحر الأحمر)، بوسائل كانت كلها حضارية حصرا؛ فقد ارتدوا ملابس ثقيلة واقية، وابتكروا أمكنة ظليلة محمولة على شكل خيام. ولولا هذه الملابس لكان المتوقع أن يأخذ الجلد لونا قاتما. ويمكن القول عموما، إنه بقدر ما تكون الهجرة إلى منطقة ما حديثة، بقدر ما يسود التأثير الحضاري في ما يتعلق بالتلاؤم مع ظروف تلك المنطقة، مقارنا بالتأثير البيولوجي.

 

أخطار الهجرات الحديثة(***********)

على الرغم من التحسينات الكبيرة ـ التي طرأت في القرن الماضي على مجمل الحالة الصحية للإنسان ـ فإن بعض الأمراض ظهرت، أو عادت إلى الظهور في جماعات من البشر لم تتأثر بها في الماضي إلا قليلا. ويُعد سرطان الجلد أحد هذه الأمراض (وبخاصة سرطان الخلايا القاعدية وسرطان الخلايا الحرشفية) لدى الأفراد من ذوي الجلد الفاتح. وقد ظهر مرض آخر هو الرَّخَد rickets، الذي ينشأ بسبب العوز الشديد للڤيتامين D لدى الأشخاص من ذوي الجلد القاتم. فلماذا نشهد هذه الحالات؟

 

مع هجرة الناس من منطقة ذات نمط معين من الأشعة فوق البنفسجية إلى منطقة أخرى، فإن التلاؤمين البيولوجي والحضاري لم يتمكنا من مجاراة الظروف الجديدة. فالناس ذوو الجلد الفاتح من الأصول الأوروبية الشمالية، الذين يمارسون الاسترخاء ساعات طويلة تحت شمس فلوريدا وأستراليا الشمالية، يدفعون على نحو متزايد ضريبة هذه الممارسة على شكل شيخوخة الجلد المبكرة والإصابة بسرطانات الجلد. هذا، إضافة إلى الكُلفة غير المعروفة بالأرواح البشرية نتيجة استنزاف الفولات. وعلى العكس من ذلك، فإن عددا من أصحاب الجلد القاتم، الذين يعودون في أصولهم إلى جنوب آسيا وإفريقيا، ويقطنون حاليا في المملكة المتحدة أو شمال أوروبا أو المنطقة الشمالية الشرقية للولايات المتحدة، يعانون نقص أو غياب الأشعة فوق البنفسجية والڤيتامين D، ومن مشكلات صحية غادرة تتبدى في إحداث نسبة عالية من مرض الرخد وأمراض أخرى ذات صلة بعوز هذا الڤيتامين.

 

إن قدرة لون الجلد على التلاؤم، خلال مدة طويلة من الزمن، مع البيئات المختلفة التي كان الإنسان قد هاجر إليها، تعكس أهمية لون الجلد لبُقْيا الإنسان. بيد أن الطبيعة غير المستقرة للون الجلد تجعل منه أقل الصفات نفعا في تحديد الأواصر التطورية بين المجموعات البشرية. لقد استعمل العلماء الغربيون الأوائل لون الجلد استعمالا خاطئا لرسم الخطوط الكبرى للأعراق البشرية، بيد أن جمال العلم يتمثل بمقدرته على تصحيح مساره، وبقيامه بإحداث هذا التصحيح. وتدل معارفنا الحالية عن تطور جلد الإنسان على أنه يمكن تفسير اختلاف لون الجلد بالتلاؤم مع البيئة خلال الانتقاء الطبيعي، شأنه في ذلك شأن معظم الخواص الجسدية. وإننا نتطلع إلى اليوم، الذي ستُمحى فيه آثار الأخطاء العلمية القديمة، ليحل مكانها فهم أفضل لأصول الإنسان وتنوعه. وعلينا أن نمجد الاختلاف في لون الجلد البشري كواحد من أبرز المظاهر المرئية لتطورنا كنوع بيولوجي.

 

المؤلفان

Nina G. Jablonski – George Chaplin

يعملان معا في أكاديمية كاليفورنيا للعلوم في سان فرانسيسكو، حيث تشغل جابلونسكي كرسي <إرڤين> للأستاذية ومنصب أمين متحف علم الإنسان (الأنثروبولوجيا). وتتركز أبحاثها على التلاؤمات التطورية للسعادين والقردة العليا والإنسان. وتهتم على وجه الخصوص بالكيفية التي استجابت وفقا لها الرئيسات لتغيرات البيئة العالمية عبر الزمن. وأما تشاپلن فهو باحث مشارك في قسم علم الإنسان ومستشار في نظم المعلومات الجغرافية، تخصص في وصف الاتجاهات الجغرافية للتنوع الحيوي وتحليلها. ونال في عام 2001 جائزة «طالب العام»، التي تمنحها «جمعية المعلومات الجغرافية» في لندن، تقديرا لأطروحته المقدمة للحصول على الماجستير حول الترابطات البيئية للون الجلد.

 

مراجع للاستزادة 

The Evolution of Human Skin Coloration. Nina G. Jablonski and George Chaplin in Journal of Human Evolution, Vol. 39, No. 1, pages 57-306; July 1, 2000. An abstract of the article is available online at

 www.idealibrary.com/links/doi/10.1006/jhev.2000.0403

Why Skin Comes in Colors. Blake Edgar in California Wild, Vol. 53, No. l, pages 6-7; Winter 2000. The article is

 also available at www.calacademy.org/calwlid/winter2000/html/horizons.html

The Biology of Skin Color: Black and White. Gina Kirchweger in Discover, Vol. 22, No. 2, pages 32-33; February 2001. The article is also available at www.discover. com/feb 01/featbiology.html

Scientific American, October 2002

(*) SKIN DEEP

(**) From Hirsute to Hairless

(***) Overview/ Skin Color Evolution

(****) Built-in Sunscreen

(******) The Folate Connection

(******) Skin in the Sun

(*******) Human Skin on the Move

(********) Skin and Migration

 (*********) Who Makes Enough Vitamin D?

(**********) Where Culture and Biology Meet

(***********) Perils of Recent Migrations

 

(1) الساڤانا: مجتمع أحيائي رئيسي يقع في المناطق المدارية وشبه المدارية تسوده نباتات جفافية من حشائش طويلة وأشجار وشجيرات متناثرة. (التحرير)

(basal cell (2

(3) squamous cell carcinoma

(4) spermatogenesis: تكوين الخلايا النُّطْفِية.

(5) السفع: اسمرار الجسم بالتعرض لأشعة الشمس. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى