مسألة تغذية
مسألة تغذية(*)
بشّرت العولمة باقتراب عالم يتجاوز فيه عدد المتخمين غذائيا بليونا من البشر،
ومع ذلك لايزال مئات الملايين يعانون جائحة مجاعة مستمرة.
<G.ستيكس>
مفاهيم مفتاحية
نجا العالم من سيناريوهات كئيبة لمجاعة تم التكهن بها خلال ستينات القرن الماضي. حصل تحوّل تغذوي(1) تبدّى فيه الجوع والبدانة في الدول النامية بشكل متزامن(2). وبشكل عام، تُعدّ البدانة مشكلة صحية عامة تفوق مشكلة المجاعة، وحتى الآن لا يوجد إلاّ عدد قليل من الحلول لهذا الوباء الناشئ(3). يُنتج المزارعون ما يكفي لجميع البشر، لكن المجاعة مستمرة بسبب الصراع السياسي والكوارث الطبيعية وفقر الريف. يتابع إخصائيو الزراعة استكشاف ما إذا كانت المحاصيل المحوّرة جينيا(4) تستطيع المساعدة على إطعام العالم؛ في حين تتصارع الدول الصناعية مع الاغتذاءnutritionism، أي مع مفهوم الغذاء كدواء(5). محررو ساينتفيك أمريكان |
في عام 1963 واجه حوالي 200000 هندي في غربي البنغال وفي أسّام مجاعة وشيكة الحدوث. وبعد ذلك بسنوات قليلة سبب الجفاف نقصا غذائيا شديدا في ولاية بيهار المجاورة. وفي مقابل التقارير التي نشرت في هذا الصدد، استشفَّ البيولوجي <p.إهرليتش> في كتابه «القنبلة البشرية»(6) الذي صدر في عام1968، أن مئات الملايين سيتضوّرون جوعا حتى الموت خلال بضع سنوات فقط، إذ إن النمو السكاني تعدّى المصادر الغذائية المحدودة.
وهذا السيناريو المالثوسي الحديث(7) لم يحصل قط. ففي الهند، تفادت الثورة الخضراء في الزراعة حدوث حالة «من الباخرة إلى الفم»(8)، حالة يحتاج الأمر فيها إلى الضرورة الحتمية للمعونة بغية درء حالة أشد سوءا كان < إهرليتش> قد تكهن بها. وفي السنوات الأربعين التي تلت ذلك حدث في الهند تحول جذري، وهي الآن تزيِّن أغلفة مجلات كعملاق اقتصادي بازغ. ومع حلول القرن الحالي، يواجه العالم النامي الآن مشكلة مع البدانة أكثر مما يواجه مع المجاعة ـ إنها منتج اجتماعي للعولمة يعرف باسم النّقلة التغذوية(9). ولأول مرة، سجلت هذه الألفية أن عدد أصحاب الوزن الزائد ساوى عدد من يعانون نقص التغذية في العالم. وعلى الصعيد الديموغرافي، فإن 1.3 بليون من المتخمين يفوقون عدد الجياع ببضع مئات الملايين.
لقد بات الأغنياء والفقراء قلقين حول العديد من الأشياء ذاتها على طاولة الأكل. فمثلا، أقام استعمار الكولا(10) ـ وهو مصطلح يكثر استخدامه حتى في النشرات الأكاديمية ـ بنية تحتية عالمية لصالح ما يسمّى كوميدا شاتارّا(11)، وتلك هي الصفة المكسيكية للطعام الغثّ(12). وقد أبرم موزعو كوكاكولا اتفاقات حصرية تدنّت إلى مستوى تينداز(13) الجوار، حيث يُزود أصحابُ المحال التجارية بالبرادات (الثلاجات) والمواد اللازمة لبيع الكوكاكولا. وفي الوقت الحالي يحصل المكسيكيون على كالوريات (سعرات حرارية) من المشروبات المحلاة أكثر من الأمريكيين أنفسهم. وتبعا لذلك، فإن ازدياد أعداد الأسواق المركزية المنتشرة في الولايات المتحدة عزز بشكل واسع الإقبال على زيوت الذرة وفول الصويا وغيرها من الزيوت النباتية.
صحيح إن الثورة الخضراء قد أحبطت المجاعة على نطاق واسع، لكن عبقرية تقانية مشابهة أخفقت بشكل كامل في كبح الزيادة العالمية في قد الخصر (14).ففهم علوم الغدد الصم والأعصاب والجينات بخصوص البدانة يتقدم ولكن ببطء. فقد اكتشف العلماء جينة للقلق تعزّز احتراق الكالوريات. بيد أن هذه التبصّرات يجب أن تفضي إلى حبة أو قرص من أجل الحمية. هذا وقد سُحبَت من الأسواق في عام 1997 تركيبة دوائية لتخفيف الوزن عرفت باسم فين-فين(15)، وذلك بعد تقارير عن مشكلات قلبية سببتها هذه التركيبة. ويباع الآن دواء من دون وصفة طبية باسم أورلستات (ألّي)(16)، وذلك نتيجة لسجله المتباين، وفقا لبعض الأطباء، فيما يخص نجاعته ليمنح بوصفة طبية. وإذا ما نجح هذا الدواء بشكل جيد، فإن الوصفات الطبية له سوف تحقق لشركة «گلاكسو سميث كلين» سنويا عائدات ضخمة بالبلايين.
لم يستسلم منتجو الأدوية بعد، إنهم يدرسون جزيئات تحْصُر(17) الدماغ وكيمياويات الأمعاء التي تنشِّط الشهية، كما تحفّز جزيئات أخرى تساعد على زيادة معدل صرف الطاقة. لكنها أدوية لن تستهدف نقاط الضعف السيكولوجية التي تهدد بتقويض أفضل المعالجات. وحديثا تُبيِّن الأبحاث السلوكية أن إهمال حبات الحمية يشجع المرضى على الإذعان لإغراءات سندويشات لحم الخنزير المزدوجة من الجبن، والاستلقاء على الكنبات في نهاية الأسبوع لمشاهدة عروض متكررة للسوپرانو(18). وكذلك تتمثّل الآثار الجانبية في الاستغراق الدائم لدى استشارة المسارات التي تنظم أمرا ما أساسيّا مثل الأكل. ففي الشهر 6/2007سحبت شركة سانوفي أکنتس(19) طلبا لترخيص دواء مقترح لتخفيف الوزن (يسمّى Acomplia) يمكن أن يثير أفكارا انتحارية. فأوصت لجنة استشارية لإدارة الغذاء والدواء (FDA) بمنع ترخيصه.
يبدو أن الرهان الأبسط هو اتباع نظام نأكل وفقه أقل ونمارس تمارين رياضية أكثر. ومع ذلك فحتى طريقة الحياة الملتزمة تأتي مليئة بالتناقضات. فقد أظهرت دراسة عام 2005 أن المعدل الإجمالي للوفيات لدى الأشخاص ذوي الزيادة المتوسطة في الوزن يقل عن نظيره لدى ذوي الأوزان التي تقع ضمن المجال الصحي. ومنذ ذلك الحين، فإن الجماعة الأكاديمية المعنية بالتغذية ـ وقد غاصت في خضم المناقشات حول داء البدانة ـ أخذت تخفف من هجومها على تلك العواقب الوخيمة للبدانة.
فإذا كانت غالبية الحميات الغذائية لا تصلح على المدى البعيد، كما توحي بذلك أدلة كثيرة، فما الذي يمكن أن يفعله ذوو الوزن الزائد بدون حبة دواء أو خطة معالجة؟ تدعو حركة الإبقاء على لياقة الجسم على الرغم من السمنة(20)إلى عدم الالتفات إلى قرينة كتلة الجسم(21). وجدلية التمسك بالثوابت الثقافية بدلا من الانسياق لعلم الوبائيات، تستهوي عددا غير قليل من الناس. فالنساء في الريف النيجيري يتجنبن النحافة، وبعض رجال المدينة يحبون السمنة الزائدة، معبرين عن معنيً جديد لكلمة «بدين» phat.
ليست النقلة التغذوية بحال من الأحوال وحيدة السياق(22)؛ فالزائر إلى بيت متواضع في إندونيسيا قد يجد طفلا سمينا يضطجع على سرير في غرفة المعيشة وبجانبه شقيق ناقص التغذية، وهذه حجّة لصالح التأثيرات المتناقضة للأغذية الغنية بالسكر والزيوت النباتية. إن العالم ينتج غذاءً يكفي لإطعام كل شخص من ويستپام بيتش في الولايات المتحدة إلى بيونگ يانگ في آسيا. بيد أن استحضار الأرز من الحقل إلى الصحن غالبا ما يطرح تحديات. ومع أن عدد الجياع في العالم قد تناقص، فإن سوء التغذية مستمر؛ فمئات الملايين لا يحصلون على كم كاف من الكالوريات يوميا.
الوزن الزائد ـ ومضاعفاته الصحية اللاحقة ـ يؤثر في البالغين والأطفال في بلدان غنية وفقيرة. ومع ذلك، هناك 800 مليون نسمة أو نحو ذلك لا يملكون ما يكفي لقوتهم
|
وفي هذه الأثناء، قد تكون الثورة الخضراء تستحثُّ إمكانات نموها الخاصة. ففي الوقت الذي يتصاعد إنتاج المحاصيل بشكل ثابت منذ ستينات القرن الماضي، يوم بدأ المزارعون في الدول النامية لأول مرة بزراعة الحبوب المهجنة واستخدام الأسمدة والري والمبيدات، فإن المساحات الصالحة للزراعة تبقى على حالها. ويشار إلى أن الاستخدام المكثف للمبيدات قد يحدُّ كذلك من المزيد من الحبوب بسبب تلوث مياه الشرب.
هل ستلحق الجينات بالثورة الخضراء(**)؟
نظريا، يمكن «للثورة الجينية»(23) القائمة على المحاصيل المحوّرة وراثيّا أن تعوّض أعْوَاز الثورة الخضراء. إنّ تبنّي ممارسات جديدة في ستينات القرن الماضي، وهو الذي أزكتْه الإعانات المالية من حكومات ومجموعات متعددة الجنسيات، قد حدث بين عشية وضحاها، ولكن لابد لمحاصيل التقانة البيولوجية للعالم النامي من أن تثبت جدارتها. فالقطاع الخاص الذي ينتج متعضّيات (كائنات حية) محوّرة وراثيّا(24)(GMOs) ، يفرض في بعض الأحيان أسعارا مرتفعة تجعل مخزونات البذور تفوق ميزانيات المزارع الصغيرة والمتوسطة الحجم في العالم النامي. ومع أن عددا غير قليل من الدول النامية قام بتجريب الذرة وفول الصويا المحوّرة وراثيّا محقّقا بذلك بعض النجاح، فإن إمكان هذهِ التقانة كوسيلة معينة لتنمية مناطق معيّنة (أي لإنتاج محاصيل تصمد للجفاف أو تنمو في الترب المالحة) مازال ينتظر تحقيقه على نطاق تجاري.
إن البدانة والمجاعة توجدان جنبا إلى جنب في الدول النامية، أما العالم الصناعي فإنه يُصارع فوضاه الغذائية الخاصة. فالأنظمة الغذائية المصممة بعناية تنصح برقم دقيق فيما يتعلق بالوجبات الغذائية اليومية لكل من اللحم والألبان والفواكه والخضراوات. وعلى الرغم من مراجعة هذه الأنظمة في السنوات الأخيرة، فإن الهرم الغذائي لوزارة الزراعة في الولايات المتحدة لايزال يتلقى نصيبا متزايدا من الرفض من قبل العديد من علماء التغذية.
إن الأساس العلمي لتخطيط وجبة وطنية مضبوطة لايزال شحيحا قطعا؛ إذ تعتمد غالبية الأبحاث العلمية على تقفي أثر مغذٍّ منفرد بعينه وتخفق في تحديد الإسهامات الأخرى، سواء أكانت جينية أم سلوكية، التي قد تؤدي إلى أمراض قاتلة كمرض الشريان الإكليلي والداء السكري. إن ضرورة الإفراط في التبسيط تساعد على تفسير الإسقاط المستمر للحكمة السائدة عبر دراسات تدّعي بأن تناول المزيد من الألياف لا يمنع السرطان وأن الأغذية الفقيرة بالدهون لا تفيد في منع الإصابة بمرض القلب وسرطان القولون والمستقيم. ويحاول <M.نستِل> [كاتب المقالة الافتتاحية في هذا العدد الخاص بعنوان «تبسيط الأكل»(25)] أن يوضّح الأمور لأصحاب الأسواق المركزية الحائرين، وذلك من خلال العبارة التالية: كُلْ أقل وتحرك أكثر واستهلك كثيرا من الفواكه والخضراوات والحبوب الكاملة وتجنب الأطعمة الجاهزة.
يتوسع المدّ العالمي لوباء السمنة إلى الدول النامية، ويعود انتشاره جزئيا إلى وجود الأطعمة الغّثة junk food.
|
إن مناشدات تبسيط الأمور لا تبتعد كثيرا عمّا يمكن أن يسمى «حمية مارك توين»(26). فلقد اختزل <توين> تعقيدات موازين الطاقة الغذائية في جملة واحدة: «إن جزءا من سر النجاح في الحياة يتمثل في أن تتناول ما تحب، وتدع الطعام يحسم أمره داخل جسمك.» كما أن أحد أتباع مذهب توين الجدد [من بينهم <M.پولان> مؤلف المقالة المعلن عنها كثيرا The Omnivore’s DilemmaPenguin, 2006] يناقش مسرّات الطعام، في حين يتجاهل المذهب التغذوي الذي يتمثل في البحث عن مغذّيات كدواء، وهو مسعيً قد يفشل من باب المفارقة في تحسين الصحة. ويستحثُّ <پولان> المستهلكَ أن «يدفع أكثر، ويأكل أقل»، وذلك عبر شراء الأطعمة العضوية أو المواد الغذائية التي تحتفظ بمذاقها إلى جانب قيمتها الغذائية. وإذا ما اتبع المرء دعوة <پولان> هذه، فلن يجد ثمة تعارضا بين فنون الطبخ وعلوم التغذية وسيلاحظ أن كليهما يرفض بشدة البسكوتة المدعمة بالکيتامينات كبديل لوجبة طعام.
(*)A QUESTION OF SUSTENANCE
(**) Will Gene Follow Green?
(1) nutrition transition
(2) hunger and obesity concurrently
(3) emerging epidemic
(4)genetically modified crops
(5) the notion of food as medicine
(6) The Population Bomp
(7) neo-Malthusian scenario
(8) ship to mouth
(9) overnourished
(10) Coca-Colonization
(11) comida chatarra
(12) junk food وتطلق أحيانا على «الطعام السريع».
(13) tiendas
(14) waist size وهنا يقصد البدانة.
(15) Fen-Phen
(16) orlistat alli
(17)block
(18) :Sopranos كلمة تعني مسلسلا طويلا.
(19)Sanofi Aventis
(20) fit-but-fat movement
(21) body mass index
(22)monolithic
(23)gene revolution
(24) genetically modified organisms
(25)Eating Made Simple
(26)Mark Twain diet
n