طغيان الاختيار
طغيان الاختيار(*)
يقول المنطق إن توافر البدائل يتيح للناس فرصة الاختيار الدقيق لما
يسعدهم. لكن الدراسات تظهر أن كثرة الخيارات غالبا ما تجلب التعاسة.
<B .شوارتز>
لدى الأمريكيين اليوم مجال أرحب مما كان متاحًا لهم لممارسة اختياراتهم في العديد من مجالات الحياة. وفرصة الاختيار تتعزز إلى درجة بعيدة في حياتنا. ومن المنطقي الاعتقاد بأن توافر فرص أكثر للاختيار أفضل لنا. وهذا يجري في صالح المهتمين بالحصول على عدد غير محدود من البدائل للاختيار، وبالنسبة إلى غير المهتمين يمكنهم دائمًا الاكتفاء بتجاهل أن هناك 273 نوعًا من الحبوب التي لم يجربوها من قبل. ومع ذلك، تشير الأبحاث الأخيرة إلى خطأ هذا الافتراض من الناحية السيكولوجية. ومع أن توافر فرص للاختيار أفضل من عدم توافرها، فإن تعدد هذه الفرص ليس الأفضل دائمًا.
إن هذه البينة تتفق والاتجاهات الاجتماعية الواسعة. فالتقديرات المتوافرة لدى مختلف علماء الاجتماع عن حالة الرفاه ـ ومن هؤلاء <D .G. مايرز> [في هوپ كوليج]، و <R .E. لين> [في جامعة ييل] ـ تشير إلى أن المزيد من الخيارات المتوافرة والمزيد من الوفرة قد تَرَافقا عمليًا مع تراجع الرفاه داخل الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من المجتمعات الغنية. ومع تضاعف الناتج الإجمالي المحلي خلال السنوات الثلاثين الماضية فقد هبطت نسبة السكان الذين يصفون أنفسهم بأنهم «سعداء جدًا» بمعدل 5 في المئة، أو بمقدار 14 مليون إنسان. إضافة إلى ذلك، يتزايد عدد المصابين بالاكتئاب أكثر من ذي قبل. ولا شك في أن أحدًا لا يرى أن عاملا وحيدًا بعينه يمكنه تفسير التراجع في حالة الرفاه، إلا أن عدة اكتشافات تشير إلى أن الانفجار الواسع في مجال الاختيار يؤدي دورًا مهمًا في هذا التراجع.
هكذا، يبدو الأمر وكأنه كلما ازداد المجتمع ثراء، وتوافرت للناس بدائل أكثر ليختاروا ما يحلو لهم منها، فإن سعادتهم تتراجع. والسؤال هو: في زمن يشهد تناميًا أكبر لاستقلالية الأفراد وحرية اختياراتهم الشخصية وسيطرتهم، ما الذي يفسر هذا المستوى المتقدم من الشعور بالبؤس؟
قمت مؤخرًا وبعض زملائي بدراسة من شأنها إلقاء الضوء على أسباب التعاسة التي ينتهي إليها الكثيرون، بدلا من السعادة، مع تنامي حرية الاختيار لديهم. بدأنا الدراسة بالتمييز بين نمط الأشخاص «المغالين»maximizers (أي الذين يتطلعون دائمًا إلى أفضل الخيارات) وبين «القنوعين»satisficers (أي الذين يرضون «بحد الكفاية»، بصرف النظر عن توافر، أو عدم توافر، بدائل أفضل). وقد أخذنا تعبير «قنوعين» عن عالم النفس والاقتصادي الراحل <H .A. سيمون> الحائز جائزة نوبل، والذي كان أستاذًا في جامعة كارنيگي ميلون.
وبشكل خاص، قمنا بوضع مجموعة من العبارات ـ درجات المغالاة ـ لتشخيص ميل الناس إلى تصنيف أنفسهم حسب المعايير من 1 إلى 7 (من القول: «غير موافق مطلقًا» إلى «موافق تمامًا»)، وذلك على إفادات مثل «لم أستقر على خيار ثان أفضل). كذلك قمنا بتقييم فهم هؤلاء الأشخاص لرضاهم عن قراراتهم الشخصية.
لم نقم برسم حدود فاصلة بين فئتي المغالين والقنوعين، ولو أننا أخذنا في اعتبارنا بصفة عامة المغالين الذين تتجاوز النتائج التي سجلوها 4 نقاط (نقطة منتصف سُلَّم الدرجات)، والقنوعين الذين لم تبلغ نتائجهم هذه النقطة على سُلم الدرجات. وكان الذين سجلوا أعلى الأرقام في التجربة ـ أي الأشد غلوًا في الاختيار ـ داخلين في «مقارنات إنتاجية»(1) أكثر من أصحاب المعدلات المنخفضة، سواء قبل اتخاذهم قرارات الشراء أو بعد ذلك، كما أنهم كانوا يستغرقون زمنًا أطول لكي يتخذوا قراراتهم بخصوص مشترياتهم. كان الأشخاص القنوعون يكفّون عن البحث عندما يعثرون على السلعة التي تلبي حاجتهم. أما المغالون فيبذلون جهدًا كبيرًا في قراءة اللاصقات التعريفية ومراجعة مجلات المستهلك وتجريب المنتجات الجديدة. كذلك، فإنهم يقضون وقتًا أطول لإجراء مقارنات بين قراراتهم الشرائية وبين قرارات الآخرين.
من الطبيعي أن لا أحد يستطيع أن يكون واثقًا تمامًا من كل اختيار، لكن المغالين في الاختيار يسعون إلى بلوغ هذا الهدف. لهذا فإن اتخاذ قرار ما يزداد تهيبًا مع ازدياد عدد الخيارات. والأسوأ من هذا أن هؤلاء، بعد تحديد اختياراتهم، يتذمرون بسبب وجود بدائل أخرى لم يتمكنوا من معاينتها. وفي النتيجة، من الأرجح أنهم يتوصلون إلى أفضل الاختيارات الموضوعية المتاحة، أكثر من القنوعين؛ لكنهم مع ذلك يبقون أقل منهم رضًا عما قرروه. وحين يجدون أن الواقع يحاصرهم وعليهم القيام بمصالحة فيما يتعلق باختياراتهم ـ لوضع حد للبحث عما يقررون ـ يخشون أن يكونوا قد تسرّعوا في اختياراتهم.
وإلى جانب ذلك، اتضح لنا أن الأشخاص المغالين هم الأقل سعادة لنتائج ما اختاروه. ولدى مقارنة أنفسهم بالآخرين تقل سعادتهم أيضا نتيجة اكتشافهم أن ما قاموا به أسوأ مما فعله الآخرون. لهذا فهم معرضون لمشاعر الندم على ما اشتروه. وإذا كان ذلك مخيبًا لآمالهم، فإن إحساسهم بالراحة يتطلب وقتًا أطول للاعتدال. كذلك، فإن هؤلاء الأشخاص يميلون إلى التفكير مدة أطول مقارنة بالقنوعين.
هل يُفهم من ذلك أن المغالين عمومًا أقل سعادة من القنوعين؟ هذه المسألة اختبرناها حين طلبنا إلى الناس أن يجيبوا عن استبيانات ندرك موثوقيتها تتعلق بمؤشرات الرفاه. وكما يمكن التوقع، اتضح أن الأشخاص الذين سجلوا نقاطا أشد تطرفا كانوا أقل رضًا عن الحياة وأقل سعادة، وهم أقل تفاؤلا وأكثر كآبة من أصحاب النقاط المنخفضة المسجلة. وبالفعل، كان الأشخاص الأكثر تطلبًا يعانون كآبة تضعهم على حدود الاكتئاب المرضي.
سُلّم زيادة الخيارات إلى أقصى حد(**)
إن الجُمل الخبرية التالية تميز بين المغالين وبين القنوعين. هنا يصنف المشاركون أنفسهم من 1 إلى 7، أي من «غير موافق مطلقًا» إلى «موافق تمامًا» في كل من هذه الجمل. وبصفة عامة نعتبر الأفراد الذين تبلغ نتائجهم أكثر من أربع نقاط مغالين. وحين درسنا تلك النتائج من آلاف المشاركين، وجدنا أن نحو ثلثها يتجاوز 4.75 وأن ثلثها أقل من 3.25. ونحو 10 في المئة تقريبًا من المشاركين كانوا مغالين متطرفين (معدل كل منهم تجاوز 5.5)، في حين أن نحو عشرة في المئة كانوا قنوعين جدًا (معدل كل منهم لم يتجاوز 2.5.) 1 حين يكون علي أن أختار، أحاول تصور جميع الاحتمالات الأخرى، وحتى تلك التي ليست متوافرة في تلك اللحظة. 2 مهما كنت راضيًا عن عملي، من المناسب لي البحث عن فرص أفضل. 3 عندما أكون في السيارة أستمع إلى المذياع، أبحث عن محطات أخرى لعلي أعثر على برنامج أفضل، حتى وإن كنت مقتنعًا نسبيًا بما أستمع إليه. 4 عندما أشاهد التلفاز أنتقل من قناة إلى أخرى بحثًا عن البدائل المتاحة حتى وإن كنت أشاهد برنامجًا واحدًا. 5 أتعامل مع العلاقات بالآخرين كما أتعامل مع الثياب: أجرب الكثير منها قبل أن أستقر على واحد منها. 6 غالبًا ما أجد صعوبة في شراء هدية لصديق. 7 استئجار أشرطة الڤيديو مسألة صعبة حقًا. وأصارع دائمًا لاختيار أفضلها. 8 عندما أتسوق، أجد صعوبة كبيرة في اختيار ثياب تروق لي. 9 تعجبني جدًا القوائم التي تصنف الأشياء (أفضل الأفلام، أفضل المغنين، أفضل الرياضيين، أفضل الروايات، الخ). 10 أجد صعوبة كبيرة في الكتابة، حتى لو كانت رسالة إلى صديق، لأنه من العسير جدًا عليّ التعبير بكلمات مناسبة عما أكنه. وأحيانًا أكتب بضع مسودات لأعبر عن أشياء بسيطة. 11 بصرف النظر عما أفعله فإنني أضع أرفع المعايير نصب عيني. 12 لا استقر أبدًا على ثاني أفضل اختيار. 13 غالبا ما أتخيل العيش بطرق مختلفة تمامًا عن طريقة عيشي الفعلية. |
وصفة لتجنب التعاسة(***)
هناك بضعة عوامل تفسر سبب كون تعدد الاختيارات ليس دائما أفضل من قليلها، بالنسبة إلى المغالين على وجه الخصوص. وفي مقدمة هذه العوامل «تكاليف الفرص». إن من المتعذر تقدير نوعية أي من الاختيارات بمعزل عن بدائلها الأخرى. وأحد هذه «التكاليف» المترتبة على تبني اختيار ما هو انعدام الفرص التي توفرها البدائل المختلفة. لهذا، فإن تكلفة فرصة قضاء إجازة على شاطئ كيب كود Cape Cod يمكن أن تكون فقدان فرصة الاستمتاع بمطاعم وادي ناپا Napa Valley الأسطورية. فلو افترضنا أن تكاليف إحدى الفرص تقلل من الرغبة الكلية لأفضل الخيارات، عندئذ كلما ازدادت البدائل تعمّق إحساسنا بالخسارة، وقلّ شعورنا بالرضا بالنسبة إلى قرارنا النهائي.
لقد أوضح <L .برنَّر > [من جامعة فلوريدا] مفعول تكاليف الفرص، وذلك بأن طلب إلى أشخاص تحديد قيمة بالدولار لاشتراكات في مجلات أو رحلات من سان فرانسيسكو إلى أمكنة جذابة. بعض هؤلاء وضع أسعارًا للاشتراك بمجلة واحدة أو رحلة واحدة. وبعضهم الآخر وضع أسعارا أخرى للاشتراك في المجلة ذاتها أو للرحلة ذاتها، إذا كانت تمثل جزءًا من مجموعة من ثلاث أخرى. وقد وجد <برِنّر >أنه إذا كان أحد الخيارات يمثل جزءًا من مجموعة كانت الأسعار المقدرة له دائمًا أقل مما هي في حالة تقدير سعره منفردًا، وليس كجزء من مجموعة خيارات.
لكن لماذا حدث ذلك؟ عندما تحدد قيمة شيء ما، وليكن على سبيل المثال، مجلة نيوزويك Newsweek، باعتبارها ضمن مجموعة تضم المجلات: پيپول (الناس) People، نيو ريپَبلك New Republic وأَس (نحن) Us، فإنك تميل إلى المقارنة بين هذه المجلات. فمن المحتمل أنك تعتبر نيوزويك أغنى بمعلوماتها من مجلة پيپول ولكنها أقل تشويقًا. وكل مقارنة تربحها نيوزويك ستكون ربحًا، في حين أن كل مقارنة تخسرها هذه المجلة ستكون خسارة، تكلفة فرصة. إن أي مجلة ستربح وتخسر في آن معًا لدى مقارنتها بمجلات أخرى. لكننا نعرف من خلال عالم النفس الحائز جائزة نوبل <D .كانيمان> [من جامعة پرنستون] وزميله الراحل <A. تڤيرسكي> [من جامعة ستانفورد] أن أي خسائر (وهي في هذه الحالة تكاليف فرص) تترك أثرًا نفسيًّا أشد مما يفعله الربح فينا. فالخسارة توقع فينا من مشاعر الضيق أكثر مما يثيره الربح من الشعور بالارتياح.
مشاعر تثيرها الاختيارات المتزايدة(****)
لقد بينت دراسة أجراها <D. كانيمان> و<A. تکارسكي> حول «اتخاذ قرار مبكرًا» أن الناس يبدون استجابة أقوى بكثير تجاه الخسارة مما يبدونه عند الربح (كما في المخطط الأيسر). وبالمثل، فإنني والعاملين معي نرى أن الإحساس بالرفاه يتزايد في البداية مع تزايد الاختيارات (اللون الأزرق في المخطط، الصورة الوسطى)، لكنه يستقر بسرعة بعد ذلك (تُشبع الأحاسيس الجيدة.) وفي الوقت نفسه، مع أن انعدام الخيارات (على المحور X) يبعث حالة افتراضية من التعاسة اللامحدودة، فإن المشاعر المزعجة تتصاعد (الخط الأحمر) حين ننتقل من عدد محدود من الخيارات إلى عدد كبير منها. والحصيلة الصافية (الخط الأرجواني في الصورة اليمنى) هي أنه في لحظة معينة، فإن الاختيار المضاف يقلل فقط من مشاعر السعادة.
|
وفي بعض الأحيان ربما تخلق تكاليف الفرص صراعًا كبيرا يؤدي إلى الشلل. فعلى سبيل المثال، قُدم لمشاركين في إحدى الدراسات مبلغ 1.50 دولار لقاء الإجابة عن بعض الاستبيانات. وبعد الانتهاء منها عرضت عليهم أقلام معدنية مُبهرجة بدلا من النقود، وأخبروا أن قيمة القلم من هذه الأقلام نحو دولارين. لقد اختار 75 في المئة منهم القلم. وفي مرة ثانية طلب إلى المشاركين أن يختاروا بين مبلغ 1.50 دولار وبين قلم معدني من تلك الأقلام أو زوج من الأقلام الأرخص (قيمة كليهما نحو دولارين أيضًا). وفي هذه المرة، اختار الأقلام أقل من 50 في المئة من المشاركين.
إن مشكلة تكاليف الفرص تكون أسوأ بالنسبة إلى المغالين مما هي بالنسبة إلى القنوعين. فلسفة «هذا كاف» لدى الأشخاص القنوعين يمكنها أن تبقى بعد الأفكار عن تكاليف الفرص. إضافة إلى ذلك، فإن معيار «هذا كاف» يفضي بالقنوعين إلى اختصار عملية البحث والاستقصاء للبدائل، أكثر بكثير من المغالين في سعيهم نحو «الأفضل». وحيال عدد أقل من الخيارات المتاحة سيكون أمام المرء عدد أقل من تكاليف الفرص ليطرحه.
الندم يُضاف إلى التكاليف(*****)
مثلما يشعر الناس بالأسف على الفرص التي ضيعوها، فقد يتألمون أيضًا بسبب اختيار تبنوه. وقد قمت مع زملائي باستنباط سُلّم درجات لتقدير مدى تعرض الأفراد لمشاعر الندم، فتبين لنا أن الأشخاص ذوي الحساسية العالية للندم هم أقل سعادة وأقل رضًا عن الحياة، وأنهم أقل تفاؤلا وأشد كآبة من ذوي الحساسية المنخفضة. وليس مدهشًا أننا اكتشفنا أيضا أن ذوي الحساسية العالية للندم يكون أكثرهم من المغالين. وبالفعل، فإننا نعتقد أن القلق بشأن الشعور بالندم مستقبلا، هو سبب وجيه لتصنيف الناس بأنهم مغالون. والطريقة الوحيدة للتأكد من أنك لن تندم على قرار في المستقبل هو أن تتخذ أفضل القرارات الممكنة. ولسوء الحظ، كلما ازداد عدد البدائل لديك، ارتفعت تكاليف الفرص التي تسببت بها، وتزايدت احتمالات شعورك بالندم.
من المحتمل أن الندم هو أحد الأسباب لنفورنا من الخسارة. هل حدث أن اشتريت حذاء غالي الثمن، لتكتشف لاحقًا أنه غير مريح لدرجة أنه يتعذر عليك لبسه لأكثر من عشر دقائق؟ وهل رميته في سلة المهملات، أم أنه مازال في مؤخرة سقيفة منزلك؟ من المحتمل جدًا أنه كان من الصعب عليك رمي الحذاء في سلة المهملات. فبشرائك هذا الحذاء تكون قد تحمَّلت تكلفة فعلية، أو «غارقة»(2)، وبالتالي ستحتفظ به أملا في الحصول على فائدة منه بشكل أو بآخر. لكن أن تهب الحذاء أو ترميه في سلة المهملات، فإن ذلك سيجبرك على الاعتراف بارتكاب خطأ ـ أي بخسارة.
معجون الأسنان
دروس اختر عندما يمكنك الاختيار يمكن أن نقرر تقليل خياراتنا حينما لا يكون القرار حاسمًا. فعلى سبيل المثال، اعتمد على قاعدة أن لا تزور أكثر من متجرين حين تريد شراء ثياب. تعلّم قبول منطق «هذا جيد كفاية» اثبت على قرار يلبي احتياجاتك الأساسية بدلا من البحث عن «الأفضل» المراوغ. ومن ثم توقف عن التفكير في الموضوع. لا تقلق على ما يضيع منك حدد بوعي كم ستتأمل في المظاهر الجذابة ظاهريًا للبدائل التي ترفضها. تدرب على التركيز على الجوانب الإيجابية لاختيارك. تحكّم في تطلعاتك «إذا لم تتوقع الكثير، فلن يخيب أملك،» تلك هي العبارة الدارجة. لكن هذه النصيحة هي معقولة إذا كنت تريد أن تكون قنوعًا أكثر في حياتك. |
وفي عرض تقليدي لقوة التكاليف «الغارقة» عُرضت على مجموعة من الناس اشتراكات موسمية لحضور عروض فرقة مسرحية محلية. وقد قُدِّمت لبعض منهم تذاكر بسعر كامل، ولبعضهم الآخر تذاكر بسعر مخفض. وقام الباحثون بتسجيل عدد المرات التي حضر فيها هؤلاء الأشخاص العروض المسرحية في ذلك الموسم. وقد اتضح لهم أن الأشخاص الذين دفعوا ثمنًا كاملا للتذكرة أحرص على حضور العروض من الذين حصلوا على تذاكر بأسعار مخفضة. والسبب وراء ذلك، كما بينه الباحثون، هو أن دافعي الثمن الكامل سيعانون الندم أكثر من الآخرين إذا لم يحضروا أحد العروض، باعتبار أن التذاكر الكاملة السعر تشكل خسارة أفدح.
وقد أوضحت بعض الدراسات أن ثمة عامليْن من العوامل المؤثرة في الشعور بالندم هما حجم شعور الفرد بالمسؤولية الشخصية عن النتيجة، ومدى سهولة تصور وجود خيار أفضل. ومن الواضح أن توافر البدائل يفاقم من تأثير هذين العاملين. فما الذي يمكن أن تفعله إذا لم تجد أمامك أي خيار؟ ستشعر بخيبة الأمل؛ لكنك لن تشعر بالندم. ففي حالة انعدام الخيارات لا يكون أمامك سوى بذل أقصى ما عندك. لكن إذا تعددت البدائل تزداد فرص وجود واحد جيد فعلا، وقد تشعر أنه كان عليك العثور عليه.
التعوّد يضْعف البهجة(******)
ثمة ظاهرة تسمى التكيف adaptation تسهم أيضًا في هذا السَّقط(3) الذي نواجهه لدى تعدد الخيارات. وبتعبير بسيط، نحن نعتاد على الأشياء، ونتيجة لذلك لا نجد سوى القليل جدا من الأمور بالجودة التي كنا نتوقعها. فعلى مضض شديد، قد تقرر شراء سيارة لكزس Lexus، ومن ثم تحاول أن تبعد عن خيالك صور الفخامة لجميع «أنواع السيارات» الأخرى. لكن مع قيادتك لسيارتك الجديدة تبدأ داخلك عملية التكيف، وتصبح هذه التجربة قليلة التأثير. لقد كنتَ سيئ الحظ مرتين ـ مرة بسبب الندم على عدم استمرارك بالاختيار، ومرة أخرى بسبب خيبة الأمل مما قمت به، حتى ولو لم يكن قرارك النهائي سيئًا.
وبسبب التكيف لا يمكن للحماسة تجاه التجارب الإيجابية أن تصمد بذاتها. وقد بين <D .T .گيلبرت > [من جامعة هارڤارد] و <T .D. ويلسون> [من جامعة ڤرجينيا] أن الناس يخطئون باستمرار في التنبؤ بطول المدة التي سيشعرون فيها بالسعادة نتيجة خبراتهم الإيجابية، وبالتعاسة نتيجة خبراتهم السيئة. إن تضاؤل الشعور بالسرور أو الفرح مع مرور الزمن يأتي دائمًا على ما يبدو كمفاجأة غير سارة.
وهذا التضاؤل ربما يتسبب في تعميق الشعور بخيبة الأمل في عالم يعج بالخيارات أكثر مما يحدث حين يقل عدد الخيارات. إن تكاليف الفرص المرافقة لاتخاذ القرار، والزمن والجهد اللذين يسهمان في هذا القرار، هي «تكاليف ثابتة» ندفعها نحن بكاملها مقدمًا، وهي «تتلاشى» خلال عُمر القرار. وكلما ازداد استثمارنا في هذا القرار، فإننا نتوقع منه أن يحقق ازدياد رضانا. فإذا ما وفر لنا القرار رضا راسخا لفترة طويلة بعد اتخاذه، فإن تكاليف أخذه تنحسر إلى حد كبير. لكن إذا عاد القرار علينا بالسرور لفترة قصيرة فقط، فإن هذه التكاليف تغدو باهظة. فقضاء أربعة أشهر في التفكير في أي جهاز ستيريو ستشتريه ليس أمرًا سيئًا إذا استخدمت الجهاز على مدى 15 سنة. لكن إذا اقتصرت فترة الاستمتاع به على ستة أشهر ومن ثم انصرفت عنه، فقد تشعر أنك مغفل لما بذلته من جهد للحصول عليه.
لعنة التطلعات الكبيرة(*******)
إن كثرة الخيارات يمكن أيضًا أن تكون محنة بطريقة مختلفة وذلك عن طريق التعلل بالأماني. في خريف 1999 طلبت المجلة New York Times ومحطة التلفازCBS News إلى عدد من الفتيان القيام بمقارنة بين خبراتهم وخبرات آبائهم وهم يكبرون. خمسون في المئة من أبناء الأسر الميسورة قالوا إن حياتهم أكثر صعوبة من حياة آبائهم. وقد تحدث هؤلاء المراهقون عن تطلعاتهم وتطلعات آبائهم الكبيرة. وأخذوا يتكلمون عن «كثرة كثيرة»(4): كثرة عدد الأنشطة، كثرة عدد البدائل الاستهلاكية، كثرة ما ينبغي تعلّمه. وفي هذا الصدد، قال أحد النقاد: «إن الأبناء يتعرضون لضغط يتمثل بأن عليهم ألا يتوقفوا عن التقدم. فالتراجع هو الكابوس الأمريكي.» وهكذا، إذا كنت في مكان عالٍ، فإنك تخشى من السقوط أكثر مما لو كنت في مكان منخفض.
إن هذا الكم من الخيارات الذي يتوافر لنا الآن في معظم مناحي الحياة، يسهم في رفع مستوى تطلعاتنا. فعندما كنت أقضي إجازة قبل سنوات في إحدى البلدات الساحلية على شاطئ أوريگون دخلت محلاً لشراء أغراض للغداء. عرض عليّ البائع نحو دزينة من أنواع المشروبات. وما حصلت عليه في نهاية الأمر كان بَيْنَ بَيْن(5)، لكنني لم أكن أتوقع الحصول على نوع فاخر من المشروبات، لذلك كنت قانعًا بما حصلت عليه. لكن لو أنني كنت بدلا من ذلك أتسوق في محل لديه عدد كبير من أنواع المشروبات فإن مستوى توقعاتي سيكون أعلى بكثير، وسوف يجعلني ذلك المشروب بين ـ بين الذي اشتريته أعاني خيبة أمل كبيرة.
أشار <A .C. ميكالوس> [من جامعة نورثرن بريتش كولومبيا] إلى أن جميع تقييماتنا للأشياء التي نفعلها أو نشتريها تعتمد على مقايستها مع تجاربنا السابقة، مع ما نتطلع إليه، ومع ما نتوقعه. فحين نصف تجربة بأنها رائعة فما نقصده، إلى حد ما، هو أنها أفضل مما توقعناه منها. فالآمال العريضة تتعهد تقريبًا أن التجارب كانت دون الكفاية، وخاصة بالنسبة إلى المغالين، وخاصة أيضًا حين يكون الندم وتكاليف الفرص والتكيف غير واردة في ما نتوقعه.
رابط مع الكآبة(********)
من المحتمل أن نتائج الخيارات غير المحدودة تتجاوز إلى حد كبير خيبة أمل معتدلة وتتحول إلى مكابدة. وكما أشرنا سابقا، يظهر الأمريكيون تناقصا في السعادة وتزايدا في الكآبة السريرية. وأرى أن أحد العوامل المهمة التي تسهم في ذلك، هو أنه عندما نتخذ قرارات ونختبر نتائجها فنجد أنها لا تجاري الآمال المعقودة عليها، فإننا ننحو على أنفسنا باللائمة. وتشكل النتائج المخيبة فشلا شخصيًا كان بالإمكان تجنبه لو أننا قمنا ـ كما يجب ـ باختيار أفضل.
إن البحث الذي أجريته بالاشتراك مع زملائي، يشير إلى أن فئة المغالين من الناس مرشحون بصفة رئيسية للاكتئاب. ومن خلال دراسة مجموعة بعد أخرى من مختلف الأعمار والأجناس والمستوى التعليمي والبيئة الجغرافية والعرق والوضع الاقتصادي الاجتماعي، اتضح لنا أن هناك صلة قوية تربط بين المغالاة ومقادير الكآبة. فإذا كانت التجربة المحبطة قاسية، وإذا كانت جميع اختياراتك تخفق في تحقيق طموحاتك وآمالك، وكنت باستمرار تتحمل المسؤولية الشخصية عن خيبات الأمل، فإن سفاسف الأمور تبدأ بالتضخم، وفي النهاية تصبح فكرة عدم قدرتك على إنجاز شيء بشكل صحيح فكرة مدمرة. وعلى الرغم من أن الكآبة تنبع من مصادر عديدة، وأن العلاقة بين القرار والمغالاة والكآبة تحتاج إلى دراسة أوسع، فإن هناك سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن طغيان الاختيار على الأقل يسهم في انتشار وباء التعاسة في المجتمع الحديث.
ماذا بوسعنا أن نفعل؟(*********)
إننا نحصل على ما ندعي أننا نريد لنكتشف أن ما نريد لا يرضينا إلى الحد الذي توقعناه. هل ذلك يعني أن حالنا ستكون أفضل لو كانت خياراتنا محدودة جدًا، بل لو انعدمت؟ إنني لا أرى ذلك. إن العلاقة بين مبدأ الاختيار وحالة الرفاه معقدة. فالحياة دون اختيار مهم لا معنى لها. وقدرتنا على ممارسة الاختيار تترتب عليها آثار إيجابية مهمة وبالغة في حياتنا. لكن ذلك فقط إلى درجة معينة. ومع تنامي الخيارات تبدأ المنافع النفسية التي نستمدها من ذلك بالتراجع. وفي الوقت ذاته، تبدأ بعض الآثار السلبية للاختيار بالظهور، وتتسارع بدلا من أن تستقر. وقبل ربع قرن من الزمن لاحظ الراحل <C .H. كومبس> [بجامعة متشيگان] و <G .S. أفرونين > [بجامعة ماساتشوستس] أن الأشياء السارة «تشفي الغليل» والأشياء السيئة «تتفاقم». ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الانفعالات. وبالفعل، فإن الاختيار المتزايد يسبب التعاسة، أكثر من أن يكون مصدرًا للمزيد من الفرص. ويبدو أن المجتمع الأمريكي قد تخطى هذه المرحلة منذ زمن بعيد.
بعض الأمريكيين يُحبذون وجود قوانين تحدد عدد الخيارات. لكن بوسع أفراد اتخاذ خطوات من شأنها تخفيف المحنة المتعلقة بالاختيار. ومثل هذه الإجراءات تتطلب ممارسة وانضباطًا وربما أسلوبًا جديدًا في التفكير، لكن كل واحد منها لا بد أن يؤتي ثماره (انظر الإطار في الصفحة 30).
وفي اعتقادي أنه من دون هذه الخطط الاستراتيجية الفردية فإن المجتمع سيعيد تمامًا النظر في تعلقه الشديد بمبدأ الاختيار. وعند كتابتي هذه المقالة كان الجدل محتدمًا في الولايات المتحدة حول خصخصة الضمان الاجتماعي (بحيث يستطيع الناس اختيار استثماراتهم التقاعدية)، وخصخصة الرعاية الطبية ومنافع الوصفات الدوائية (لكي يتمكن الناس من اختيار خططهم الصحية)، وأيضا حول اختيار التعليم العام. وفي المجال الخاص، يتعامل دعاة الأخلاقيات الطبية مع فكرة «استقلالية المريض» كفكرة مقدسة، كما لو أن من المسلَّم به أن تمكين المرضى من اختيار علاجاتهم سيسهم في شفائهم. ويصمم مطورو البرمجيات منتجاتهم بحيث يستطيع المستخدمون موافقتها حسب احتياجاتهم الشخصية وأذواقهم، كما لو ما يفضي إليه ذلك من تعقيد وإرباك هو دائمًا الثمن الواجب تسديده لتوفير أعلى قدر من المرونة للمستخدمين. كذلك يستمر المصنعون في تقديم منتجات جديدة أو نسخ جديدة لمنتجات قديمة، كما لو أننا في حاجة إلى مزيد من التنوع. إن العبرة من بحثي هي أن التطورات المدخلة إلى كل مجال من هذه المجالات ربما تُبنى على افتراضات بالغة الخطأ.
المؤلف
Barry Schwartz
أستاذ كرسي <D .كارت رايت>، للنظرية الاجتماعية والعمل الاجتماعي بقسم علم النفس في كلية سوارثمور، حيث يدرس فيها منذ عام 1971. وقد نشر مؤخرًا كتابًا عن نتائج الارتفاع المفرط في عدد الاختيارات المتاحة (انظر: «مراجع للاستزادة» في الأسفل)، كما ألف عدة كتب أخرى من ضمنها «المعركة حول الطبيعة البشرية وتكاليف العيش».
مراجع للاستزادة
Choices, Values, and Frames. Daniel Kahneman and Amos Tversky in American Psychologist, Vol. 39, pages 341-350; April 1984.
The Loss of Happiness in Market Democracies. Robert E. Lane. Yale University Press, 2001.
Maximizing versus Satisficing: Happiness Is a Matter of Choice. Barry Schwartz, Andrew Ward, John Monterosso, Sonya Lyubomirsky, Katherine White and Darrin Lehman in Journal of Personality and Social Psychology, Vol. 83, No. 5, pages 1178-1197; 2002.
The Paradox of Choice: Why More Is Less. Barry Schwartz.
Ecco/HarperCollins Publishers, 2004.
Scientific American, April 2004
(*) THE TYRANNY OF CHOICE
(**) العنوان الأصلي: The Maximaization Scale
(***) Recipe for Unhappiness
(****)Feelings Evoked by ever more Choices
(*****)Regret Adds to Costs
(******)Adaptation Dulls Joy
(*******) The Curse of High Expectations
(********) A Link to Depression
(*********) What Can Be Done?
(1) product comparisons
(2) Sunh
(3)fallout
(4)too muchness
(5)so-so