أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلسفة العلومفلك وعلم الكونياتفيزياء نظرية

الكون، هذا الحاسوب الهائل

الكون، هذا الحاسوب الهائل(*)

مواكبة لروح العصر ينظر الباحثون إلى قوانين الفيزياء

باعتبارها برامج حاسوبية وإلى الكون باعتباره حاسوبا.

<S. لويد> ـ <J .Y. نگ>

 

ما الفرق بين الحاسوب والثقب الأسود؟ يشكل هذا السؤال، الذي يبدو كما لو كان مزحة من ميكروسوفت، إحدى أعمق القضايا البحثية في علم الفيزياء المعاصرة. فمعظم الناس يتصورون أن الحاسوب آلة متخصصة، بيد أنه بالنسبة إلى الفيزيائيين يمكن اعتبار جميع المنظومات الفيزيائية حواسيب. صحيح إن الصخور والقنابل الذرية والمجرات لا تستخدم برنامجا حاسوبيا، مثل اللينوكس Linux، غير أنها تسجل معلومات وتعالجها. والواقع إن الحالة الكمومية لكل إلكترون أو فوتون أو أي جسيم أولي آخر تخزن بتات bits من المعلومات، وعندما يتآثر جسيمان منها، فإن هذه البتات تتحول. فالوجود الفيزيائي والمحتوى المعلوماتي متصلان معا بصورة لا يمكن فكّها.

 

قد تبدو الثقوب السوداء وكأنها تمثل استثناء للقاعدة التي تقول إن كل شيء يَحسب. فإدخال المعلومات في الثقوب السوداء ممكن، ولكن استخراج المعلومات منها أمر مستحيل بموجب نظرية النسبية العامة لآينشتاين. فالمادة التي تدخل في ثقب أسود لا تخرج منه والتفصيلات المتعلقة بمكوناتها تضيع إلى الأبد.

 

إلا أن <S. هوكنگ> [من جامعة كامبردج] بيّن في السبعينيات من القرن العشرين أنه عند أخذ الميكانيك الكمومي في الاعتبار فإنه يتبين أن هذه الثقوب يجب أن تصدر إشعاعا مثلها تقريبا مثل جسم متوهج. إلاّ أنه بموجب تحليل <هوكنگ> فإن لهذا الإشعاع صفات عشوائية؛ فهو لا يحمل أي معلومات تتعلق بما دخل الثقب. فلو أن فيلا سقط داخل الثقب الأسود فإن ما يكافئ مادته من الطاقة سيخرج ولكن بطريقة اعتباطية لا يمكن الاستفادة منها من حيث المبدأ، لإعادة تشكيل الحيوان.

 

إن ضياع المعلومات الظاهري هذا يشكل مأزقا حقيقيا نظرا لكون قوانين الميكانيك الكمومي تحافظ على المعلومات. لذا تصدى علماء آخرون، منهم <L. سَسْكِند> [من جامعة ستانفورد] و<J. پريسْكِل> [من معهد كاليفورنيا للتقانة] و<G. هوفت> [من جامعة أوترخت في هولندا] لحل هذا المأزق، فحاولوا تبيان أن الإشعاع المنبعث من الثقب الأسود ليس في واقع الأمر، عشوائيا وإنما هو معالجة معينة للبيانات التي تمثل المادة التي سقطت في الثقب. [انظر: «الثقوب السوداء ومفارقة المعلومات»، مجلة العلوم، العددان 8/9(1998)، ص 44]. وفي صيف عام 2004 انضم ّ<هوكنگ> نفسه إلى وجهة نظر هؤلاء العلماء: فالثقوب السوداء إذا تعالج هي أيضا المعلومات ولا تخربها.

 

نظرة إجمالية/ حواسيب كونية(**)

• لمجرد كونها موجودة، فإن جميع المنظومات الفيزيائية تخزن معلومات. ومع تطور هذه المنظومات ديناميكيا مع الزمن فإنها تعالج تلك المعلومات. فالكون يحسب.

• إذا كانت المعلومات تستطيع الإفلات من الثقوب السوداء، كما يظن معظم الفيزيائيين حاليا، فالثقب الأسود يقوم أيضا بعمل حاسوبي. ويتناسب حجم فضاء ذاكرته مع مربع معدل الحوسبة. والطبيعة الكمومية للمعلومات هي المسؤولة عن قدرة الحوسبة هذه؛ ولولا الآثار الكمومية لأتلف الثقب الأسود المعلومات بدلا من معالجتها.

• إن قوانين الفيزياء التي تحد من قدرة الحواسيب هي ذاتها التي تحدد الدقة التي يمكن أن تقاس بها هندسة الزمكان. وهذه الدقة أقل مما كان يظنه الفيزيائيون سابقا، الأمر الذي يشير إلى أن «ذرات» المكان والزمان ربما تكون أكبر مما كان متوقعا.

 

وليست الثقوب السوداء سوى المثال الأكثر غرابة على المبدأ العام القاضي بأن الكون يخزن المعلومات ويعالجها. وهذا المبدأ ليس جديدا بحد ذاته؛ إذ إن مؤسسي الميكانيك الإحصائي في القرن التاسع عشر كانوا قد طوروا ما عُرِف لاحقا باسم نظرية المعلومات information theory  لتفسير قوانين الترموديناميك. ويبدو لأول وهلة أن الترموديناميك ونظرية المعلومات ينتميان إلى عالمين مختلفين: إذ إن تطوير الترموديناميك جرى من أجل وصف الآلات البخارية في حين جرى تطوير الفرع الآخر لتحسين الاتصالات. إلا أنه تبيّن أن الكمية الترموديناميكية المعروفة باسم الأنتروپية entropy، والتي تحد من قدرة عمل الآلة على تقديم عمل مفيد، ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعلومات. فأنتروپية منظومة مادية تزداد مع ازدياد عدد البتات التي تصف مواضع جزيئات هذه الجملة المادية وسرعاتها. وقد وضع طرح النظرية الكمومية في القرن العشرين الفكرة السابقة على أساس كمي متين وفتح أمام العلماء مفهوم المعلومات الكمومية الرائع. والبتات المكونة للكون هي «بتات كمومية» qubits ذات صفات أغنى بكثير من البتات المعتادة.

 

إن تحليل الكون بدلالة البتات والبايتات bytes ليس بديلا من تحليله بدلالة المقادير التقليدية كالقوة والطاقة مثلا، ولكنه يكشف عن حقائق جديدة مذهلة. فقد تمكن العلماء في حقل الميكانيك الإحصائي على سبيل المثال، من حل مفارقة «شيطان ماكسويل» Maxwell’s demon، وهو جهاز تخيلي يبدو كما لو أنه يسمح بالحركة الدائمة. ومنذ عدة سنين نقوم، كما يقوم فيزيائيون آخرون، بتطبيق المنظور نفسه في علم الكون والفيزياء الأساسية: ماهية الثقوب السوداء، والبنية الدقيقة للزمكان، وسلوك الطاقة الكونية الخفية، والقوانين النهائية للطبيعة. إن الكون ليس مجرد حاسوب عملاق وإنما هو حاسوب «كمومي» عملاق.

 

تريليونات الجيگاهرتز(***)

إن اندماج الفيزياء في نظرية المعلومات يأتي من الفكرة الجوهرية للميكانيك الكمومي وهي: أن الطبيعة هي، في نهاية المطاف، متقطعة discrete. فمن الممكن وصف منظومة فيزيائية ما باستخدام عدد محدود من البتات. وكل جسيم في المنظومة يتصرف كبوابة منطقية في الحاسوب. ذلك أنه ليس لمحور سبين spin الجسيم سوى اتجاهين ممكنين، وهذا يعني أن حالة السبين توصف ببتة واحدة وأن تغيير اتجاه سبين الجسيم يكافئ عملية عددية تجرى على البتة (تحويلها من 0 إلى 1 أو من 1 إلى 0).

 

وكذلك فإن المنظومة متقطعة في الزمن أيضا: فلا بد من حد أدنى من الزمن لكي تنقلب بتة. ويُعْطَى هذا الزمن بمبرهنة تُنسب إلى رائدين من رواد علم فيزياء معالجة المعلومات هما: <N. ماگولوس> [من معهد ماساتشوستس للتقانة] و<L. ليڤيتين> [من جامعة بوسطن]. ولهذه المبرهنة صلة بمبدأ الارتياب لِ«هايزنبرگ» الذي يحدد عدم الدقة الذي لا مفر منه لدى قياس أزواج معينة من المقادير الفيزيائية مثل الموضع والاندفاع أو الزمن والطاقة. وحسب هذه المبرهنة فإن الزمن t اللازم لقلب البتة يعتمد على مقدار الطاقة اللازمة .Eفكلما ازدادت الطاقة E قَصُر الزمن. ونعبّر عن هذه القاعدة بالمتراجحة: t ≥ h/4E، حيث h هو ثابت پلانك (وهو ثابت أساسي في الميكانيك الكمومي يساوي تقريبا 6,626x 10-34 J.s).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00926.jpg

الثقب الأسود حاسوب: فكرة تبدو غير معقولة، لكن لدى النظريين بعض الحجج حول صحتها. فلو تمكن الفيزيائيون من تكوين ثقوب سوداء صغيرة في مسرّعات الجسيمات ـ يتنبأ البعض بأن هذا سيكون ممكنا خلال عقد من الزمن ـ فسيرونها بالفعل تُجري ما يكافئ الحوسبة.

 

من الممكن استخلاص عدد هائل من النتائج من هذه المبرهنة: من الحدود المفروضة على هندسة الزمكان إلى السعة الحاسوبية للكون ككل. لننظر أولا في القدرة الحاسوبية العظمى التي يمكن الحصول عليها من كيلوغرام واحد من مادة عادية يشغل حيزا قدره لتر واحد. نسمي هذا الجهاز الحاسوب المحمول النهائي ultimate laptop.

 

إن مصدر طاقة هذا الجهاز هو المادة نفسها المتضمنة فيه والتي تكافئ بموجب معادلة آينشتاين الشهيرة طاقة قدرها E = mc2. وإذا تم استثمار هذه الطاقة في عملية قلب البتات، فإن هذا الحاسوب يستطيع إجراء 1051  عملية في الثانية الواحدة. ويتناقص هذا المعدل تدريجيا مع تناقص الطاقة واستنفادها. ومن الممكن حساب سعة ذاكرة هذا الجهاز باستخدام قوانين الترموديناميك. فعندما يتحول كيلوغرام واحد من المادة إلى طاقة في حيز قدره لتر واحد تصبح درجة حرارته بليون كلڤن. وأنتروپية هذه المنظومة التي تتناسب مع الطاقة مقسومة على درجة الحرارة، تكافئ 1031 بتة من المعلومات. وهذا الحاسوب المحمول النهائي يستخدم كل بتة تسمح بها قوانين الترموديناميك علما بأن المعلومات مخزّنة في سرعات جسيماته ومواضعها.

 

وكلما تآثرت الجسيمات تسببت في انقلاب بتة واحدة. وتستطيع كل بتة أن تنقلب بمعدل 1020 مرة في الثانية، وهذا يعادل ميقاتية (ساعة) تعمل بسرعة 100 بليون جيگاهرتز. وفي الواقع، فإن منظومة كهذه أسرع من أن تتحكم فيها ساعة مركزية لأن الزمن الذي يستغرقه انقلاب البتة يساوي تقريبا الزمن اللازم لانتقال إشارة كهرمغنطيسية من إحدى البتات إلى بتة أخرى مجاورة. ومن ثم فإن الحاسوب المحمول النهائي يعمل بأسلوب التوازي بامتياز: فهو لا يعمل كمعالج منفرد وإنما كمجموعة كبيرة من المعالجات يعمل كل منها بصورة مستقلة تقريبا وتتواصل مع الأخرى ببطء نسبي.

 

حوسبة قصوى(****)

يمكن اعتبار الحاسوب منظومة تُجري عمليات على بتات المعلومات، مهما كان الشكل المادي لهذه البتات. ومن وجهة النظر هذه، فكل منظومة فيزيائية تشكل حاسوبا، لأن الحالات الكمومية ـ حالات السبين spinعلى سبيل المثال ـ التي تصفها، والتي يمكن تمثيلها بوساطة بتات، تتحول خلال تطور المنظومة مع الزمن. وقوانين الفيزياء، من وجهة النظر هذه، تشبه برنامجا حاسوبيا.
http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00927.jpg

بعد معالجة النبضات الكهربائية تتم ترجمتها إلى أشكال ضوئية ذات معنى.
تقوم مكونات إلكترونية، مثل الترانزستورات، بمعالجة هذه النبضات وتجري عمليات منطقية مثل NOT.

لوحة مفاتيح مع الدارات المصاحبة لها تكوّد المعلومات بشكل نبضات كهربائية.

عندما تخرج الجسيمات من الحجم يمكن قياس خواصها وترجمتها. تسترخي المنظومة ببطء مع تناقص طاقتها.

تتآثر الجسيمات.

ومن الممكن أن تُجري التصادمات بين الجسيمات عملية مكافئة لعملية NOT المنطقية وذلك بقلب جهة سپين جسيم.

تتألف من كيلوغرام من الپلازما الحارة داخل صندوق حجمه لتر واحد، وهذا الجهاز يقبل بيانات مكوّدة على شكل مواضع جسيمات وسرعاتها وسپيناتها.

يُصدر الثقب الأسود إشعاعا يعرف بإشعاع <هوكنگ>. هناك نظريات حديثة ترى أن هذا الإشعاع يحمل نتائج الحساب. يبقى إذا كشف هذا الإشعاع وفك كوده.

تتآثر الجسيمات مع بعضها أثناء سقوطها كما في حالة الحاسوب المحمول النهائي باستثناء أن الثقالة أيضا تؤدي دورا هنا. لكن قوانين هذا التآثر ماتزال غير مفهومة.

يتكون هذا الثقب الأسود من كيلوغرام من المادة في حجم نصف قطره يساوي27-10 متر. تكوّد البيانات والتعليمات في المادة وتسقط في الثقب الأسود.

 

وبغرض المقارنة نشير إلى أنه في الحاسوب المعهود تنقلب البتات بمعدل 109 مرة في الثانية ويخزن نحو 1012 بتة ولا يحتوي إلا على معالج واحد. وإذا افترضنا أن قانون <مور> Moore حول التقدم في المعلوماتية يبقى صالحا، فإن أحفادنا سيتمكنون في أواسط القرن الثالث والعشرين، من شراء حاسوب محمول نهائي. وسيكون على المهندسين حينذاك أن يجدوا طريقة للسيطرة الدقيقة على تآثر الجسيمات في پلازما ذات درجة حرارة أعلى من تلك التي يحويها قلب الشمس.

 

وبمعنى من المعاني، فإنك تستطيع شراء مثل هذا الجهاز بشرط أن تعرف الأشخاص المناسبين: فالطاقة الناجمة عن تحول كيلوغرام واحد من المادة تكافئ قنبلة هيدروجينية بطاقة 20 ميگاطن. إن انفجار سلاح نووي يمثل معالجة قدر هائل من المعلومات، حيث تمثل المدخلاتِ التشكيلاتُ البدئية في حين يشكل الإشعاع المنبعث منه المخرجات.

 

يستطيع أي مقتحم للحواسيب أن يحضِّر المادة التي تسقط في

 ثقب أسود ويبرمجها لتقوم بأي عملية حاسوبية يرغب فيها.

إذا كانت أي قطعة من المادة حاسوبا، فإن الثقب الأسود ليس سوى حاسوب تم ضغطه إلى أصغر حجم ممكن. وفي مثل هذا الحاسوب المضغوط تصبح قوى الثقالة التي تؤثر بها مكوناته في بعضها بعضا شديدة إلى درجة لا تسمح بانفلات أي جسم مادي منه. ويتناسب حجم الثقب الأسود، الذي يسمى نصف قطر شڤارتزشيلد Schwarzschild، طرديا مع كتلته.

 

يبلغ نصف قطر ثقب أسود كتلته كيلوغرام واحد، نحو 27-10 متر (للمقارنة نشير إلى أن نصف قطر الپروتون هو 15-10 متر). إن تقليص حجم الحاسوب لا يقلل من محتواه من الطاقة، ولذلك فهو يستطيع القيام بـ1051 عملية في الثانية الواحدة تماما كما كان عليه الأمر قبل تقليص حجمه. والأمر الذي يتغير مع التقليص هو سعة الذاكرة. فعندما تكون قوة الثقالة مهملة تكون سعة التخزين الكلية متناسبة مع عدد الجسيمات ومن ثم مع الحجم. أما عندما تسود قوة الثقالة فإنها تربط الجسيمات معا، فتصبح قادرة على تخزين قدر أقل من المعلومات بشكل تضافري. وتتناسب سعة التخزين الكلية للثقب الأسود مع مساحة سطحه. وفي السبعينيات من القرن العشرين تمكن ّ<هوكنگ> و<J. بيكينشتين> من التوصل حسابيا إلى أن ثقبا أسود كتلته كيلوغرام واحد يستطيع تسجيل نحو 1016 بتة، وهذا أقل بكثير من قدرة الحاسوب نفسه قبل  الانضغاط.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00928.jpg

ينص القانون الأول في الحوسبة الكمومية على أن الحوسبة تستهلك طاقة. يمثل سپين الپروتون بتة واحدة، ويمكن قلبه بتطبيق حقل مغنطيسي. وكلما كان الحقل المغنطيسي شديدا ـ أي كلما كانت الطاقة المطبقة أكبر ـ كان انقلاب السپين أسرع.

 

وبالمقابل، فإن الثقب الأسود هو حاسوب سريع للغاية. وفي الواقع فإنه يلزم35-10 ثانية لانقلاب بتة واحدة، وهو الزمن اللازم لانتقال الضوء بين طرفي الحاسوب. ولذلك، على نقيض الحاسوب المحمول النهائي الذي يعمل على التوازي، فإن الثقب الأسود هو حاسوب يعمل على التوالي كوحدة واحدة.

 

كيف يعمل حاسوب الثقب الأسود في الواقع العملي؟ لا توجد مشكلة في عملية الإدخال إذ يكفي تكويد البيانات على شكل مادة أو طاقة ثم إسقاطها في الثقب. وبتحضير المادة التي ستسقط في الثقب بشكل ملائم فإن مقتحمي الحواسيب hackers يجب أن يكونوا قادرين على برمجة الثقب لجعله يُجري أية حسابات. وبمجرد دخول المادة في الثقب، فإنها تُفقد نهائيا؛ ويحدُّ ما يُعرف بأفق الحدث event horizon  نقطة اللاعودة. وتتآثر الأجسام الساقطة مع بعضها منجزة عمليات حاسوبية خلال فترة محدودة قبل وصولها إلى مركز الثقب ـ أي موقع التفرد singularity ـ ثم ينتهي وجودها. ويعتمد ما يحدث للمادة عندما تسحق في نقطة التفرد على الخواص الكمومية للثقالة التي لاتزال مجهولة حتى الآن.

 

تأخذ مخرجات الحاسوب شكل إشعاع <هوكنگ>. ولما كانت الطاقة محفوظة فإن كتلة الثقب الأسود تتناقص. ويُصدر ثقب أسود كتلته كيلوغرام واحد، إشعاع <هوكنگ> ويتلاشى تماما خلال أقل من 21-10 ثانية. وطول موجة الإشعاع عند قيمته القصوى يساوي نصف قطر الثقب. وبالنسبة إلى ثقب أسود كتلته كيلوغرام واحد فإن هذا الإشعاع يقع في منطقة أشعة گاما العالية الطاقة جدا. ويمكن كشف هذا الإشعاع ثم فك كوده لاستخراج المعلومات منه.

 

إن أبحاث <هوكنگ> حول الإشعاع الذي يحمل اسمه دحضت فكرته التي كانت سائدة والتي مفادها أن لا شيء يستطيع الإفلات من الثقوب السوداء(1). إن معدل إشعاع الثقب الأسود يتناسب عكسا مع حجمه، ولذلك فإن الثقوب السوداء الكبيرة، مثل تلك الموجودة في مركز المجرة، تفقد طاقتها بمعدل أبطأ بكثير من معدل التهامها للمادة. وعلى أي حال فقد يكون من الممكن للفيزيائيين التجريبيين في المستقبل أن يكوّنوا ثقوبا سوداء صغيرة جدا في مسرعات الجسيمات؛ ومثل هذه الثقوب يجب أن تتفجر بشكل فوري تقريبا على شكل ومضة إشعاعية.

 

خطة الإفلات(******)

والسؤال الحقيقي هو هل يعطي إشعاع <هوكنگ> نتائج الحسابات أم أنه يعطي أشياء لا معنى لها؟ وعلى الرغم من أن الجواب عن هذا السؤال يبقى مثار جدل، فإن معظم الفيزيائيين، ومنهم <هوكنگ>، يرون أن الإشعاع شكلٌ محوّرٌ جدا من المعلومات التي التهمها الثقب خلال مرحلة تشكله. ومن ثم، ومع أن المادة لا يمكنها الإفلات من الثقب، إلا أن محتواها المعلوماتي يمكنه ذلك.

 

في عام 2003 قام كل من <G. هوروڤيتز> [من جامعة كاليفورنيا في سانتاباربرا] و<J. مالداسينا> [من معهد الدراسات المتقدمة في پرنستون] بطرح الخطوط العريضة لآلية محتملة. والمدخل لفهم هذه الآلية هو ما يعرف باسم التشابك entanglement، وهو ظاهرة كمومية تتميز بكون خصائص منظومتين (أو أكثر) تبقيان مرتبطتين على الرغم من انفصالهما في الزمان أو المكان. وهذه الظاهرة تجعل النقل البُعدي teleportation  ممكنا، وهو العملية التي تنتقل المعلومات وفقها من جسيم إلى آخر بدقة لدرجة أن الجسيم يكون قد نسخ عمليا من مكان إلى آخر بسرعة تقرب من سرعة الضوء.

 

إن عملية النقل البعدي هذه، التي رُصدت في المختبر، تستلزم أولا تشابك الجسيمين. ثم تُجرى بعد ذلك عملية قياس على أحد الجسيمين، مع مادة تحتوي المعلومات المراد نقلها. تمحو عملية القياس المعلومات من موقعها الأصلي، ولكن بسبب تشابك الجسيمين، فإن هذه المعلومات توجد على الجسيم الآخر بطريقة مكوّدة بغض النظر عن بعده عن الجسيم الأول. ومن الممكن فك تكويد المعلومات وقراءتها باستخدام نتائج عملية القياس كمفتاح لذلك. [انظر: «النقل البُعدي الكمومي»، مجلة العلوم، العددان 1/2(2001)، ص 38].

 

تصنيف الحواسيب(*******)

يمثل الحاسوب المحمول النهائي وحاسوب الثقوب السوداء أسلوبين مختلفين لزيادة قدرة الحوسبة. فالحاسوب المحمول النهائي هو الحاسوب المتوازي الأعظم: شبكة من المعالجات تعمل بشكل متزامن، في حين أن الثقب الأسود هو الحاسوب المتتالي الأعظم: معالج واحد ينفذ التعليمات واحدة بعد الأخرى.
http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00929.jpg

يتكون الحاسوب المحمول النهائي من مجموعة من الجسيمات التي تكوّد المعلومات وتعالجها. ويستطيع كل جسيم تنفيذ تعليمة واحدة في كل 20-10 ثانية. خلال هذه الفترة الزمنية تقطع الإشارات مسافة قدرها 3×10-12متر، وهذه تساوي بالتقريب المسافة الفاصلة بين الجسيمات. ولما كان التواصل بين الجسيمات أبطأ بكثير من سرعة الحساب فإن المناطق المختلفة من الحاسوب تعمل بصورة مستقلة تقريبا.

وكذلك يتكون حاسوب الثقب الأسود من مجموعة من الجسيمات. وبسبب الثقالة فإنها تكوّد قدرا أقل من البتات معطية بذلك قدرة أكبر لكل بتة. ويستطيع كل جسيم تنفيذ تعليمة واحدة في 35-10 ثانية وهذا يساوي الزمن اللازم لكي تقطع الإشارة الثقب الأسود. ومن ثم فإن التواصل يسير بالسرعة ذاتها التي يتم بها الحساب. وهذا الحاسوب يعمل كوحدة واحدة.

 

 

وقد يمكن في الثقوب السوداء تطبيق عملية شبيهة؛ فأزواج من الفوتونات المتشابكة تتكون عند أفق الحدث. ويفلت واحد من فوتوني كل زوج من الثقب الأسود، مشكلا إشعاع <هوكنگ>، الذي يمكن رصده؛ في حين يسقط الفوتون الآخر مع المادة التي كانت قد شكلت الثقب أصلا فيصل إلى مركز الثقب. ويؤدي فناء annihilation الفوتون، الذي سقط في الثقب، دور عملية القياس، فينقل المعلومات المتضمنة في مادة الثقب إلى إشعاع <هوكنگ> المنبعث نحو الخارج.

 

تطور نظرية الثقوب السوداء(********)

«الثقوب السوداء هي أجسام ذات كثافة عالية جدا إلى حد لا يمكن معه حتى للضوء الإفلات منها» ـ أصبح تعريف الثقوب السوداء هذا مقولة رائجة في المقالات الصحفية ومحاضرات علم الفلك في السنة الأولى للدراسة الجامعية. إلا أنه على الأرجح تعريف خاطئ. فقد بين الفيزيائيون منذ أواسط سبعينيات القرن العشرين أنه يمكن للطاقة أن تفلت من ثقب أسود. ويعتقد معظم الفيزيائيين الآن أن المعلومات (التي تصف الشكل الذي تأخذه الطاقة) تستطيع الإفلات أيضا. وهذه المخططات تبين ثقبا أسود من وجهة نظر افتراضية من خارج الزمكان.
http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00930.jpg

حسب النظرية الكلاسيكية، المعتمدة على الفيزياء قبل الكمومية، فإن المادة التي تسقط في الثقب ـ متجاوزة أفق الحدث ـ لا تستطيع الإفلات أو إرسال معلوماتها خارج الثقب. وتبلغ مركز الثقب ـ التفرد ـ حيث تُبتلع كتلتها وتضيع معلوماتها.

زوج من الجسيمات الافتراضية

يقترح نموذج <هوروڤيتز> و<مالداسينا> أن الجسيم المنطلق نحو الخارج لا يحمل فقط مادة وإنما يحمل أيضا معلومات. ونظرا للتشابك الكمومي بين الجسيم المنطلق والجسيم الساقط في الثقب الذي يصبح متشابكا بدوره مع قطعة المادة، فإن معلومات المادة تنبعث إلى الخارج.

كان نموذج <هوكنگ> هو النموذج الأول الذي يحاول أخذ الاعتبارات الكمومية بالحسبان. تتشكل أزواج من الجسيمات الافتراضية (الكرات الحمراء والزرقاء في الشكل) عند أفق الحدث للثقب الأسود. يسقط فرد واحد من كل زوجين نحو التفرّد في حين ينطلق شريكه نحو الخارج. وتكون سبينات الجسيمات عشوائية ولا تحمل أية معلومات بخصوص المادة الساقطة.

 

ما يختلف هنا عن النقل البعدي الذي يُجرى في المختبر هو أن نتيجة هذا «القياس» ليست ضرورية لفك كود المعلومات التي تم نقلها من بُعد. لقد حاول <هوروڤيتز> و<مالداسينا> أن يبينا أن فناء الفوتون لا يؤدي إلى نتائج ممكنة متعددة وإنما إلى نتيجة واحدة فقط. ومن ثم يستطيع راصد خارجي حساب هذه النتيجة الممكنة الوحيدة باستخدام مبادئ الفيزياء الأساسية وأن يصل إلى المعلومات. وهذا الأمر هو الذي يقع خارج الإطار العادي للميكانيك الكمومي. ومع أن ذلك مازال مثار جدل إلا أنه يبدو أمرا معقولا. ذلك أنه تماما كما أن التفرد (الشذوذ) البدائي في بداية الكون ربما كانت له حالة ممكنة واحدة فمن المحتمل كذلك ألا تكون للتفردات النهائية داخل الثقب الأسود سوى حالة واحدة أيضا. وفي الشهر 6/2004 قام أحدنا <لويد> بتبيان أن آلية <هوروڤيتز> و<مالداسينا> متينة، فهي لاتعتمد على الحالة النهائية بصورة دقيقة مادامت توجد حالة. ولكن مع ذلك، يبدو أن هذه الآلية تؤدي إلى ضياع قدر قليل من المعلومات.

 

يعد فهم الكيفية التي يمكن بها للمعلومات أن تفلت من

الثقب الأسود أحد أكثر التساؤلات النشطة في الفيزياء حاليا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI_index_2005b21N1-2_H00_00916.jpg

 

بيد أن باحثين آخرين قاموا بافتراض آليات إفلات تعتمد كذلك على ظواهر كمومية غريبة. ففي عام 1996 قام <A. سترومنگر> و<C. ڤافا> [من جامعة هارڤارد] باقتراح مفاده أن الثقوب السوداء أجسام مركبة تتكون من بنى متعددة الأبعاد تسمى برينات branes تظهر في نظرية الأوتار. تُخزن المعلومات التي  تسقط في ثقب أسود في موجات في هذه البرينات. ومن الممكن أن تفلت هذه المعلومات في النهاية نحو الخارج. وفي وقت مبكر من عام 2004 نمذج <S. ماثور> وزملاؤه [من جامعة ولاية أوهايو] الثقب الأسود بصورة كرة عملاقة من الأوتار المتشابكة. وهذه الكرة من الأوتار تتصرف كما لو كانت مخزنا للمعلومات المتضمنة في الأشياء التي تسقط في الثقب الأسود. والثقب يبعث إشعاعا يعكس هذه المعلومات. بيد أن <هوكنگ> في مسعاه الحديث أظهر أن التأرجحات الكمومية تحول دون تشكيل أفق حدث محدد [انظر: «نظرية جديدة لهوگينك»، أخبار علمية، مجلة العلوم، العددان 8/9(2004)، ص 86]. ولاتزال هذه الأفكار جميعها قيد التقييم.

 

الزمكان السيبري(*********)

وترتبط خصائص الثقوب السوداء ارتباطا وثيقا بتلك المتعلقة بالزمكان. وهكذا إذا كان بالإمكان النظر إلى الثقوب السوداء كحواسيب فالأمر كذلك بالنسبة إلى الزمكان. ويتنبأ الميكانيك الكمومي بأن الزمكان، شأنه في ذلك شأن سائر المنظومات الفيزيائية، متقطع: لا يمكن قياس المسافات أو الفترات الزمنية بدقة لامتناهية؛ فالزمكان، في نطاق صغير جدا، حُبيبي ورغوي. والمقدار الأقصى من المعلومات الذي يمكن أن تحتويه منطقة معينة من الفضاء يعتمد على مدى صغر البتات التي لا يمكن أن تكون أصغر من الخلايا الرغوية.

حوسبة الزمكان(**********)

إن قياس المسافات والفترات الزمنية هو أحد أنواع الحوسبة ويخضع للقيود نفسها التي تخضع لها حسابات الحواسيب. ويبدو أن القياس هو عملية أكثر رهافة بكثير مما كان يظنه الفيزيائيون.
http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00932.jpg

للقيام بعملية مسح لحجم ما في الفضاء من الممكن استخدام كوكبة سواتل مرتبطة بنظام تحديد المواقع العالمي التي تجري القياس عن طريق إرسال الإشارات وقياس أزمنة وصولها. وللقيام بذلك بشكل دقيق يجب استخدام عدد كبير من السواتل. لكن لو استخدمنا عددا كبيرا جدا منها فإنها ستنهار متحولة إلى ثقب أسود.

لقياس منطقة نصف قطرها ضعفا نصف قطر الحجم الأول يمكن استخدام ضعفي العدد من السواتل المستخدمة لقياس الحجم الأول. ولكون الحجم أكبر بثمانية أضعاف يجب زيادة المسافة بين السواتل، أي إن كلا منها يجب أن يغطي منطقة أوسع وهذا ينقص دقة القياس.

نصف القطر: 100 كيلومتر

عدد السواتل: 4
المسافة الفاصلة بين السواتل: 90 كيلومترا

نصف القطر: 200 كيلومتر

عدد السواتل: 8
المسافة الفاصلة بين السواتل: 150 كيلومترا

الزيادة في الخطأ: %26

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00933.jpg

ليس الارتياب في القياس إذا ثابتا، وإنما يمكن أن يتغير تبعا لحجم الجسم الذي نقيس أبعاده. فكلما كان الجسم كبيرا قل وضوح تفصيلاته الدقيقة. وهذا يختلف عما هو معتاد في عمليات القياس المعهودة حيث لا يعتمد عدم الدقة في القياس على الجسم الذي نقيسه وإنما يعتمد فقط على تدريج أداة القياس ذاتها. فالأمر كما لو أن اختيارنا لما نقيس يؤثر في بنية الزمكان في المقياس الدقيق.

 

لطالما افترض الفيزيائيون أن حجم هذه الخلايا يتحدد بطول پلانك (pן) 35-10: متر، وهذه هي المسافة التي تكون عندها التأرجحات الكمومية والتأثيرات الثقالية ذات أهمية. وإذا كان الأمر كذلك فإن الطبيعة الرغوية للزمكان ستكون دائما أصغر من أن يكون بالإمكان ملاحظتها. بيد أن أحدنا <نگ> و<H. ڤان دام> [من جامعة نورث كارولاينا في تشاپل هل] و<F. كارولهازي> [من جامعة إيوتڤوس لوراند في هنگاريا] بينوا أن الخلايا في الحقيقة أكبر كثيرا. وفي الواقع، ليس لها حجم ثابت: فكلما كان حجم المنطقة الزمكانية أكبر كان حجم الخلايا المكونة لها أكبر أيضا. وتبدو هذه الفكرة كما لو كانت متناقضة ـ إذ إن ذلك يشبه قولنا إن ذرات الفيل أكبر من ذرات الفأر. وفي الحقيقة فإن <لويد> توصّل إلى هذه الفكرة من القوانين نفسها التي تحد من القدرة الافتراضية للحواسيب.

 

إن عملية مسح هندسة الزمكان هي أحد أنواع العمليات الحاسوبية، والتي تقاس فيها المسافات بإرسال المعلومات ومعالجتها. وإحدى طرق القيام بذلك تكمن في ملء منطقة من الزمكان بكوكبة من السواتل المرتبطة بنظام تحديد المواقع، بحيث يمتلك كل ساتل منها ميقاتية ومرسل موجات راديوية (انظر الشكل في هذه الصفحة). ولقياس مسافةٍ ما يرسل الساتل إشارة راديوية ويقيس الزمن اللازم لوصولها. وتعتمد دقة القياس على تواتر دقات الميقاتية، وهي عملية حاسوبية تخضع لنظرية <مارگولوس> و<ليڤيتين>، أي إن الزمن الفاصل بين الدقات يتناسب عكسا مع الطاقة.

 

والطاقة بدورها محدودة أيضا. فإذا كان لدى السواتل طاقة كبيرة أو كانت متراصة بصورة كثيفة، فإنها ستشكل ثقبا أسود ولن يعود بإمكانها الإسهام في عملية المسح لهندسة الزمكان. (بيد أن الثقب سيستمر في إصدار إشعاع <هوكنگ>، ولكن طول موجة هذا الإشعاع سيكون بحجم الثقب ذاته تقريبا، ولن يكون بالإمكان الاستفادة منه في مسح تفصيلات أصغر منه.) هذا وتتناسب القيمة القصوى للطاقة الكلية لكوكبة السواتل مع نصف قطر المنطقة التي يراد مسحها.

 

لذا فإن الطاقة تتزايد بمعدل أبطأ من زيادة حجم المنطقة. ومع النمو المتزايد للمنطقة فإن المساح (رسام الخرائط) يواجه عملية مقايضة لا بد منها وهي: إما إنقاص عدد السواتل (فتصبح أبعد عن بعضها بعضا) وإما إنقاص الطاقة المخصصة لكل ساتل منها (فتصبح دقات ميقاتياتها أكثر بطئا). وفي كلتا الحالتين تصبح القياسات أقل دقة. ونعبر عن ذلك رياضياتيا بأنه خلال الزمن اللازم لمسح منطقة فضائية نصف قطرها R، يكون العدد الكلي لدقات ميقاتيات جميع السواتل مساويا R2/lp2 . فلو أن كل ساتل دق بالضبط دقة واحدة أثناء عملية المسح لوجب أن يكون متوسط المسافة بين السواتل 3/p2ןR1/3. ومن الممكن قياس مسافات أقصر في جزء من المنطقة، لكن ذلك سيؤدي إلى دقة أقل في أجزاء أخرى من هذه المنطقة. وتبقى هذه الحجة صحيحة حتى لو كان الفضاء يتمدد.

 

وهذه الصيغة 3/p2ןR1/3 هي حدود دقة قياس المسافات؛ وهي قابلة للتطبيق عندما يكون جهاز القياس على وشك أن يصبح ثقبا أسود. أما عند أبعاد أقل من هذا الحد الأدنى فتتوقف هندسة الزمكان عن الوجود. وهذا المستوى من الدقة أكبر، بل أكبر بكثير، من طول پلانك، مع أنه بالتأكيد صغير جدا. إن متوسط عدم الدقة في قياس حجم الكون القابل للرصد هو نحو 15-10 متر. ومع ذلك فإن مثل هذا القدر من عدم الدقة يمكن أن يكون قابلا للكشف بوساطة تجهيزات دقيقة لقياس المسافة، مثل المراصد المستقبلية الخاصة بكشف الموجات التثاقلية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00934.jpg

إن الكون حاسوب مؤلف من نوعين من المكونات. المادة [اللون الأحمر] وهي دينامية جدا، وتعمل كحواسيب متوازية عالية السرعة. والطاقة الخفية [اللون الرمادي] التي تبدو كما لو كانت ساكنة تقريبا؛ وتعمل كما لو كانت حاسوبا متسلسلا بطيء السرعة. وقد أنجز هذان المكونان معا من العمليات الحاسوبية بقدر ما تسمح به قوانين الفيزياء، وذلك لمجرد وجودها. إن الكون يحسب.

 

وتقدم هذه النتيجة للنظريين طريقة جديدة للنظر إلى الثقوب السوداء. وقد بيّن <نگ> أن قوانين المقياس للتأرجحات الزمكانية التي تتغير متناسبة مع الجذر التكعيبي للمسافة، تزودنا بطريقة أخرى لاشتقاق علاقة بيكنشتين-هوكنگ المتعلقة بسعة ذاكرة الثقوب السوداء، وكذلك فإن هذا المقياس يضع قيدا شاملا على جميع حواسيب الثقوب السوداء: إذ يتناسب عدد البتات في ذاكرتها مع مربع معدل الحوسبة. إن ثابت التناسب هو Gh/c5، الذي يبين الصلة الرياضياتية بين المعلومات ونظرية النسبية الخاصة (التي معاملها الرئيسي هو سرعة الضوء c) ونظرية النسبية العامة (الثابت الثقالي G) والميكانيك الكمومي (h).

 

ولعل الأهم من ذلك هو أن هذه النتيجة تؤدي مباشرة إلى المبدأ الهولوگرافي، كما يسمى، والذي يفترض أن كوننا الثلاثي الأبعاد هو، بطريقة ما عميقة لكنها غير مفهومة، ثنائي البعد. فيبدو أن القدر الأقصى من المعلومات الذي تستطيع أي منطقة من الفضاء تخزينه يتناسب، ليس مع حجم تلك المنطقة، وإنما مع مساحة سطحها(2). ويُفترض عادة أن المبدأ الهولوگرافي هو نتيجة لتفصيلات غير معروفة للثقالة الكمومية، وينشأ كذلك وبشكل مباشر عن الحدود الكمومية الأساسية المرتبطة بدقة القياس.

 

لقد أجرى الكون 10123 عملية(***********)

يمكن تطبيق المبادئ الحاسوبية ليس فقط على أكثر الحواسيب تراصا (الثقوب السوداء) وعلى أصغر الحواسيب الممكنة حجما (الرغاوى الزمكانية) وإنما يمكن تطبيقها أيضا على الحاسوب الهائل: الكون. ومن الممكن أن يكون الكون لامتناهيا في الاتساع، إلا أنه ذو عمر محدود، على الأقل بشكله الحالي. ويبلغ قطر الجزء القابل للرصد من الكون حاليا بضع عشرات البلايين من السنين الضوئية. وحتى نتمكن من معرفة نتائج حسابٍ ما، أجراه هذا الكون، يجب أن يكون هذا الحساب قد أجري في جزئه القابل للرصد.

 

إن التحليل المذكور آنفا بالنسبة إلى دقات الميقاتية يتيح أيضا حساب عدد العمليات التي يمكن أن تكون قد حصلت في الكون منذ نشأته حتى الآن، أي 10123. لنقارن هذه النتيجة بسلوك المادة المحيطة بنا ـ أي المادة المرئية، والمادة الخفية وكذلك ما يعرف بالطاقة الخفية التي تسبب تمدد الكون بشكل متسارع. إن كثافة الطاقة الكونية الملاحظة هي نحو 9-10 جول/متر3 مما يعني أن الكون يحتوي على 1072 جول من الطاقة. وبموجب مبرهنة <مارگولوس> و<ليڤيتين> فإن الكون يستطيع إجراء 10106 عملية في الثانية، أي ما يعادل 10123 عملية خلال عمره. وهذا يعني أن الكون قام بأكبر عدد ممكن من العمليات الحاسوبية المسموح به حسب قوانين الفيزياء.

 

لحساب سعة الذاكرة الكلية للمادة المعتادة، مثل الذرات، نستطيع تطبيق الطرق الكلاسيكية للميكانيك الإحصائي وعلم الكون. فالمادة تستطيع تخزين أقصى قدر من المعلومات عندما تتحول إلى جسيمات عديمة الكتلة وذات طاقة عالية، مثل النيوترينوهات أو الفوتونات، والتي تتناسب كثافة أنتروپيتها مع مكعب درجة حرارتها. إن كثافة طاقة الجسيمات (التي تحدد عدد العمليات الحاسوبية التي تستطيع إجراءها) تتناسب مع درجة حرارتها مرفوعة للقوة الرابعة. ومن ثم فإن العدد الكلي للبتات هو عدد العمليات مرفوعا للقوة ثلاثة أرباع. وبالنسبة إلى الكون كله فإن هذا العدد من البتات هو تقريبا 1092 بتة. وإذا كان للجسيمات بنية داخلية، فإن هذا العدد سيكون أكبر قليلا. وهذه البتات تنقلب بمعدل أسرع من معدل تواصلها فيما بينها، مما يعني أن المادة العادية عبارة عن حاسوب يعمل بالتوازي إلى حد كبير، مثله في ذلك مثل الحاسوب المحمول النهائي وليس مثل الثقب الأسود.

 

لقد أجرى الكون العدد الأعظم من العمليات الحاسوبية

 المسموح به وفق قوانين الفيزياء.

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N1-2_H01_00935.jpg

 

أما بالنسبة إلى الطاقة الخفية فإن الفيزيائيين لا يعرفون ماهيتها، ناهيك عن أن يعرفوا كيف يحسبون مخزونها من المعلومات. بيد أن المبدأ الهولوگرافي يقتضي أن الكون يستطيع تخزين 10123 بتة كحد أقصى، وهو تقريبا عدد العمليات الحاسوبية جميعها. وهذه المساواة التقريبية بينهما ليست وليدة المصادفة، فكوننا قريب من كثافته الحرجة. فلو كانت كثافته أكبر بقليل فلربما انهار ثقاليا تماما مثل المادة التي تسقط في ثقب أسود. لذلك فهو، أي الكون، يحقق (أو يحقق تقريبا) الشروط التي تجعل عدد العمليات الحاسوبية أعظميا. وهذا العدد الأقصى هو p2ן/R2  وهو عدد البتات بموجب المبدأ الهولوگرافي. وفي أي وقت في تاريخ الكون يكون العدد الأقصى من البتات التي يستطيع الكون أن يحويها مساويا تقريبا لعدد العمليات التي أجراها الكون حتى تلك اللحظة.

 

وبينما تحصل أعداد هائلة من العمليات في المادة العادية، فإن الطاقة الخفية تسلك بشكل مختلف تماما. فإذا كانت هذه الطاقة تقابل الحد الأقصى من البتات الذي يسمح به المبدأ الهولوگرافي، فإن معظم هذه البتات لم يكن لديها الوقت الكافي لكي تنقلب أكثر من مرة واحدة خلال تاريخ الكون. ومن ثم فإن هذه البتات غير العادية هي مجرد مُشاهد سلبي للعمليات الحاسوبية التي يجريها، بسرعة أكبر بكثير، العددُ الأقل من البتات العادية. فمهما كانت طبيعة الطاقة الخفية فإنها لا تقوم بحسابات كثيرة، وليس عليها أن تقوم بذلك. وتُعد مسائل تأمين المادة المفقودة في الكون وتوفير تسارع تمدده، مهماتٍ سهلة من ناحية حجم الحسابات التي يجب إجراؤها.

 

ما الذي يقوم الكون بحسابه؟ بموجب ما لدينا من معلومات لا يعطي الكون إجابة واحدة عن سؤال واحد. وفي الواقع، فإن الكون يحسب ذاته. فنظرا لأنه مزود ببرمجيات «النموذج المعياري» الذي يصف فيزياء الجسيمات الأولية، فإنه يحسب حقولا كمومية ومواد كيميائية وبكتيرات وكائنات بشرية ونجوما ومجرات. وخلال حساباته هذه فإنه يقوم بمسح هندسته الزمكانية بالدقة النهائية المسموح بها حسب قوانين الفيزياء. فالحوسبة هي الوجود نفسه.

 

هذه النتائج التي تشمل الحواسيب العادية والثقوب السوداء والرغوة الزمكانية، والكوسمولوجيا تعد شاهدا على وحدة الطبيعة. إذ إنها تبين الترابط المفاهيمي للفيزياء الأساسية. فمع أن الفيزيائيين لا يمتلكون بعد نظرية كاملة للثقالة الكمومية، فإن هذه النظرية، كائنة ما تكون، ستصير وثيقة الصلة بالمعلوماتية الكمومية.

 المؤلفان

Seth Lloyd – Y. Jack NG.

يعملان على الربط بين اثنين من أكثر حقول الفيزياء النظرية إثارة، نظرية المعلومات الكمومية ونظرية الثقالة الكمومية. لويد، وهو أستاذ في هندسة الميكانيك الكمومي في المعهد MIT، صمم أول حاسوب كمومي عملي. ويقوم مع فرق مختلفة بإنشاء وتشغيل حواسيب كمومية ونظم اتصالات. أما نگ [أستاذ الفيزياء في جامعة نورث كارولينا في تشاپل هِل] فيدرس الطبيعة الأساسية للزمكان. وقد اقترح طرقا تجريبية متنوعة للبحث عن البنية الكمومية للزمكان. ويقرر كلا الباحثين أن أكثر الناس تشككا في أقوالهما هم أفراد عائلتيهما؛ فحين أخبر <لويد> بناته أن كل شيء مصنوع من بتات أجابت إحداهن على الفور «أنت مخطئ يا أبتِ. كل شيء مصنوع من الذرات عدا الضوء.» كذلك فقد <نك> مصداقيته حول الموضوع لأن عليه دائما أن يطلب المساعدة إلى أبنائه فيما يتعلق بحاسوبه.

مراجع للاستزادة 

Ultimate Physical Limits to Computation. Seth Lloyd in Nature, Vol. 406, pages 1047-1054; August 31, 2000. Preprint available at arxiv.org/abs/quant-ph/9908043

From Computation to Black Holes and Space-Time Foam. Y. Jack Ng in Physical Review Letters, Vol. 86, No. 14, pages 2946-2949; April 2, 2001. Erratum, Vol. 88, No. 13, article 139902(E); March 14, 2002. gr-qc/0006105
Computational Capacity of the Universe. Seth Lloyd in Physical Review Letters, Vol. 88, No. 23, article 237901Z; June 10, 2002. quant-ph/0110141

The Black Hole Final State. Gary T. Horowitz and Juan Maldacena in Journal of High Energy Physics, JHEP02(2004)008, 2004. hep-th/0310281

Information: The New Language of Science. Hans Christian von Baeyer. Harvard University Press, 2004.

Scientific American, November 2004

(*) العنوان الأصلي: BLACK HOLE COMPUTERS أو حواسيب الثقوب السوداء.

(**) Overview/ Cosmic Computers

(***) When Gigahertz Is Too Slow

(****) Extreme Computing

(*****) Escape Plan

(******) Classifying Computers

(*******) Escape Plan

(********)Evolution of Black Hole Theory

(*********) Computing Spacetime

(**********) Cyberspacetime

(***********) العنوان الأصلي: The Answer Is… 42

 

(1) [انظر: The Quantum Mechanics of Black Holes,by S. W. Hawking;Scientific American, January 1977].

(2) [انظر: “Information in the Holographic Universe”,by Jacob D. Bekenstein;Scientific American, August 2003].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى