أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أركيولوجيابشر

الأول من شاكلتنا

الأول من شاكلتنا(*)

أحافير مدهشة من جنوب إفريقيا قد تجدد
الجدل حول الكيفية التي صرنا من خلالها بشرا.

<K. وونگ>

 

باختصار

  إن أصل جنسنا «هومو» Homo هو واحد من أكثر مسائل تطور الإنسان – التي تواجه العلماء – غموضا.

بناء على الأدلة الضئيلة المتوافرة لخّص العلماء نشوء الجنس هومو في شرق إفريقيا حیث قدم النوع أسترالوبثیكس آفارینسیسAustralopithecus afarensis، نوع الأحفورة لوسي Lucy، السلف المؤسس لسلالتنا، هومو هابیلس Homo Habilis.

الأحافیر المكتشفة مؤخرا من موقع في شمال غرب جوهانسبيرگ، في جنوب إفريقيا، قد تقلب هذا السيناريو. إذ تقدم الأحافير أنواعا غير معروفة من قبل من البشر بخليط من سمات الأسترالوبثیكس والهومو والتي تقترح لمكتشفيها بأنها قد تكون سلفا للهومو.

 

 

في وقت من الأوقات ما بين ثلاثة ملايين ومليوني سنة خلت، ربما على أراضي الساڤانا القديمة في إفريقيا أصبح أسلافنا بشرا يمكن تمييزهم بجلاء. فلأكثر من مليون سنة ازدهر أسلافهم الأسترالوپيثيسينات australopithecine – لوسي Lucy وسلالتها، التي كانت تمشي منتصبة الجسم مثلنا ولكنها ما زالت تمتلك ساقين قصيرتين ويدين متكيفتين لتسلق الأشجار وأدمغة صغيرة، وهي صفات تميز أسلافها القردة – في غابات القارة وأحراجها وما حولها. ولكن عالمهم كان آخذا في التغير. فقد سهّل تغير المناخ انتشار المروج العشبية، ونشأ عن الأسترالوپيثيسينات الأوائل سلالات جديدة. وقد طورت إحدى هذه السلالات سيقانا طويلة وأيديَ متكيفة لتصنيع الأدوات، وأدمغة كبيرة. وكان هذا جنسنا هومو Homo، أحد الرئيسيات الذي سيحكم الكوكب.

وعلى مدى عقود نقّب علماء الأنثروبولوجيا القديمة paleoanthropologistsمناطق نائية في إفريقيا بحرص وتمعن بحثا عن الأحافير الممثلة لأبكر أفراد الجنس هومو، سعيا إلى فهم تفاصيل كيف برز فيها جنسنا. ولكن جهودهم لم تفض إلا إلى مكاسب متواضعة: عظمة فك هنا وحفنة من الأسنان هناك. ومعظم الأحافير التي تم الحصول عليها تنتمي بدلا من ذلك إما إلى الأسلاف من الأسترالوپيثيسينات أو إلى أفراد أحدث من الجنس هومو – مخلوقات، متقدمة جدا لا توضــح التســلسل الــذي أدى إلى نشوء ســمـــاتنــا المميــزة أو الضغوط الانتقائية التي أدت إلى ظهورها. لقد استعصى عليهم اكتشاف عينات يزيد عمرها على مليوني سنة وتضم عناصر هيكلية متعددة محفوظة كان يمكن لها أن تكشف عن كيفية تشكل بنية الجنس هومو. إن أفضل تخمين للعلماء هو أن التحوّل حدث في شرق إفريقيا، حيث وجدت الأحافير الأقدم التي تنـتسب إلى الجنس هومو أن سمات هومو المميزة سمحت له بإضافة المزيد من اللحم في نظامه الغذائي – مصدر غني بالكالوريات (السعرات الحرارية) calories في بيئة أصبحت فيها الفواكه والبذور (المكسرات) نادرة. ولكن مع قلة الأدلة الضرورية للاستدلال بقي أصل جنسنا على غموضه المعهود.

يعتقد <L. برگر> [وهو عالم أنثروبولوجيا قديمة، في جامعة ويتواترسراند بجوهانسبيرگ في جنوب إفريقيا] أنه وجد قطعة كبيرة من اللغز، حيث اكتشف حديثا مجموعة نفيسة من الأحافير يعتقد مع فريقه أنها يمكن أن تحدث ثورة في فهم الباحثين لجذور الجنس هومو. فمن بين جوانب الجدران البيضاء للغرفة 210 في معهد تطور الإنسان(1)  التابع للجامعة يراقب <برگر> <B. وود> [من جامعة جورج واشنطن] وهو يخطو أمام أربعة صناديق من البلاستيك تم نقلها من خزنتها المضادة للحريق ووضعها على طاولة مغطاة بمخمل من اللون الأزرق الملكي. الصناديق المبطنة بالفلين مفتوحة، وتكشف عما تحويه من الأحافير التي يعود عمرها إلى ما يقرب من مليوني سنة. الأول يحوي عظام الحوض والساق. والثاني يحتوي على أضلاع وفقرات. والثالث يعرض عظام ذراع وترقوة واحدة. أما الرابع فيؤوي جمجمة. وعلى منضدة مقابلة للطاولة، يوجد المزيد من الصناديق التي تحوي أجزاء من هيكل ثان غير كامل بما في ذلك عظام يد كاملة تقريبا.

يتوقف <وود>، وهو شخصية مؤثرة جدا في هذا الميدان، أمام الجمجمة وينحني فوقها لإلقاء نظرة فاحصة. يمسد لحيته وهو يتفحّص الأسنان الجيدة التشكل، والجمجمة بحجم ثمرة الگريپفروت. ومن ثم يستقيم في وقفته وهو يهز رأسه قائلا ببطء وكأنه يكلم نفسه: «نادرا ما تعوزني الكلمات، ولكن مدهش، فقط مدهش.»

يبتسم <برگر> ابتسامة عريضة. لقد رأى رد الفعل هذا من قبل. فمنذ أن كُشف النقاب عن المكتشفات في عام 2010، تدفق العلماء من جميع أنحاء العالم إلى مختبره ليحدقوا بذهول في الأحافير المثيرة. واستنادا إلى المجموعة التشريحية الفريدة التي تقدمها هذه الهياكل العظمية، نسب <برگر> وفريقه البقايا إلى نوع جديد، أسترالوپيثيكس سيديبا australopithecus sediba. وقد اقترحوا، إضافة إلى ذلك، أن الاجتماع الواضح في العظام بين سمات الأسترالوپيثيكس البدائية وسمات الجنس هومو المتطورة يؤهل النوع إلى أن يحتل مكانا متميزا في شجرة العائلة: بوصفه سلفا للجنس هومو. إن الرهانات كبيرة. فإذا كان <برگر> محقا، سيتعين على علماء الأنثروبولوجيا القديمة أن يعيدوا التفكير كليا في أين ومتى وكيف كانت بداية الجنس هومو – وما هو معنى أن تكون إنسانا في المقام الأول.

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_21.jpg
نوع جديد من الإنسان من جنوب إفريقيا – أسترالوبثیكس سيديبا Australopithecus sedibahas ينظر له كسلف لجنسنا هومو.

 

الطريق الذي لم يُسلَك(**)

في منتصف الطريق الترابي الذي تتناثر فيه الصخور والذي يتعرج عبر محمية جون ناش الطبيعة، يوقف <برگر> السيارة (الجيب) ويشير إلى طريق أضيق يتفرع منه إلى اليمين. فعلى مدى 17 عاما كان يقوم برحلة الأربعين كيلومترا باتجاه الشمال الغربي من جوهانسبيرگ إلى قطعة من الأرض البرية ذات الملكية الخاصة والتي تبلغ مساحتها 9000 هكتار وكان يتجاوز هذا الطريق الفرعي، متابعا على طول الطريق الرئيسي، متجاوزا مواطن الزرافات والخنازير البرية والظباء، إلى كهف كان يستكشفه لا يبعد عنها إلا بضعة كيلومترات يدعى گلاديسڤال Gladysvale. وفي عام 1948 جاء عالما الأحافير الأمريكيان <F. پيبودي> و<Ch. كامب> إلى هذه المنطقة للبحث عن أحافير البشريات hominins (أفراد الإنسان الحديث وأقرباؤه المنقرضون) بناء على نصيحة من عالم الأحافير الجنوب إفريقي الشهير <R. بروم> الذي كان قد وجد أمثال هذه الأحافير في كهفي ستركفونتاين Sterkfontein وسوارتكرانسSwartkrans على بعد ثمانية كيلومترات. لم يكن <پيبودي> معجبا بالمواقع الأحفورية هنا البتة، لدرجة ظن فيها أن <بروم> قد أرسلهم في حملة لا طائل منها. ولم يعرف <برگر> أو المستكشفون من قبله أنهم لو اتبعوا هذا الممر الأضيق – (أحد مسارات عمال المناجم المتعددة التي استخدمت في وقت من القرن التاسع عشر لنقل الحجر الجيري، الذي بنيت منه أبنية جوهانسبيرگ، من مقالعه إلى الطريق الرئيسي) – لكانوا قد وقعوا على اكتشاف العمر.

لم يتخيل <برگر> مطلقا [الذي يبلغ الآن 46 سنة من العمر] أنه سيجد شيئا مثل أسترالوپيثيكس سيديبا. فعلى الرغم من أنه كان يعتقد أن جذور (أصول) هومو قد تكون في جنوب إفريقيا بدلا من شرق إفريقيا، فقد كان يعلم أن احتمالات إيجاد لـقية كبيرة كانت ضئيلة. إن أحافير البشريات نادرة للغاية، ولذلك بحسب قوله: «لم يكن لدينا أي توقعات». وما هو أكثر من ذلك، كان يركز على ما يدعى مهد الجنس البشري Cradle of Humankind، وهي منطقة سبق أن تم استكشافها بكثافة والتي قدمت كهوفها ولفترة طويلة أفرادا من الأسترالوپيـثيسينات australopithecines التي كان يعتقد أنها أبعد من حيث القرابة عن الجنس هومو من الأسترالوپيثيسينات الشرق إفريقية التي تبدو أقرب للجنس هومو. وهكذا استمر <برگر> في العمل بجد في كهف كلاديسڤال يوما بعد يوم، وعاما بعد عام. وبسبب أنه وجد القليل من أحافير البشريات بين الملايين من الأحافير الحيوانية في هذا الكهف – فقط مجرد بقايا للنوع أسترالوپيثيكس أفريكانس A. africanus – فقد شغل نفسه في هدف آخر: ألا وهو تأريخ dating الموقع. فالمشكلة المهمة التي واجهت تفسير أحافير البشريات الجنوب إفريقية كانت أن العلماء لم يكونوا قد وجدوا بعد طريقة يحددون من خلالها عمر هذه الأحافير بصورة موثوقة. ففي شرق إفريقيا، تأتي أحافير البشريات من رواسب تقع بين طبقات من الرماد البركاني التي غطت الموقع أثناء الانفجارات البركانية التي حدثت منذ زمن بعيد. ويمكن أن يتأكد الجيولوجيون من عمر طبقة الرماد بتحليل «بصمتها» الكيميائية. وبذلك فإن عمر الأحفورة المستخرجة من طبقة من الرواسب تتموضع بين طبقتين من الرماد البركاني هو قيمة وسطى بين عمري طبقتي الرماد. ولكن مواقع الكهوف في منطقة «مهد الجنس البشري» تفتقر إلى وجود طبقة الرماد البركاني. ومع ذلك ومن خلال 17 عاما من التجريب في كهف گلاديسڤال وجد <برگر> وزملاؤه تقنيات لحل مشكلة عدم توفر الرماد البركاني لاستخدامه في التأريخ.

لم يمض وقت طويل حتى أثبتت هذه التقنيات فائدتها. ففي اليوم الأول من الشهر 8/2008، وبينما كان <برگر> يقوم بمسح المحمية reserve بحثا عن مواقع أحفورية جديدة محتملة في المنطقة التي كان قد حددها باستخدام برنامج گوگل إرث Google Earth، انعطف <برگر> يمينا ليأخذ ممر عمال المناجم الذي كان قد اعتاد تجاهله مدة 17 عاما وتابع سيره فيه إلى أن قاده إلى حفرة أبعادها ثلاثة أمتار في أربعة أمتار كان عمال المناجم قد فجروها. وبينما كان يحدق في الموقع وجد عددا قليلا من الأحافير الحيوانية، كانت كافية لتبرير زيارة ثانية لإلقاء نظرة أكثر تمعنا. ففي يوم 15/8 عاد مع ابنه <ماثيو> [الذي كان عمره وقتها تسع سنوات] وكلبه تاو. انطلق <ماثيو> وراء كلبه تاو إلى الحرش وخلال دقائق صرخ مناديا والده ليعلمه أنه عثر على أحفورة. شكك <برگر> في أن تكون شيئا ذا أهمية – ربما مجرد عظم ظبي، ولكن في خطوة لإظهار الدعم الأبوي، شق طريقه إليه ليعاين اللقية. وهناك كان يبرز – من قطعة كبيرة من الصخر الداكن التي تقع في وسط الحشائش الطويلة بالقرب من جذع شجرة ميتة ضربتها صاعقة – طرف من عظم الترقوة.

وحالما رأى <برگر> العظم، عرف أنه ينتمي إلى البشريات. ففي الأشهر التي تلت ذلك، وجد المزيد من عظام الهيكل الذي يعود إليه عظم الترقوة، إضافة إلى هيكل عظمي آخر غير كامل على بعد 20 مترا من حفرة عمال المناجم. استحصل <برگر> وفريقه من الموقع، حتى الآن، على أكثر من 220 عظمة من عظام أسترالوپيثيكس سيديبا – أكثر من جميع عظام جنس هومو المبكر المعروفة مجتمعة. فقد أعطى اسم مالاپا Malapa  للموقع، وهذا الاسم يعني في لغة سيسوتو المحلية «العزبة» homestead. وباستخدام المقاربات التي جرى تحسينها في كهف گلاديسڤال، قام الجيولوجيون في فريق <برگر> فيما بعد بتحديد عمر بقايا المستحاثات بدقة كبيرة حيث قدر بنحو 1.977 مليون سنة خلت بزيادة أو نقصان قدرها 2000 سنة.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_23.jpg
<L. برگر> (في اليسار) و .M< كجاسي> (في اليمين) يعاينان حفرة عمال المناجم عند موقع مالاپا، حيث اكتشف <برگر> أسترالوپيثيكس سيديبا (1). كتل الرواسب الفتاتية المتكلسة الشبيهة بالخرسانة، التي أزاحها عمال المناجم، سيجري تفريسها (تشخيصها) بالتصوير الطبقي المحوري المحوسب CT-scanned لمعرفة فيما إذا كانت تحتوي على أحافير (2). منظر يبيّن وديان منطقة مالاپا وحولها، شمال غرب جوهانسبيرگ في جنوب إفريقيا (3).

 

سلف مُرقّع(***)

إن أهمية احتواء أحافير موقع مالاپا على عدد كبير من أجزاء الجسم تعود إلى أنها يمكن أن تقدم تبصرات فريدة في الترتيب الذي ظهرت فيه سمات هومو الأساسية. وما تظهره هذه السمات بشكل واضح جدا هو أن ملامح الإنسان الجوهرية لم تتطور بالضرورة كمجموعة متكاملة، كما كان يعتقد. لنأخذ، على سبيل المثال، الحوض والدماغ. تقول الحكمة التقليدية إن حوضpelvis الأسترالوپيثيسينات المسطح والواسع تطور إلى حوض على شكل التجويف الذي يلاحظ في جنس الهومو ذي الدماغ الأكبر، وذلك للسماح بولادة أطفال برؤوس أكبر. ومع ذلك فإن الأسترالوپيثيكس سيديبا يمتلك حوضا واسعا مشابها لحوض الجنس هومو وقناة ولادة واسعة بالترافق مع دماغ صغير – نحو 420 سنتيمترا مكعبا فقط، ما يعادل ثلث حجم دماغنا. يظهر هذا الترافق أن ازدياد حجم الدماغ لم يكن له أي دور مؤثر في تحول شكل الحوض في سلالة أسترالوپيثيكس سيديبا.

لاتمزج أحافير أسترالوپيثيكس سيديبا فقط بين نسخ قديمة وأخرى جديدة لملامحها العامة، مثل حجم الدماغ وشكل الحوض، بل إن هذا النمط يتكرر على مستويات أعمق، بما يشبه التشعبات التطورية evolutionary fractal. ويبين تحليل باطن قحف دماغ الذكر الفتي أن لدى دماغه، على الرغم من أنه صغير، منطقة جبهية أكبر من قبل، مما يشير إلى حالة متقدمة من إعادة التنظيم (إعادة التطور) للمادة الرمادية؛ وأن الطرف العلوي للأنثى البالغة يجمع بين ذراع طويلة – وهي صفة بدائية محفوظة من سلف قاطن للأشجار وأصابع قصيرة ومستقيمة تكيفت لصنع واستخدام الأدوات (على الرغم من أن علامات العضلات على العظام تشهد على قدرات قبض قوية شبيهة بقدرات القرود). وفي بعض الحالات يبدو التناقض في الجمع بين القديم والحديث غير ممكن أبدا لدرجة أنه لو لم تكتشف العظام متصلة ببعضها بعضا، فإن تفسير الباحثين لها كان سيتم على أساس انتمائها إلى مخلوقات مختلفة عن بعضها كليا. على سبيل المثال، يجمع القدم بين عظم كعب شبيه بعظم كعب قدم قرد قديم مع عظم كاحل شبيه بعظم كاحل الجنس هومو، وفقا لأحد أعضاء فريق كهف مالاپا <B. زيپفل> [من جامعة ويتواترسراند]. وهذا أمر يصفه <برگر> كما لو أن التطور كان يلعب لعبة الخلط العشوائي (يلعب لعبة مستر پوتيتو هيد(2)).

ويقول <برگر> إن التبرقش(3) (الفسيفسائية) mosaicism المفرط الواضح لدى الأسترالوپيثيكس سيديبا ينبغي أن يكون درسا لعلماء الأنثروبولوجيا القديمة. فلو أنه وجد أي عدد من عظام هذا الجنس في عزلة عن بعضها لكان صنفها بشكل مختلف. فاعتمادا على الحوض، كان من الممكن أن يسميه الإنسان المنتصب Homo erectus، ويوحي عظم الذراع وحده أنه قرد من القرود. وعظم الكاحل هو نسخة مطابقة لعظم كاحل إنسان حديث. وبذلك كان خطؤه شبيها بخطأ الرجال العميان (المكفوفين) الذين يتفحصون الأجزاء المختلفة للفيل منفردة. ويتابع <برگر> مؤكدا «يُبيِّن سيديبا sediba أن أحدا لم يعد قادرا على إسناد عظام معزولة (منفصلة) إلى جنس ما.» وهذا يعني، في رأيه، أن لقى finds مثل الفك العلوي الذي يعود عمره إلى 2.3 مليون سنة من حدار في إثيوبيا، والذي قُدِّم على أنه الأثر الأقرب للجنس هومو لايمكن أن نتخذه بصورة أكيدة على أنه ينتمي إلى سلسلة نسب هومو.

إن استبعاد ذلك الفك من العملية من شأنه أن يجعل أسترالوپيثيكس سيديبا أقدم من أي أحفورة من أحافير هومو التي جرى تحديدها بصورة جيدة، ولكنه لا يزال أحدث عمرا من أسترالوپيثيكس آفارنسيس A. afarensis، وهذا يضعه في موقع مركزي بالنسبة إلى السلف المباشر للجنس هومو، كما يؤكد فريق <برگر>. إضافة إلى ذلك، وعند الأخذ بالحسبان ملامح أسترالوپيثيكس سيديبا المتطورة، يقترح الباحثون أنه يمكن أن يكون سلفا للإنسان المنتصب على وجه الخصوص (والذي يعتبر البعض جزءا منه على أنه نوع مختلف يدعى الإنسان العامل H. ergaster). وهكذا، وبدلا من وجهة النظر التقليدية أن أسترالوپيثيكس آفارنسيس ولّـد الإنسان الماهر H. habilis، والذي بدوره ولـد الإنسان المنتصب، يؤكــد هذا الفريق أن أسترالوپيثيكس أفريكانس هو السلف المرجح (المحتمل) للنوع أسترالوپيثيكس سيديبا، الذي ولّد بعد ذلك الإنسان المنتصب.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا الترتيب سيقصي الإنسان الماهر إلى فرع جانبي مسدود النهاية من شجرة عائلة البشر. كما يمكن حتى أن تركل أسترالوبيثيكس آفارنسيس – الذي اعتبر لمدة طويلة السلف لجميع البشريات الأحدث عمرا، بما في ذلك أسترالوپيثيكس أفريكانس وهومو – إلى طرف مهمل من الطريق التطوري. ويشير <برگر> إلى أن عظم عقب أسترالوپيثيكس سيديبا هو أكثر بدائية من ذلك الموجود في أسترالوبيثيكس آفارنسيس، مما يشير إلى أن أسترالوپيثيكس سيديبا قد خضع إما إلى انعكاس تطوري نحو عظم عقب أكثر بدائية أو أنه انحدر من سلالة مختلفة عن تلك التي تتضمن أسترالوپيثيكس آفارنسيس وأسترالوپيثيكس أفريكانس – سلالة يتعين عليه اكتشافها.

يقول <برگر> [الذي ترعرع في مزرعة بسيلڤانيا بولاية جورجيا] ساخرا: «في الجنوب، لدينا مثل يقول: سترقص مع الفتاة التي أحضرتها معك، وهذا ما كان يفعله علماء الأنثروبولوجيا القديمة في محاولتهم حل لغز أصل الجنس هومو من الأحافير التي اكتشفت في شرق إفريقيا». وأضاف: «علينا الآن أن نعترف بتوفر احتمالات أكبر هناك». وربما تكون قصة الجانب الشرقي عن أصل الإنسان غير صحيحة. وبحسب الاعتقاد التقليدي تمثل أحافير البشريات الأقدم في جنوب إفريقيا تجربة تطورية منفصلة أخفقت في نهاية الأمر. وأسترالوپيثيكس سيديبا يمكن أن يقلب الطاولة ويكشف، في جنوب إفريقيا، عن وجود سلالة أخرى، السلالة التي أعطت في النهاية الجنس البشري كما نعرفه – (وسيديبا sediba في الواقع هي كلمة في لغة السيسوتو تعني «المنبع» أو «الينبوع»).

 

[لـقى (مكتشفات)]

مزج وتطابق(****)

  تبدي هيــاكــل الأسترالوپيثيكس سيديبا مزيجا غير متوقع كليا من سمات جنس الأسترالوپيـثين australopithecine  وســــمــات جنـــــس الهومو، والأمثلة على ذلك مبينة هنا. اعتقد العلماء سابقا أن ملامح هومو كالأذرع القصيرة والأيدي البارعة تطورت دفعة واحدة (بخطوات متناسقة)، ولكن أسترالوپيثيكس سيديبا يبين أنها تظهر تدريجيا – في هذه الحالة تزاوج الأذرع الطويلة المتكيفة لتسلق الأشجار، مع الأيدي القصيرة الأصابع وذات الإبهام الطويل التي وفـرت قبضة مشابهة لقبضة الإنسان في دقتها. ويوحي مزيج أسترالوپيثيكس سيديبا النوعي (الخاص) لفريق <برگر> أنه انحدر من أسترالوپيثيكس أفريكانس أو من سلالة غير معروفة أدت مباشرة إلى ظهورالإنسان المنتصب.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_25.jpg

 

 

لا يوافق <W. كيمبل> [من جامعة ولاية أريزونا] الذي قاد الفريق الذي عثر على عظم الفك الذي يعود عمره إلى 3.2 مليون سنة في إثيوبيا على أي من هذا. ويرد على فكرة أن المرء يحتاج إلى هيكل عظمي كامل لتصنيف عينة ما بأنها «حجة لا معنى لها». والحل يكون، كما يقول، في إيجاد قطـع من الهيكل العظمي تحتوي على سمات تشخيصية، وفك «حدار» يمتلك من الملامح ما يجعله يرتبط بوضوح بالجنس هومو، مثل شكل القطـع المكافئ الذي تشكله صفوف أسنانه. يجد <كيمبل>، الذي رأى أحافير مالاپا ولكن لم يدرسها بالتفصيل، أن سماتها الشبيهة بسمات هومو مثيرة للاهتمام، على الرغم من أنه ليس متأكدا أين يضعها تصنيفيا. ومع ذلك فقد سخر من الاقتراح القائل إن تلك الأحافير تمثل السلف المباشر للإنسان المنتصب. ويعلن، في إشارة إلى الفك: «أنا لا أرى كيف يمكن لصنف taxon ما ذي سمات قليلة تبدو مشابهة  لهومو في جنوب إفريقيا أن يكون السلف لهومو عند وجود شيء ما في شرق إفريقيا يبدو بوضوح أنه هومو ويعود في عمره إلى 300 000 سنة.»

لم يكن <كيمبل> وحيدا في رفضه الادعاء أن أسترالوپيثيكس سيديبا هو الأصل (الجذر) الذي نشأ عنه الجنس هومو. فقد يعلق <M. ليكي> [من معهد توركانا بايسين Turkana Basin في كينيا] الذي ركزت أبحاثه الخاصة على  أحافير من شرق إفريقيا بقوله: «هناك الكثير من الأمور غير المنسجمة، وخصوصا في التواريخ والجغرافيا». ويتابع: «إن الأمر الأكثر احتمالا هو أن تمثّل البشريات الجنوب إفريقية فرعا منفصلا نشأ في جنوب القارة.»

أما <R. بوب> [من جامعة جورج واشنطن] فيقول: إذا كانت بقايا أسترالوپيثيكس سيديبا أقدم عمرا – لنقل إن عمرها نحو 2.5 مليون سنة – فذلك قد يجعل منها سلفا معقولا لهومو. ولكن عندما يكون عمرها 1.977 مليون سنة، فإن هذه البقايا تكون بدائية إلى أبعد الحدود في شكلها العام لتكون سلفا لأحافير من منطقة بحيرة توركانا في كينيا التي هي أحدث عمرا، ومع ذلك لديها الكثير من سمات هومو التي لا تقبل الجدل. أما <برگر> فيجيب معترضا بقوله: من شبه المؤكد أن أسترالوپيثيكس سيديبا كان موجودا كنوع قبل أفراد كهف مالاپا. أما <بوب> وآخرون فيؤكدون أن مثل هذه المعلومات غير معروفة حاليا. ويرى <بوب>: «أن علماء الأنثروبولوجيا القديمة يميلون إلى الاعتقاد أن الأحافير التي يجدونها تحتل موقعا مفصليا ضمن شجرة التطور [لسلالات البشريات]، وأن الوضع على الأغلب ليس كذلك في كثير من الحالات،» ومن وجهة النظر الإحصائية، «إذا كانت لدينا مجتمعات من البشريات متوزعة في جميع أنحاء إفريقيا، وتتطور بطرائق معقدة، فما الذي سيجعل المجتمع الذي تجده أنت هو السلف؟»

 

[تفسير]

سلف لنا جميعا؟(*****)

  بحسب الاعتقاد التقليدي عن أصل الجنس هومو، أدى وجود أسترالوپيثيكس عفارنسيس إلى ظهور الإنسان الماهر (هومو هابيليس)، والذي أدى بدوره إلى ظهور الإنسان المنتصب (هومو إيركتس)، وجميع أنواع هومو اللاحقة. ولكن السمات التشريحية الرئيسة (المفتاحية) لأسترالوپيثيكس سيديبا، بما فيها عظم العقب، الذي هو أكثر بدائية من عظم عقب أسترالوپيثيكس آفارنسيس، ويده التي تبدو أكثر تشابها بيد الإنسان الحديث من يد الإنسان الماهر Homohabilis، تثير الاحتمال المثير للجدل بأن أسترالوپيثيكس سيديبا قد يكون سلفا للإنسان المنتصب وبأن أسترالوپيثيكس آفارنسيس وهومو هابيليس قد يكونان فرعين جانبيين.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_26.jpg

 

 

وجد <برگر> أذنا صاغية من قبل <وود> الذي يقول إن <برگر> «محق تماما» في أن أسترالوپيثيكس سيديبا يثبت أن عظاما معزولة لا تنبىء بالشكل الذي يبدو فيه ما تبقى من الحيوان. ويعلق <وود> أن أسترالوپيثيكس سيديبا يظهر أن امتزاج (تخالط) السمات الواضح من خلال الاكتشافات الأحفورية السابقة لا يستنفد كافة الاحتمالات المطروحة. ولكنه لا يقر بالاقتراح أن أسترالوپيثيكس سيديبا هو سلف الجنس هومو. وعلى حد تعبيره: «لا يوجد هناك العديد من الصفات التي تربطه بسلالة الجنس هومو.» وأسترالوپيثيكس سيديبا يمكن أن يكون قد طور تلك السمات بشكل مستقل عن سلالة الهومو. ويقول <وود>: «إنني أعتقد أن هناك فارقا تطوريا كبيرا بين أسترالوپيثيكس سيديبا والإنسان المنتصب».

إن ما يعيق حل قضية تموضع أسترالوپيثيكس سيديبا على شجرة نسب عائلتنا هو عدم وجود تعريف واضح للجنس هومو. ولكن الوصول إلى هكذا تعريف، هو أمر أصعب مما يبدو. فمع ندرة العينات من الفترة الانتقالية، وبسبب كون معظمها قِطعا (أجزاء) ناقصة، فقد شكّل تحديد تلك الملامح التي ميزت للمرة الأولى هومو من أسلافه من الأسترالوپيثيسينات – تلك السمات التي جعلتنا حقا بشرا – تحديا صعبا. إذ تكشف الهياكل من كهف مالاپا كم هي الحالة مربكة: فقد كانت هياكل مالاپا أكمل من أي عينات لهومو مبكر لدرجة أنه كان من الصعب جدا أن تقارن بأي شيء آخر. ويقول <برگر>: «قد يجبرنا أسترالوپيثيكس سيديبا على التوصل إلى تعريف ما.»

كل شيء في التفاصيل(******)

أيا كان موقع أحافير كهف مالاپا على شجرة نسب فصيلة الإنسان، فهي مؤهلة لتزويد الباحثين بالوصف الأكثر تفصيلا حتى الآن لأحد أنواع البشريات المبكرة، ويعود ذلك جزئيا إلى كونها تضم (تجمع) أفرادا متعددة. فإضافة إلى الذكر الفتي والأنثى البالغة، العينتين الأكثر اكتمالا، جمع فريق <برگر> عظاما تمثل أربعة أفراد آخرين، بينهم طفل رضيع. إن المجتمعات نادرة جدا في السجل الأحفوري البشري، ويمتاز أفراد كهف مالاپا بميزة إضافية تتمثل في بقائها محفوظة بشكل قل نظيره. إن عظام البشريات، التي لم يسبق لها فعليا النجاة من تـأثير عوامل الزمن المديد المخربة، ظهرت هنا: عظم لوح الكتف الرقيق، رقاقة رهيفة هي الضلع الأول في القفص الصدري، وعظام إصبع بحجم حبة البازلاء، وفقرات الظهر مع نتوءاتها الشوكية السليمة. إضافة إلى عدد من العظام الكاملة التي لم يتم تعرفها في السابق إلا من شظاياها. وقبل اكتشاف كهف مالاپا، لم يتوفر لدى علماء الأنثروبولوجيا القديمة ذراع مفردة كاملة تعود للبشريات الأوائل، وهذا يعني أن أطوال أطرافها التي استخدمت في تصور سلوكياتها الأساسية كالتنقل هي تخمينات. حتى في حالة لوسي – التي كانت أحفورة البشريات الأكثر اكتمالا عندما عثر عليها في عام 1974 – كانت تنقصها أجزاء كبيرة من عظام ذراعها وساقها. أما في أنثى كهف مالاپا البالغة، فعلى العكس من ذلك، كان الطرف العلوي محفوظا بالفعل حفظا كاملا – من لوح الكتف إلى اليد. والأجزاء المفقودة منها هي بعض السلاميات الأخيرة من أصابعها وبعض عظام الرسغ فقط، ويتوقع <برگر> أن يعثر على هذه القطع – إضافة إلى باقي العظام التابعة للهيكلين العظميين عندما يقوم بالتنقيب في الموقع (حتى الآن جمع الفريق العظام المرئية فقط على سطح الأرض بدلا من التنقيب المنهجي عن المواد المدفونة). ومن هذه الأدلة سيكون الباحثون قادرين على إعادة بناء كثير من الأمور من بينها: الآلية التي نضج فيها أسترالوپيثيكس سيديبا، وكيف كان يتنقل على الأرض وكيف كان أفراد مجتمعاته يختلف بعضهم عن بعض.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_28.jpg
لقد مكّن مسح جمجمة ذكر الأسترالوپيثيكس سيديبا الفتي بالسنكروترون الأشعة السينية من إعادة بناء تفصيلي للدماغ (اللون الوردي) الذي يبدي إعادة تنظيم (تموضع) متقدم في الفصوص الجبهية على الرغم من كونه أكبر قليلا من دماغ الشيمبانزي.

 

ليست العظام وحدها هي التي تعد بإخبارنا حكايات جديدة. إن كهف مالاپا أعطى أيضا بعض المواد الأخرى التي يمكن أن تغير فعليا فهم الباحثين لأسترالوپيثيكس سيديبا. لقد اعتقد علماء الأحافير لمدة طويلة أنه خلال عملية التأحفـر (التحول إلى أحافير)، تزول جميع المكونات العضوية للكائن الحي، كالجلد والشعر والأعضاء وما إلى ذلك نتيجة تحلـلها، تاركة وراءها العظام المتمعدنة فقط. ولكن عندما رأى <برگر> صورة الأشعة المقطعية CT scan لجمجمة الذكر اليافع، لاحظ موضعا في أعلى الجمجمة حيث ظهر هناك فراغ مملوء بالهواء بين سطح الأحفورة، وانحناءات حدود العظم الفعلي. وعندما قام بفحص البقعة عن كثب، لاحظ وجود مظهر مميز على السطح، يشبه المكونات الهيكلية للجلد. وهو يقوم الآن بإجراء اختبارات مكثفة لتحديد ما إذا كانت البقعة الغريبة المظهر على أعلى جمجمة الذكر والبقعة الأخرى على ذقن الأنثى – إضافة إلى بقع مماثلة على عظام الظبي من الموقع، هي في الواقع من الجلد.

يمكن للجلد المحفوظ، في حال التأكد أنه كذلك، أن يكشف عن لون أسترالوپيثيكس سيديبا وعن كثافة شعره ونمطه. ومثل هذه الأدلة يمكن أن تبيـن أيضا توزع الغدد العرقية – وهذه معلومات سوف توفر تبصرات حول مدى القدرة التي امتلكتها هذه الأنواع على تنظيم درجة حرارة جسمها، والتي بدورها كانت تؤثـر في مدى نشاطها الذي كانت عليه. وقد تقدم الغدد العرقية، إضافة إلى ذلك، أدلة على تطور الدماغ: فقد كان توفر وسيلة فعالة لإبقاء الجسم باردا شرطا لازما لظهور دماغ كبير الحجم – العلامة المميزة لجنس هومو – بسبب كون الأدمغة حساسة للحرارة. وفي حال كانت المادة العضوية موجودة، قد يتمكن <برگر> حتى من الحصول على الدنا من البقايا. حاليا يبلغ عمر أقدم دنا بشريات جرت سلسلته 000 100 سنة، وهو دنا مأخوذ من إنسان نياندرتال. ولكن وبسبب كون ظروف الحفظ في كهف مالاپا استثنائية على ما يبدو، فإن لدى <برگر> بعض الأمل في الحصول على معلومات جينية من عينات أسترالوپيثيكس سيديبا أقدم عمرا. وفي هذه الحالة، قد يكون العلماء قادرين على تحديد ما إذا كانت الأنثى البالغة والذكر الفتي حقا أمّا وابنها، كما هو مقترح، وتحديد ماهية الصلات، إن وجدت أصلا، بين البشريات الأخرى في الموقع. وإضافة إلى ذلك، سيدفع مثل هذا الاكتشاف الباحثين في مواقع بشريات قديمة أخرى إلى اختبار الدنا الذي، في حال نجاحه، يمكـن أن يحسم الجدل حول صلات القربى التي كانت تربط أنواع البشريات المختلفة.

سيكون تسجيل حفظ البقايا العضوية الأول من نوعه في علم أحافير البشريات، ويعرف فريق كهف مالاپا أنه سيحتاج إلى أدلة استثنائية لإقناع مجتمع الباحثين بمثل هذا الادعاء. ولكن نتائج الاختبار تدعم، حتى الآن، هذه الفرضية، ويعتقد <برگر> أن الاحتمالات جيدة للغاية وأن التحاليل المقبلة سوف تؤكد هذا الأمر. فعلى الرغم من كل شيء هناك ادعاءات مماثلة تفيد بالعثور على مادة عضوية في عظام الدينوصورات، وهذه يفوق عمرها بعشرات الملايين من السنين عمر أحافير كهف مالاپا. وقد يكون حفظ البقايا العضوية في تجمعات البشريات، شائعا إلى حد كبير، كما يقترح <برگر> – وأن أحدا لم يفكر قط في البحث عنها.

وشيء آخر لم يفكر أحد في البحث عنه لدى أفراد البشريات بهذا العمر؟ ألا وهو قلح الأسنان. إن سطوح أضراس الطواحن لدى الذكر الفتي تحمل بقعا بنية داكنة. وعندما يقوم محضرو الأحافير بتجهيز بقايا البشريات للدراسة يقومون بتنظيف الأسنان. ولكن خطر على بال <برگر> أن تلك البقع قد تكون في الواقع القلح نفسه الذي نزيله نحن البشر المعاصرون بفرشاة الأسنان، ونذهب لأجله إلى طبيب الأسنان. وقلح الأسنان القديم سيوفـر تبصرات قيمة حول تطور النظام الغذائي لدى البشريات.

لقد تحرت دراسات سابقة لما اهتمت بما يأكله أفراد البشر الأوائل عن نسب نظائر الكربون في الأسنان، والتي يمكن أن تشير إلى ما إذا كان حيوان ما يتغذى بما يسمى نباتات C3  مثل الأشجار والشجيرات، أو بما يسمى نباتاتC4، مثل بعض الأعشاب والقصب، أو فيما إذا كانت الحيوانات، في حالة الأنواع آكلات اللحوم، تفترس حيوانات أكلت تلك الأطعمة النباتية، أو تغذت بمزيج منها خلال فترة حياتها. إن هذه الأدلة هي أدلة غير مباشرة وغير محددة. وعلى العكس من ذلك، إن قلح الأسنان هو بقايا الطعام نفسه. يقوم الفريق حاليا بدراسة بلورات السيليكا الصغيرة التي تسمى فايتوليثphytoliths  المتضمنة في القلح. وبلورات الفايتوليث هذه تنشأ عن النباتات، وتصنع بعض النباتات أشكالا نوعية من البلورات خاصة بنوع نباتي محدد. وهكذا يمكن أن تكشف دراسة بلورات الفايتوليث بالضبط أي نوع من أنواع النباتات التي أكلها حيوان ما قبل أن ينفق مباشرة. ومن خلال تحليل نسب النظائر المشعة وبلورات الفايتوليث وعلامات التآكل على أسنان أسترالوپيثيكس سيديبا والتي يمكن أن تشير إلى ما إذا كان حيوان ما يمضغ طعاما أكثر قساوة أو ليونة في الأسابيع التي سبقت حتفه، سيكون الفريق قادرا على جمع مجموعة كبيرة من البيانات حول الشروط التي ساعدته على البقاء على قيد الحياة. ولأن الباحثين يحوزون عظاما تعود إلى أفراد من أسترالوپيثيكس سيديبا تمثل طيفا من مراحل نموها، فهم قادرون حتى على استنتاج ما كان يأكله الأطفال الرضع مقابل ما كان يأكله الكبار، على سبيل المثال.

وفي مقالة مرجعية نشرت في عدد الشهر 10/2011 من مجلة ساينس، لاحـــظ <P .S. أنكر> [من جــامعــة أركنساس] و<M. سبونهايمر> [من جامعة كولورادو في بولدر] أن التحاليل التي أجريت مؤخرا ألمحت إلى تنوع وتعقيد غير متوقعين في نظم أسلافنا الغذائية. ففي حين كان أردبيـثيكس راميدسArdipithecus ramidus، أحد البشريات الأوائل المفترضة، يتناول في المقام الأول أغذية C3، كما كانت تفعل أفراد شيمبانزي الساڤانا، يبدو أن البشريات الإفريقية المبكرة الأخرى كانت تأكل مزيجا من أطعمة C3 و C4. وثمة نوع واحد، وهو پارانثروپس روبستس Paranthropus robustus، كان يتبع أيضا نظاما غذائيا يعتمد في معظمه على أطعمة C4، كما أفاد <Th. سيرلينك> وزملاؤه [من جامعة يوتا] في دراسة نشرت في الشهر 6/2011 في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية (PNAS USA). ومن دون أي شك سيرغب العلماء في معرفة مكان أسترالوپيثيكس سيديبا على طيف النظام الغذائي dietaryspectrum وكيف تتوافق تلك الصورة مع الأدلة التي تتكشف عن تلك التي تـبيـنها البيئة القديمة في كهف مالاپا، والتي كانت، على ما يبدو، تتضمن وفرة من الحشائش والأشجار. وربما سيسلط الدليل المتحصّل من النظام الغذائي الضوء على الكيفية التي كان أسترالوپيثيكس سيديبا يستخدم فيها تلك اليد البارعة، مع تكيفاتها الواضحة لاستخدام الأدوات – وبالطريقة نفسها، معرفة فيما إذا كان يستخدم ذراعيه الطويلتين الشبيهتين بذراعي القردة ليتغذى بين الأشجار.

الأيام الأخيرة(*******)

يبدو أن أيام بشريات كهف مالاپا الأخيرة كانت أياما مروعة. فقد تكون ظروف جفاف محتملة جعلت الحصول على المياه صعبا. ويظن <برگر> أن البشريات، مدفوعة بيأسها من الحصول على مياه الشرب، قد حاولت النزول إلى كهف تحت الأرض كان عمقه عندئذ يتراوح بين 30 و 50 مترا ضمن كهف مالاپا للوصول إلى بركة ضحلة من المياه العذبة، وأثناء محاولتها انتهى بها الأمر إلى سقوطها ولقيت حتفها. ربما سقط الصبي أولا، وحاولت الأنثى البالغة – ربما والدته – إنقاذه لتسقط هي الأخرى في آخر الأمر. ولاقت مجموعة من الوحوش المتنوعة الأخرى، من الظباء إلى الحمر الوحشية، المصير نفسه، لتغدو مدفونة إلى جانب البشريات للأبد.

والمثير للفضول هو أن الأدلة الجيولوجية من الموقع تشير إلى أن التجمع الأحفوري في كهف مالاپا تشكَّل تماما في الوقت نفسه الذي كانت فيه الكرة الأرضية تخضع لانقلاب في مغنطيسيتها الجيولوجية – وهو حدث غامض تنقلب فيه قطبية الكوكب ويصبح شمالها المغنطيسي جنوبا مغنطيسيا. ويثير هذا التوقيت التساؤل حول ما إذا كان هذا الانقلاب المغنطيسي قد أدى بطريقة ما أو بأخرى دورا في موت هذه المخلوقات.

لا يعرف العلماء سوى القليل جدا حول أسباب الانقلابات المغنطيسية، وما إذا كانت تعجل في التغير البيئي. وقد اقترح بعض علماء الجيولوجيا أنه يمكن تصور أن تـؤدي هذه الأحداث إلى فوضى بيئية – نتيجة اضطراب في المجال المغنطيسي الذي يحمي الكائنات الحية من الإشعاع القاتل، على سبيل المثال، أو نتيجة إرباك نظم الملاحة الداخلية للطيور المهاجرة وغيرها من الحيوانات التي تستخدم المجال المغنطيسي للكرة الأرضية لتحديد اتجاهاتها. وباعتبار أن كهف مالاپا هو أحد الأماكن الفريدة في العالم الذي احتفظ بسجل أرضي عن الانقلاب المغنطيسي، إضافة إلى مجموعة من الأحافير التي عاشت في الزمن نفسه، فإنه يمكن أن يقدم تبصرات نادرة فيما يحدث عندما يـغير كوكب الأرض أماكن قطبيه.

وثمة أدلة أخرى قد تلقي المزيد من الضوء على سبب موتها. يمكن لعظام متأحفرة لأنثى ظبي حامل وجنينها من كهف مالاپا أن تساعد العلماء على تحديد الوقت من السنة الذي ماتت فيه البشريات بدقة تصل إلى حدود أسبوعين من الزمن: فإناث الظباء تلد ضمن فاصل زمني ضيق جدا في فصل الربيع، وتحليل الجنين يجب أن يسمح للباحثين باستنتاج مدى تقدم الحمل قبل نفوق أنثى الظبي. وفي غضون ذلك يمكن أن تكشف آثار الخنافس التي تتغذى باليرقات والأنسجة المتفسخة التي هاجمت البشريات بعد موتها عن طول المدة التي بقيت أجسامها مكشوفة قبل أن تدفنها رواسب الكهف المتدفقة.

ويمكن القول إن العمل على أسترالوپيثيكس سيديبا قد بدأ للتو. يقول <برگر> لزوار كهف مالاپا صباح يوم ربيعي جنوبي في أواخر الشهر 11: «إنكم تسيرون فوق جميع أحافير البشريات ». إنهم يقفون على الأرض الصخرية بين الشجرة، حيث وجد <ماثيو> عظم الترقوة، وحفرة المنجم حيث وجد <برگر> صاحبها. ويلفت نظر المشاهدين، وهو ينزل إلى أسفل الحفرة، إلى أجزاء من الأحافير البارزة من الصخور تنتظر جمعها. مد الضيوف المذهولون رقابهم ليلقوا نظرة على عظم ذراع طفل وعلى الفك السفلي لهر سيفي الأسنان(4) saber-toothed cat، والمنطقة التي يبدو أنها تحتوي على ما تبقى من هيكل الذكر الفتي. وبمجرد قيامه بجمع البقايا التي أزاح عمال المناجم النقاب عنها وتلك التي أظهرتها العواصف الممطرة العارضة جمع فريق الاستكشاف إحدى أكبر مجموعات أحافير البشريات المعروفة على الإطلاق. وعندما يبدأ الباحثون بالتنقيب في موقع مساحته نحو 500 متر مربع، يعلم <برگر> أنهم سوف يجدون المزيد من العظام – الكثير منها. ويجري حاليا إعداد خطة مكثّفة لإقامة بنية لحماية الموقع من أذى عناصر الطقس، وتقوم بدور مختبر ميداني متقدم من أجل البدء بأعمال الحفر المنهجي في وقت لاحق من هذا العام، والذي سيسبر أعمق مما أظهره عمال المناجم ليصل إلى أجزاء الرواسب التي لم تحفر بعد. وفي هذه الأثناء، وفي مختبر مالاپا لكتل الأحافير في [جامعة ويتواترسراند] تملأ كتل الصخور التي تم الحصول عليها من المنجم الرفوف المصفوفة من الأرض إلى السقف. وسوف يقوم الباحثون بالتمحيص في هذه الصخور باستخدام المسح المقطعي للبحث عن عظام البشريات بما في ذلك جمجمة الأنثى البالغة المفقودة.

إن ثروات كهف مالاپا ضخمة لدرجة أنه قـد يمكن ل<برگر> أن يمضي ما تبقى مـن حيـاته المهنية في العمل عليها. وعلى الرغم من ذلك فقد باشر التفكير في الوجهة التالية التي سيطرقها. ويؤكد بقوله إن أسترالوپيثيكس سيديبا: «علـمني بأننا بحاجة بالفعل إلى سجل أفضل – وهو هناك في الخارج». وقد تعرّف مشروع المسح الذي قاد <برگر> إلى كهف مالاپا على أكثر من ثلاث دستات (دزينات) من المواقع الأحفورية الجديدة في منطقة الـمهد فقط والتي من المرجح أنها تؤوي بقايا بشريات. فهو يعدّ الباحثين لينقب كل واحد بدوره أفضلَ تلك البقع الواعدة. أما <برگر> نفسه فقد وضع نصب عينيه تطلعات أبعد. ويرى أن لدى الكونغو وأنغولا، من بين أماكن أخرى، تشكيلات كهفية مماثلة لتلك الموجودة في المهد والتي لم يتم البحث فيها عن أحافير البشريات. وربما هناك، في الأرض المجهولة من الأنثروبولوجيا القديمة، سيجد رسولا آخر غير متوقع من فجر البشرية سيعيد كتابة قصة أصل البشر مرة أخرى.

 

<K. وونگ> رئيسة تحرير في مجلة ساينتفيك أمريكان

 

  مراجع للاستزادة

 

Australopithecus sediba: A New Species of Homo-|ike Australopith from South Africa.
Lee R. Berger et al. in Science, Vol. 328, pages 195-204; April 9, 2010.
The September 9, 2011, issue 0f Science contains five research papers on details 0f A. sediba’s anatomy and age.

(*)FIRST OF OUR KIND

(**)THE ROAD NOT TAKEN

(***)A PATCHWORK PREDECESSOR

(****)Mix and Match
(*****)Ancestor of Us All?

(******)ALL IN THE DETAILS

(*******)END OF DAYS

 

(1) Institute for Human Evolution
(2) playing Mr. Potato Head
(3) أو التطور الفسيفسائي: هو المفهوم القائل إن التغير التطوري يجري في بعض أجزاء الجسم من دون تغيرات متزامنة في أجزاء أخرى من الجسم. (التحرير)

(4) حيوان ثديي ضخم منقرض يتبع عائلة القطط ويمتلك صفا من الأنياب العلوية المنحنية على شكل سيف يتبع له الجنس Smilodon الذي يعود لعصر البليستوسين الأمريكي، والجنس Machairodus الذي يعود إلى عصر بليوسين العالم القديم. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى