أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلسفة العلوم

عندما يُلْمِعُ الخطأ إلى طريق الصواب

عندما يُلْمِعُ الخطأ إلى طريق الصواب(*)

معظم الأخطاء تُنسَى بسرعة. وبصورة بارعة تؤدي أخرى إلى إعادة صياغة العلم.

<D. كايزر> – <H .N .A. كريگير>

 

باختصار

  يمكن للأخطاء أن تدفع الفهم العلمي إلى الأمام. والأخطاء التي تقود إلى فهم ملامح عميقة من العالم يمكن أن تكون أكثر قيمة على المدى البعيد من أفكار محدودة الصواب.

والأخطاء العلمية المشهورة بأهميتها تشمل نموذج <N. بور> للذرة، ونظرية الانزياح القاري (في شكلها الأصلي)، وتجارب <E. فيرمي> التي أدت إلى اكتشاف الانشطار النووي.

هنالك أيضا مثالان للأخطاء الأقل شهرة: ففي ثمانينات القرن الماضي، ابتكر فيزيائي متسكع تليغرافا telegraph  أسرع من الضوء.  وقد قادت عمليات البحث للكشف عن الخلل فيه إلى المزيد من التقدم في نظرية المعلومات الكمومية.

وفي أربعينات القرن الماضي بنى <M. دلبروك> [المؤسس الرئيسي للبيولوجيا الجزيئية(1)] أبحاثه على عدة افتراضات غير صحيحة ومضللة. ولكنه مضى قدما بعد ذلك وفاز بجائزة نوبل.

 

 

يُشترط في العلم، ربما أكثر من أي مهنة أخرى، أن يكون صحيحا. وبطبيعة الحال، فإن معظم العلماء – شأنهم شأن غيرهم من الناس – يقعون في الكثير من الأخطاء على طول الطريق، ولكن الأخطاء لا تكون جميعها على قدم المساواة. وقد اكتشف المؤرخون عددا من الحالات التي تكون فيها فكرة ما غير صحيحة، ثم ثبت أنها أكثر فعالية من آلاف الأفكار الخاطئة جزئيا أو القريبة من الصواب. ومثل هذه الأخطاء المُثمرة(2) تعرف بأنها الأخطاء التي تقود إلى ملامح أساسية عميقة للعالم من حولنا، وتحفّز على المزيد من البحث الذي يؤدي إلى تحقيق إنجازات كبرى. والأخطاء المثمرة أخطاء بكل تأكيد، ولكن العلم من دونها كان سيصبح أسوأ حالا بكثير.

فعلى سبيل المثال، أنشأ <N. بور> نموذجا للذرة خاطئا من جميع الجوانب تقريبا، إلا أنه أوحى بفكرة الثورة الميكانيكية الكمومية. و<A. فيگنر> حاول، في مواجهة شكوك هائلة، أن يثبت أن قوى الطرد المركزي هي التي تجعل القارات تتحرك (أو «تنزاح») على طول سطح الأرض. كان يدرك الظاهرة الصحيحة، وإن كانت الآلية خاطئة. واعتقد <E. فيرمي> أنه قد استحدث نواة أثقل من اليورانيوم، قبل أن يُدرك أن ما قام به هو أساس عملية الانشطار النووي على نحو ما نعرفه الآن.

توضح هذه النقطة بشكل كبير مثالين من الأخطاء المثمرة. أحدهما من الفيزياء في سبعينات القرن الماضي والآخر من البيولوجيا في الأربعينات، لم يعمل المخطئان بطريقة خرقاء جعلتهم غير محظوظيْن في الماضي، فقد طرحا – بثقة وثبات – الأسئلة التي تطرّق إليها قليل من زملائهما، وجمعا بين أفكار لم تخطر ببال الكثيرين في ذلك الوقت. وفي هذه العملية، وضعا الأسس المهمة لحقول اليوم المزدهرة في مجاليْ التقانة الحيوية(3) وعلم المعلومات الكمومية(4). لقد كانا مخطئين، وعلى العالم أن يكون شاكرا لأخطائهما, وسنشرح فيما يلي هذين الخطأين المثمرين.

نسيلة الفوتون الشبحي(**)

ساعد الخطأ الأول على إلقاء الضوء على الخلاف الذي كان قد بدأ خلال الأيام الأولى للميكانيك الكمومي(5)، عندما اشترك <A. آينشتاين> و<بور> في سلسلة من المناظرات الحماسية حول طبيعة النظرية الكمومية ومضامينها القصوى. لقد أدان <آينشتاين>، كما هو معروف، عدة ملامح غريبة لهذه النظرية. فعلى سبيل المثال، باستخدام معادلات الميكانيك الكمومي، يستطيع الفيزيائيون أن يتنبؤوا فقط باحتمالات الأحداث المختلفة، من دون نتائج محددة. وجاء رد <آينشتاين> على هذا الادعاء بقوله: «أنا، على أية حال، مقتنع بأن [الإله] لا يلعب النرد». واستمرت هذه المسألة 30 عاما دون أن يتمكن <آينشتاين> ولا <بور> من أن يقنع أحدهما الآخر.

وبعد مرور عدة عقود عاد <J. بِل> [وهو فيزيائي شاب من إيرلندا الشمالية] إلى محاورات <آينشتاين> و<بور>. نَظَر <بِل> من جديد في تجربة ذهنية كان <آينشتاين> قد نشرها عام 1935. كان <آينشتاين> قد تصور مصدرا يُطلق أزواجا من الجسيمات الكمومية، مثل الإلكترونات أو الفوتونات، تتحرك في اتجاهين متعاكسين وقد تمكن الفيزيائيون من قياس خصائص معينة لكل جسيم بعد أن انتقل بعيدا عن الآخر. وتساءل <بِل> عن العلاقات التي تربط بين نتائج تلك القياسات.

وفي عام 1964 قام <بِل> بنشر مقالة قصيرة ورائعة تشرح، وفقا للميكانيك الكمومي، أن نتيجة واحدة من تلك القياسات، ولتكن مثلا، سپين spin الجسيم اليميني الحركة على طول اتجاه معين، يجب أن تعتمد على اختيار أي خاصة من الخواص التي ستقاس للجسيم اليساري الحركة. وبالفعل، استنتج <بِل> أن أي نظرية تكرر إنتاج نفس التوقعات التجريبية الناتجة من الميكانيك الكمومي يجب أن تتضمن إشارة ما أو «آلية يمكن من خلالها أن يؤثر ضبط أداة قياس في قراءة جهاز آخر، مهما كان بعيدا.» وإضافة إلى ذلك، استنتج أن «الإشارة المصاحبة يجب أن تنتشر لحظيا. ومثل هذه الارتباطات البعيدة المدى صارت تعرف الآن باسم التشابك الكمومي(6)

ومع أن مقالة <بِل> ذائعة الشهرة بين الفيزيائيين اليوم، إلا أنها لم تحظ بانتشار ملموس وقت ظهورها، حتى وإن كان الانتقال اللحظي للإشارة سوف ينتهك القوانين المدعومة جيدا في نسبية <آينشتاين>، والتي تقضي بأنه لا يمكن انتشار أي إشــارة أو تــأثير بسرعـة أكبـر من سرعة الضوء. كان <N. هيربرت> من بين الفيزيائيين الذين تنبهوا إلى ذلك. وبدأ الموضوع يشغل اهتمام <هيربرت> أكثر فأكثر، مزاحما أفكار مهامه اليومية كخبير فيزياء صناعية في منطقة خليج سان فرانسيسكو. وفي ذلك الوقت، كان <هيربرت> عضوا أساسيا في مجموعة حوار متميزة غير رسمية تدعى مجموعة الفيزياء الأساسية Fundamental Fysiks Group. التقى المشاركون في بيركلي، وكان معظمهم من الفيزيائيين الشباب الذين حصلوا على الدكتوراه في صفوة البرامج الجامعية – <هيربرت> حصل على الدكتوراه في جامعة ستانفورد – فقط من أجل أن يسقطوا ضحية لأزمة وظيفية لم يسبق لها مثيل. ففي عام 1971، على سبيل المثال، كان هناك أكثر من 1000 فيزيائي شاب مسجلين تنافسوا على 53 وظيفة فقط معروضة لدى إدارة التوظيف في المعهد الأمريكي للفيزياء(7).

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_33_c.jpg

 

مع قلة العمل وتوفر الوقت، التقى <هيربرت> ورفاقه أسبوعيا خلال منتصف السبعينات لتبادل الأفكار حول الألغاز العميقة للفيزياء الحديثة، والموضوعات التي لاقت اهتماما قليلا في تدريبهم الرسمي للفيزياء. وصاروا مفتونين بنظرية <بِل> والتشابك الكمومي. وقد أجرى عضو آخر في المجموعة، يدعى <J. كلوسر> أول اختبار تجريبي في العالم لنظرية <بِل>، فوجد أن التنبؤات الغريبة عن التشابك الكمومي يمكن تحديدها تماما. (في عام 2010 تقاسم <كلوسر> جائزة وولف(8) المرموقة تقديرا لإسهاماته.)

وفي الوقت نفسه، كانت منطقة الخليج من حولهم تشهد اهتماما متفجرا بالظواهر الغريبة مثل الإدراك خارج النطاق الحسّي، والرؤى الاستبصارية للمستقبل. وقد نشرت سان فرانسيسكو كرونيكل(9) والصحف الرئيسية الأخرى قصصا عن تجارب في التخاطر من بعد(10)، في حين احتفل المتحمسون للسحر والتنجيم بحلول «عصر جديد». وقد بدأ <هيربرت> وزملاؤه في الحوار يتساءلون عما إذا كان بإمكان نظرية <بِل> – التي يبدو أنها تقتضي ضمنا وجود علاقات لحظية غامضة وبعيدة المدى بين الأجسام المتباعدة – أن تفسر أحدث حصيلة من الأعاجيب.

وبالتركيز على ما وصفه <بِل> كإشارات لحظية (آنية) بين جسيمات كمومية، تساءل <هيربرت> عما إذا كان يمكن استغلالها لبثّ رسائل أسرع من الضوء. وشرع في رسم مخطط لما سماه «تِليغرافا فائق الإنارة»(11): البدعة التي يمكن أن تسخّر خاصية أساسية للنظرية الكمومية لانتهاك النسبية، ومن ثم قوانين الفيزياء. وبعد قليل من البدايات الفاشلة، توصل <هيربرت> إلى مخططه «فلاش» FLASH في الشهر 1/1981؛ ويرمز الاختصار إلى «أول وصلة ليزر مضخَم فائقة الإنارة»(12). وقد استخدم فلاش نظاما مفصلا قائما على الليزر لإرسال إشارة أسرع من الضوء [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].

بدا مخطط <هيربرت> أنه محكم لا عيب فيه، واقتنع بحجته عدد من المراجعين في المجلة التي قدم فكرته إليها. وحسبما ذكر اثنان من المحكمين: «لم نكن قادرين على تحديد أي خلل جوهري في التجربة المقترحة التي تكشف عن أصل المفارقة». وأخذ مُحكِّم آخر، <A. بيريز>، خطوة أكثر جرأة عندما أعلن في تقريره الموجز أن ورقة بحث <هيربرت> يجب أن تكون خاطئة – ومن ثم فهي بحاجة إلى أن تنشر. وبما أن <بيريز> نفسه لم يستطع أن يجد أي خلل، فقد أكد أن الخطأ يجب أن يكون غنيا بالأفكار، وهو النوع الذي يحفز إلى مزيد من التقدم.

وسرعان ما حظي موقف <بيريز> غير العادي (بل الشجاع) بالتأييد، وتولّت ثلاث مجموعات من الفيزيائيين عرض مقالة <هيربرت> لتمحيص دقيق: <C.G. جيراردي> و<T. يبر> في إيطاليا، <W. زوريك> و<B. ووترز> في الولايات المتحدة، و<D. ديكس> في هولندا. واعترفوا جميعا بأن <هيربرت> ارتكب خطأ بارعا ومراوغا في حسابه لما يجب على الفيزيائي الذي استقبل الإشارة أن يراه. فقد افترض <هيربرت> أن مضخم الليزر كاختراع جديد سيكون قادرا على أن يبعث كميات وفيرة من الضوء بنفس حالة الضوء الأصلي. في الواقع، أدرك العلماء أن الليزر لم يتمكن من صنع تلك النسخ من فوتون وحيد، وإنما أدى إلى خلطة عشوائية فقط، مثل آلة تصوير خلطت صورتين مختلفتين معا لإنتاج طمس عَصيّ على الوضوح.

وفي عملية استبصار مكنون لما اقترحه <هيربرت>، كشفت تلك المجموعات الثلاث سمة أساسية رائعة للميكانيك الكمومي لم يتعرّفها أحد من قبل. لقد فشل النظام FLASH بسبب «نظرية عدم الاستنساخ»(13)، التي لا تجيز لحالة كمومية غير معروفة أن يتم نسخها أو نسلها من دون إحداث اضطراب فيها. فهذه النظرية تمنع الذين يريدون أن يكونوا مخترعين من استخدام النظرية الكمومية لصنع برقيات أسرع من الضوء، ومن ثم فإنه يمكن للتشابك الكمومي التعايش سلميا بجانب نسبية <آينشتاين>. ومع توالي الأحداث، رتبت جسيمات التوأم نفسها واقعيا وفقا لارتباطات لحظية بعيدة المدى، ولكن لا يمكن أبدا استخدام تلك الارتباطات لبثّ رسالة أسرع من الضوء.

وسرعان ما أدرك عدد قليل من الفيزيائيين الآخرين أن نظرية عدم الاستنساخ عرضت ما هو أكثر من مجرد رد فعل لمقالة <هيربرت> المثيرة للفضول، أو أنها وضعت الأساس لهدنة هشة بين التشابك والنسبية. وفي عام 1984 اعتمد <T. بينيت> و<J. برازارد> مباشرة على نظرية عدم الاستنساخ لتصميم أول بروتوكول على الإطلاق لما يسمّى «التعمية الكمومية»(14): وهي وسيلة جديدة تماما لحماية الإشارات الرقمية من المتنصّتين. فالحقيقة التي تقضي بأن الميكانيك الكمومي يمنع أي شخص من صنع نسخ من حالة كمومية مجهولة كانت تعني، مثلما أدرك <بينيت> و <برازارد>، أن الشركاء يمكنهم تكويد(15)رسائل سرية في فوتونات تشابكية(16) وتمريرها ذهابا وإيابا. وإذا حاول أي شخص اعتراض فوتون في الطريق وصنْع نسخ، فإن هذه النسخ تدمر الإشارة المتتبَّعة على الفور وتعلن في الوقت نفسه عن وجودها.

وفي السنوات الأخيرة انتقلت التعمية الكمومية إلى مقدمة الجهد المبذول عالميا في علم المعلومات الكمومية. وقد أجرى فيزيائيون، أمثال <A. زايلينجر> في فيينا و<N. جيزين> في جنيف، شروحات حقيقية لتطبيقات هذه التعمية على أمور مهمة مثل التحويلات البنكية (المصرفية) المعمّاة كموميا، والتصويت الإلكتروني. ومثل هذه الإنجازات ليست إرثا سيئا للمخطط FLASH  الخاطئ الذي وضعه <هيربرت>.

المفارقة الجينية(***)

مثالنا الثاني لتصورات عالِم مخطئ هو عمل <M. دلبروك> [الأستاذ في جامعة فاندربيلت وبعد ذلك في معهد كاليفورنيا للتقانة]. وهو تلميذ سابق ل<بور>. أخذ <دلبروك> من محاضرة <بور> الشهيرة عام 1932 بعنوان «الضوء والحياة» فكرة أن فهم العمليات البيولوجية من شأنه أن يعود علينا بمفارقات جديدة، وأن حل هذه المفارقات قد يؤدي إلى اكتشاف قوانين جديدة للفيزياء. وطلب <دلبروك> إلى علماء آخرين أن يعنوا بهذا الجهد ويساعدوا على إنشاء حقل البيولوجيا الجزيئية في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

وكان أحد الأسئلة الرئيسية التي أثيرت في أربعينات القرن الماضي هو: «ما هو الجين gene؟» ففي منتصف القرن 19 اقترح الراهب <G. مندل> وجود عوامل وراثية(17) (سميت فيما بعد «جينات» genes)، تمتلك خاصيتين مميزتين: الأولى هي القدرة على نسخ ذاتها، والثانية هي القدرة على إنتاج التغيرات أو التحورات التي يتم نسخها بالكفاءة نفسها كما في الجين الأصلي.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_35.jpg
تليغراف لحظي: في عام 1981 أفاد الفيزيائي <N. هيربرت> من الملامح الغريبة للميكانيك الكمومي في تصميم نظام اتصالات أسرع من الضوء. ووفقا لنظرية النسبية لِ<آينشتاين>، لا يمكن لمثل هذا النظام أن يوجد، ومع ذلك، في البداية لم يجد أحد أي شيء خاطئ في هذا النظام. ومع مرور الوقت، كشفت دراسة دقيقة فاحصة خطأ <هيربرت>: لا يمكن أبدا أن تُنسخ الجسيمات الأولية elementary particles تماما بالطريقة التي افترضها <هيربرت>. وفي النهاية استغل الفيزيائيون هذه الرؤية لتحقيق تقدم حاسم في علم المعلومات الكمومية quantum information science.

 

وحتى الأربعينات لم يكن أحد يعرف ممّ تتكون الجينات، أو كيف تكاثرت. وكما أشار رائد الفيزياء الكمومية <E. شرودنگر> في كتابه عام 1944 بعنوان «ما هي الحياة؟»(18)، فإنه لا يوجد نظام فيزيائي عادي ذاتي التكرار, وما يبدو من قدرة الجينات على القيام بذلك يتحدى القانون الثاني للديناميكا الحرارية.

لقد كان <دلبروك> يبحث عن الجين الذري – أي النظام الفيزيائي غير القابل للتجزئة الذي كان مسؤولا عن أسرار الوراثة. وكفيزيائي جيد، أدرك <دلبروك> أن المدخل الأكثر إثمارا قد يكون بدراسة وحدات الحياة الأصغر والأبسط: الڤيروسات. واختار على وجه التحديد، دراسة عاثيات (ملتهمات) البكتيرياbacteriophages («الفاجات»(19) phages اختصارا)، أي الڤيروسات التي تصيب البكتيريا. وكانت هذه من بين أسهل الڤيروسات عزلا وأسرعها نموا. وعلى الرغم من أن الفاجات، مثل جميع الڤيروسات، تتكاثر فقط داخل الخلية المضيفة، إلا أن <دلبروك> حاول تجنب ما اعتبره تعقيدا لا لزوم له. لذلك طور، جنبا إلى جنب مع زميله <E. ايليس>، طريقة نمو سمحت لهما بالتركيز على تكاثر الفاجات، مع تجاهل التعقيدات الخلوية للبكتيريا المصابة.

 

كان <دلبروك> مقتنعا بأن الجينات مكونة من بروتين، واعتقد أن فهم كيفية تكاثر أجزاء البروتين من الڤيروسات سوف يؤدي إلى فهم الجينات. وأفضل طريقة لدراسة التكاثر الڤيروسي، فيما كان يظن، كانت مراقبتها وهي تتكاثر.

ولكن كيف يمكن للمرء في الواقع أن يقتنص الڤيروسات أثناء تكاثرها لكي يفهم هذه العملية؟ اختلف الوقت الذي تتكــاثر خلالــه ملتهمات البكتيريـــا المتنوعـــة، وعلل <دلبــروك> ومعـــاونـــه <S. لوري> ذلك بأنهما إذا أصابا البكتيريا نفسها بعدوى اثنتين من سلالات الفاجات، إحداهما تتكاثر بسرعة أكبر من الأخرى، فسيكون باستطاعتهما اقتناص المركّب المتوسط في عملية التكاثر الذي يتضاعف بشكل أبطأ عندما تتفجر الخلايا.

لم تنجح تجربة العدوى المزدوجة حسبما خُطط لها, فقد وجد <لوري> و<دلبروك> أن العدوى التي تسببها إحدى السلالتين الڤيروسيتين منعت العدوى بالسلالة الأخرى. وفي الوقت نفسه تقريبا، فحص <Th. أندرسون> [من جامعة ولاية بنسلڤانيا] عينة تحت المجهر الإلكتروني من إحدى سلالتيْ عاثية البكتيريا ل<دلبروك> و<لوري>, واكتشف أن الڤيروس كان أكثر تعقيدا بكثير مما هو متصور سابقا – من المؤكد أنه تكوّن من شيء أكثر بكثير من جين ذري وحيد. لقد كان جسيْما على شكل الشُّرغوف(21) يتألف من بروتين وحمض نووي، ويرتبط بالبكتيريا من الخارج ليُحدث العدوى infection. وبذلك كانت العلاقة المباشرة بين الڤيروسات والجينات التي تصورها <دلبروك> على وشك أن تُكتشف.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_36.jpg
اختبار صحيح، وتعليل خاطئ: أراد <M. دلبروك> وزملاؤه أن يفهموا سر الحياة – تحديدا، ممّ تتكون الجينات، وكيف كانت تعمل. لقد كانوا في حاجة إلى كائن بسيط للعمل عليه، لذلك اختاروا عاثية (ملتهمة) البكتيريا bacteriophage اختصارا: فاج كنموذج لهم، وهو ڤيروس يصيب البكتيريا. وفي عام 1943 أجروا «اختبار التقلب (التراوح)»(20)  للبحث في كيفية إنتاج الڤيروسات، وذلك باستعارة تقنيات من الميكانيك الكمومي لدراسة كيفية تطور البكتيريا المقاومة للعدوى الڤيروسية. وقد صار الاختبار تجربة شائعة – ولكن لدراسة البكتيريا، وليس الڤيروسات. وقد اشتكى <دلبروك> في وقت لاحق من أن علماء آخرين لم يدركوا هذا المعنى على حقيقته.

 

غير أن <دلبروك> لم يكن مقتنعا بالعدول عن رأيه. ففي محاولة للحصول على فهم أفضل للطريقة التي قاومت بها بعض أنواع البكتيريا عدوى الفاج، ابتكر هو و<لوري> ما أسمياه «اختبار التقلب(20)». انتهى الاختبار بكشف القليل جدا عن التكاثر الڤيروسي، ولكن منهجيته البارعة أظهرت أن البكتيريا تتطور وفقا للمبادئ الداروينية، مع الطفرات العشوائية التي تمنح أحيانا مزايا البقاء على قيد الحياة. وكان هذا علامة فارقة في مجال دراسة علم الوراثة البكتيرية(22)، وفتح حقول أبحاث جديدة كلية. وبهذا الإنجاز شق <دلبروك> و<لوري> (جنبا إلى جنب مع <A. هيرشي>) طريقهما إلى الفوز بجائزة نوبل لعام 1969 في علم وظائف الأعضاء أو الطب لإنجازاتهم الكثيرة التي كان أهمها هذا العمل.

ومع ذلك، لم يسهم اختبار التقلب في فهم تكاثر الڤيروس، الأمر الذي أدى إلى إحباط <دلبروك>، حتى أنه في عام 1946 اشتكى في محاضرة عامة من أن الاحتمالات «المتفجرة» لدراسة البكتيريا التي كان قد أنشأها هددته الآن بصرف تركيزه على الڤيروسات. وإضافة إلى ذلك صار من الواضح أن الفاج (العاثية) استخدم الموارد الخلوية لبكتيريا الإشريكية القولونية(23)  المضيفة في عملية تكاثرها. وخلافا لافتراض <دلبروك> الأوليّ، لم يكن تجاهل المضيف أمرا صائبا.

ومع ذلك، فإن موهبته في التركيز على نظام بسيط كانت مثمرة للغاية، حتى وإن ثبت أن الفاجات أكثر تعقيدا بكثير مما كان يتوقع. وتطور الفاج إلى نظام نموذجي لجيل من البيولوجيين، حتى إنه ألهم <J. واتسون> البحثَ في بنية الدنا DNA. لقد اختار <دلبروك> موضوعه التجريبي بشكل جيد، ووضع طرقا مبتكرة لدراسته.

لقد تخلى <دلبروك> عن أبحاث الفاجات تماما في خمسينات القرن الماضي لكي يركز على الفيزياء الحيوية للإدراك الحسي، وذلك باستخدام فطر يُسمى فيكوميسيز phycomyces. ومع أنه كان قادرا على توظيف بعض علماء الفيزياء الشباب للعمل على النظام النموذجي الجديد هذا، إلاّ أن ذلك كان أقل ثمرا بكثير من أبحاثه على الفاج». واستمر بعد ذلك ليكون الناقد الحي لتجارب الآخرين على الفاج، وأصبح ميله إلى إساءة الحكم على مُكتشفات جديدة أسطوريا. وقد اعتاد <J. فيگل> [عالم البيولوجيا الجزيئية بمعهد Caltech] أن يحكي قصة مواجهة الباحث الشاب الذي كان مكتئبا بعد رد فعل <دلبروك> على تجربته المقترحة. أحب <دلبروك> الفكرة، ولكن هذه علامة مؤكدة على أنها غير مجدية! وبالنسبة إلى أولئك الذين كانوا على الطريق الصحيح، كان أعلى ثناء يمكن للمرء أن يتوقعه من <دلبروك> هو: «لا أصدق كلمة واحدة من ذلك!»

رصيد عادل(****)

في هذه الأمثلة من الفيزياء والبيولوجيا، قدّم العلماء الأذكياء أفكارا خاطئة، وحفزوا تطورات رئيسية في مختلف مجالات العلوم الأساسية من دون أخطاء عادية. وقد ساعدت تلك الأفكار العلمية بتسلسل سريع على ميلاد برامج أبحاث ببلايين الدولارات، ووضْع بذور صناعات أعادت بنشاط فائق حتى في أيامنا الحالية صياغة العالم الذي نعيش فيه.

ومع ذلك، ففي طريقة مهمة واحدة، ولَّدت أخطاء <هيربرت> و<دلبروك> موروثات مختلفة إلى حد ما. تمتع <دلبروك> (عن جدارة) بمهنة علمية ناجحة بشكل كبير. فقد ثمَّن مقاربات غير تقليدية، وعرَّض حتى أفضل العلوم لفحص دقيق؛ ومكانته كانت عالية بما فيه الكفاية لتكون قادرة على الإبداع. ومن ناحية أخرى، كافح <هيربرت> من أجل تغطية نفقاته في حدود دخله، حتى إنه قضى بعض الوقت معتمدا على المساعدة العامة – وهذه ليست طريقة مناسبة لتشجيع المفكر الذي ساعد عمله على توضيح الرؤى العميقة في النظرية الكمومية وإطلاق ثورة تقانية.

وهذا التباعد الهائل في المسارات المهنية يشير إلى الحاجة إلى برنامج جديد للمحاسبة نستطيع من خلاله توزيع الأرصدة والجوائز في العلوم. فأولئك الذين يقيِّمون إسهامات العلماء لن يحققوا قطُّ الوضوح الذي يتمتع به إحصائيو الرياضة – من تتبع دائم للرميات والتمريرات: وأحد أسباب ذلك يكمن في أن أهمية الأخطاء العلمية سوف تتغير بمرور الوقت مع تصارع المحققين على الآثار المترتبة عليها. ومع ذلك، فإن الأمر يستحق التأمل في أفضل السبل لتقدير – وتشجيع – هذا النوع من القفزات الخلاقة التي لا تصيب الهدف ولكنها تدفع اللعبة إلى الأمام.

وعلى كل حال، فإن أي شخص يمكن أن يخطئ. وبالفعل، فإن الحجم الهائل من الأعمال العلمية التي نشهدها اليوم تشير إلى أن معظمنا ربما يكون مخطئا في معظم الوقت. ومع ذلك، فإنَّ بعض الأخطاء يمكن أن تؤدي دورا إيجابيا في مجال الأبحاث. وفي الوقت الذي نسعى فيه إلى أن نكون في جادة الصواب، دعونا نتوقف للإعجاب بفن البحث العلمي العظيم الذي يمكن أن تكون أخطاؤه مُثمرة.

المؤلفان

     David Kaiser – Angela N. H. Creager     
<كايزر> هو أستاذ تاريخ العلوم في معهد ماساتشوتس للتقانة، ومحاضر في قسم الفيزياء. حصل على الدكتوراه في الفيزياء وتاريخ العلوم من جامعة هارڤارد.

 

 <كريگير> هي أستاذة التاريخ في جامعة برينستون, وتقوم بدراسة تاريخ البيولوجيا. حصلت على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، قبل أن تصبح مُتمرنة في تاريخ العلوم بجامعة هارڤارد ومعهد ماساتشوتس للتقانة (M.I.T).

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_33_b.jpg http://oloommagazine.com/Images/Articles/2012/09-10/2012_09_10_33_a.jpg

  مراجع للاستزادة

 

Bacterial Viruses and Sex. Max and Mary Bruce Delbruck in Scientific American, Vol.
179, No 5. pages 46-51; November 1948.
The Life of a Virus: Tobacco Mosaic Virus as an Experimental Model, 1930-1965.
Angela Creager. University of Chicago Press, 2001.
Errors:Consequences of Big Mistakes in the Natural and Social Sciences.Edited by
Gerald Holton. Special issue of Social Research, No.72; Spring 2005.
How the Hippies Saved Physics: Science, Counterculture, and the Qnantum Revival.
David Kaiser.W.W.Norton, 2011.

(*)THE RIGHT WAY TO GET IT WRONG

(**)THE PHANTOM PHOTON CLONE

(***)THE GENETIC PARADOX

(****)FAIR CREDIT

 

(1) molecular biology
(2) productive mistakes
(3) biotechnology

(4) quantum information science

(5) quantum mechanics

(6) quantum entanglement

(7) the American Institute of Physics

(8) Wolf prize
(9) San Francisco Chronicle
(10) telepathy

(11) superluminal telegraph

(12) First Laser-Amplified Superluminal Hookup
(13) no-cloning theorem
(14) quantum encryption: كان للعرب دور رائد في تأسيس علم التعمية Cryptology وتحليلها Cryptanalysis: وتعتبر رسالة الكندي في علم التعمية واستخراج المعمّى أول رسالة عربية يعود تأليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).

(15) encode: تحويل نص واضح إلى رموز يستطيع من يعرفها أن يفهم النص.

(16) entangled photons (التحرير)

(17) hereditary factors

(18) What Is life?

(19) (bacteriophages (“phages” for short = فاجات = ج: فاج.
(20) fluctuation test

(21) tadpole – shaped particle، والشُّرغوف هو فرخ الضفدع (أبو ذنيْبة).

(22) bacterial genetics

(23) Escherichia coli bacterium

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button