أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الإنسانعلم الاجتماععلم النفس

الغش: لماذا نرتكبه


الغش: لماذا نرتكبه(*)

يحاول العلماء حل لغز أسباب لجوء الناس إلى الغش والتضليل،

كما يسعون إلى ابتكار طرق وخطط جديدة لاقتلاع هذه الظاهرة من جذورها.

<.C .F فانگ> -< .A گاساديڤال>

 

 

باختصار  

فك كود الخداع والغش

 

1- إن الغش منتشر إلى درجة مُذهلة، وقد كشف مسح لأحد البحوث أن ثلاثة أرباع 1800 طالب من تسع جامعات اعترفوا بارتكاب غش في اختباراتٍ أو في عمل الواجبات الأكاديمية.

2- إن أفعال الغش والتدليس تهدر الموارد، كما يمكنها إلحاق الأذى بالمرضى وتضليل العلماء أو القائمين على صنع السياسات العامة.

3- يحاول الباحثون التوصل إلى فهم أفضل لسلوك الغش على أمل التقليل من آثاره في المجتمع إلى الحد الأدنى. وحتى الآن، فإنهم قد اكتشفوا أن الابتكار والخوف من الخسارة والاطلاع على سلوك خيانة الأمانة الذي يتبعه آخرون، كل هذا يمكن أن يكون من بواعث الإقدام على الغش، أو أن يجعل ذلك أكثر قابلية للحدوث.

 

 

أخيرا، أعلن <.L آرمسترونگ> بطل سباقات الدراجات الأمريكي، اعتذاره طالبا العفو عنه لأنه كان يستخدم أدوية المنشطات في مشاركاته في سباق الدراجات «طواف فرنسا»، حتى إنه فاز ببطولته سبع مرات. وعزا <آرمسترونگ> لجوءه إلى الغش إلى إصراره على الفوز مهما كلف الأمر، أما عالم النفس <.M هاوزر> [من جامعة هارڤارد] الذي كتب يوما مقالة بعنوان: «ثمن الخداع: الغشاشون لابد وأن يلقوا العقاب يوما ما،»(1)  فإنه الآن خارج العمل، حيث إن المكتب الأمريكي للنزاهة في مجال البحث العلمي(2) قد انتهى إلى أنه قد «لفَّق  بيانات بعض أبحاثه، وتلاعب بنتائج العديد من تجاربه، ووصف كيفية قيامه بعمل دراساته بطرق لا تتطابق مع صحة الوقائع.» هذا وقد وافق ستة عشر مصرِفا (بنكا) على تسويات ودفع تعويضات بسبب تلاعبها، أو هي موضع تحقيق لهذا السبب هذا، في عمليات حساب معدل سعر الفائدة بين البنوك Libor، وهو سعر الفائدة الذي تستطيع البنوك عند الوصول إليه أن تقترض من بعضها بعضا، وهو أمر يعتبره بعض الاختصاصيين أكبر احتيال مالي في تاريخ الأسواق.

 

وما هذه الحالات إلا جزء طفيف من تيار يبدو أنه يصبح لا حد له من فضائح الغش في الإعلام ومسابقات الرياضة الشعبية والبحث العلمي والتعليم وعالم المال، وغير ذلك من الميادين. ومع أنه مما يثلج الصدر اعتبار أن معظم الناس هم أمناء من حيث المبدأ، إلا أن الغش – وهو يُعرّف بأنه القيام بأفعال وتصرفات تتصف بالخداع أو التضليل من أجل نيل نفع أو مزية ما – قد أصبح منتشرا اليوم على نحو مروع. وقد كشف مسح قام به كل من <.D مكيب> [أستاذ الإدارة في جامعة راتگرز] و<.L تريڤينو> [أستاذة السلوك التنظيمي في جامعة ولاية پنسلڤانيا] عن أن نحو ¾ من 1800 طالب ينتمون إلى تسع جامعات حكومية أمريكية اعترفوا بأنهم ارتكبوا عملية غش في اختبارات أو واجبات جامعية مكتوبة. وفي عام 2005 قَدَّم <.B مارتنسون> [الاختصاصي في علم الاجتماع والذي يعمل في مؤسسة أبحاث پارتنرز الصحية(3)، في بلومنگتون، بولاية مينوسوتا] هو وزملاؤه نتائج بحث لهم تقول إن ثلث عدد الباحثين العلميين الذين تم سؤالهم قد اعترفوا أنهم تورطوا في ممارسات بحثية تحوم حولها الشكوك والشبهات خلال السنوات الثلاث السابقة.

 

ولكن الغش لا يقتصر على البشر، فقد أصبح مشهودا على نحو مُوثَّق في شتى الكائنات الحية، حيثما تكون هناك منافسة للحصول على موارد العيش المحدودة. وانتشار الغش، بشكل عام، يلحق الأذى ويتسبب في الإضرار إما بالأفراد أو بالمجتمع ككل. صحيح إن الغشاشين يصبحون موصومين في شرفهم، ويمكن أن يفقدوا وظائفهم، لكن موارد المجتمع تُبَدد وتُهْدر بسبب جرائم الغش والاحتيال. وإذا كان الأفراد الذين يتلاعبون بالقواعد ويتحايلون يُحرَمون من الجوائز التي لم يستحقوها، إلا أنه قد تكون هناك أضرار جانبية لأعمالهم تمس غيرهم. فقد أُجبر أعضاء فريق <آرمسترونگ> للدراجات على مسايرة مخطط تناول المنشطات غير المصرح بها، بل إنهم قد أُرغموا بالقوة حينما حاولوا رفع أيديهم منه لكي تبقى نظيفة. وأما البحث العلمي غير الأمين والقائم على الخداع، فقد يوجه الباحثين الآخرين إلى مسارات خاطئة، وقد يؤدي إلى سياسات عامة مضللة، وإلى إلحاق الضرر والأذى بالمرضى في حالة أن تكون قرارات الأطباء الإكلينيكية مبنية على معلومات خاطئة أو معيبة.

 

IND1.jpg

كل واحد يرتكبه …

 

 

أمثال هذه المشكلات هي ما أدى إلى وضع قيود فعالة على محاولات الغش، غير أن الضوابط القائمة في المجتمعات البشرية لا تزال بحاجة إلى تدقيق وتحسين. وقد اكتشف العلماء، عبر جهودهم للتوصل إلى فهم أفضل لظاهرة الغش، أن الرغبة في الابتكار والخوف من فَقْد المكتسبات وكذلك الاطلاع على سلوك الخداع عند الآخرين، كل هذا يمكنه أن يبعث على ارتكاب الغش أو أن يجعله أقرب إلى إمكان الحدوث. وهذه المنبهات والمثيرات، ومعها إدراك يتزايد قوة في أن الغش يمكن أن يكون مُعديا، لعلَّها تساعد على فهم «الوباء» الذي انتشر حديثا في الأوساط الأكاديمية، وباء الغش والمخادعة والتضليل، كما أنها توجه الأنظار إلى وضع خطط تستهدف الحد من انتشار السلوك غير الأمين في تلك الأوساط. فما أبعد ميدان البحث العلمي عن أن يكون مُحصنا ضد محاولات القيام بالغش، لكنه هو أيضا مَنْ يستطيع أن يجعلنا نفهم لِمَ يرتكب الناسُ الغشَ، وأن يدلنا على ما يمكن فعله في هذا الشأن.

 

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/09-10/Image999.jpg

أفعال سوء مريبة(4): اعترف <.L آرمسترونگ> (إلى اليمين) بأنه قام بتناول منشطات دوائية ليفوز ببطولة سباق «طواف فرنسا بالدراجات، سبع مرات.

وفي مؤتمر صحفي عُقِدَ في لاهاي (هولندا)، يتحدث رجال الشرطة عن كشفهم أمر شبكــة يشتبــه في أنها تقــوم بالتلاعب في نتائج مباريات كرة القدم بالاتفاق المسبق غير المشروع على النتائج (في الوسط).

وفي جامعة هارڤارد (إلى اليسار) خضع 125 طالبا للتحقيق في تهمة ارتكاب غشٍ في امتحان نهائي.

 

 

جذور الخداع(**)

 

في الطبيعة نشأ الغش ونما، من حيث إنه طريقة تحقق بها المتعضيات organisms مكاسب ومميزات في مقابل كائنات أخرى، وذلك من غير أن تتحمل تكلفة بذل الجهد في سبيل تحقيق تلك المكاسب. والأمر يصبح مبسطا أمام الكائن المعين: هل أستطيع الحصول على شيء محدد مقابل لا شيء، ومن غير أن يُكشف أمري وأن أعاقب عليه؟ وعلى جميع مستويات الحياة العضوية، فإنه توجد كائنات تجازف باتخاذ ذلك المنحنى. فقد وجد عالِم البيولوجيا الميكروية <.P .E گرينبرگ> [من جامعة واشنطن] أن بعض البكتيريا زائفة التكوين الواحدي Pseudomonas تقوم باستغلال منتجات أنتجتها مجموعات من البكتيريا المتعاونة كجماعة، وذلك من دون أن تشارك الأولى في عمليات الإنتاج، كذلك قام بيولوجي النظم <.A ڤان أودناردن> [من المعهد MIT] باكتشاف أن بعض خلايا الخمائر تقوم بالغش وذلك باستعمال منتجات إنزيم يقوم بعمليات الأيض على السكر، وتلك المنتجات هي من ثمرة عمل خلايا أخرى.

 

 

كلما زاد حجم القشرة الحديثة في مخ نوع من الأحياء، زاد استخدام أفراد هذا النوع لحيل الخداع والغش من أجل التأثير في الآخرين والتلاعب بهم.

 

 

وبصعود سلم الغذاء، سنجد أن الأسماك الشديدة الصغر المنظِّفة لغيرها معروفة هي الأخرى بأنها تُسيء استغلال علاقتها بالأسماك التي تنظفها، وذلك لكي تحقق نفعا لنفسها. وهكذا مثلا، فإن نوع سمك التنظيف الـمُسمى الشبيه بالشفة Labroides يتغذى تغذية وافرة بالطفيليات التي تُثبّت نفسها على جسم «سمك الببغاء» من نوع الخضاريات Chlorurus، وهي غالبا ما تقوم بخدمة السمكة الأضخم على هيئة أزواج متعاونة من ذكر وأنثى. ولكن سمك التنظيف يُفضل أن يأكل هو المادة المخاطية التي ينتجها جلد سمك الببغاء. وهكذا، فإن سمكة التنظيف حين تنزع المخاط، لا الطفيليات، فإنها في هذه الحالة تحتال على سمكة الببغاء وتحرمها من نصيبها وحقها في هذه العلاقة الـمُتعددة الأطراف. وقد لاحظ عالِم البيولوجي <رضوان بشاري> [من جامعة نوشاتل في سويسرا] هو وزملاؤه، أن سمك الببغاء كثيرا ما يردُّ على مثل هذا السلوك بالهرب من الموقف كله، وبهذا يخسر كل من الغشاش وصاحبه الطفيلي المحتمي به ما كانا يتوقعانه من مكافأة الطعام. غير أن سمك التنظيف الآثم ربما يحاول على سبيل الانتقام مُطاردة زميله سمك الببغاء. ويظهر المأزق هنا في أن هذا الأخير يحاول كشف غش سمك التنظيف، لكن هذا السمك هو أكثر ما يكون استعدادا للقيام بالخداع حينما يقوم بالأكل وحده.

 

إلاّ أن مجرد التعادل بين كفتي التكاليف والمكاسب، وهو الظاهر في حالة هذين النوعين من الأسماك، لا يمكن أن يكفي لتفسير ظاهرة الغش بشريا على المستوى النفسي. ولكي نقترب من هذه الظاهرة بشريا على نحو دقيق، علينا أن ننظر أولا إلى الحيوانات العليا من غير الإنسان والتي تمتلك القشرات(5)الحديثة neocortices الكبيرة والعميقة التلافيف (وهي طبقات المخ الخارجية المسؤولة عن التفكير الواعي وعن اللغة). وعلى غير ما عليه الحال في الحيوانات العليا، فإن هذا التكوين يكون صغيرا وأملس في الثدييات الصغيرة، كما أنه يغيب عند الحيوانات الأخرى. وقد ظل علماء الحيوانات العليا وعلماء النفس وعلماء الأعصاب لفترة طويلة يقدمون فرضا مؤداه أن التحديات التي لاقتها مجموعة الحيوانات العليا التي تعيش حياة اجتماعية هي التي أدت إلى التطور الضخم للقشرة الحديثة في أدمغة الحيوانات العليا، وهي المسؤولة عن حدوث الطفرة العظيمة إلى الأمام في ميدان الذكاء.

 

 

غشاشون بالفطرة(6): بعض خلايا الخمائر (إلى اليمين) تستولي من غير حق على المواد الكيميائية التي تُنتج بفضل خلايا أخرى غيرها وأحيانا يستطيع سمك التنظيف (السمكة الصغيرة، في الوسط) سرقة مخاط سمك الببغاء (لا يظهر في الصورة) ليتعشى به بدلا من مساعدة هذا السمك وذلك بالتغذي بطفيلاته. وهناك بين قرود البابون (إلى اليسار) إناث شابة تغش الذكور الألفيين المعطلين وذلك بالجماع مع قرود صغيرة السن، مختبئة وراء الصخور.

 

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/09-10/Image101.jpg

 

 

وأحد المظاهر الكبرى للذكاء الاجتماعي هو القدرة على الخداع، وتنتشر المخادعة الانتهازية انتشارا واســـعا بين الحيــوانــات العليا. وقد قام عالِم الإثنولوجيا <.H كومر> [من جامعة زيورخ بسويسرا] بتقديم وصف حيّْ لسلوك الغش بين قرود فصيلة هامادرياس البابون(7) في إثيوبيا: فصغار الإناث  في هذه الفصيلة يغافلن كبار قرود الجماعة ويجامعن الذكور الشابة، وذلك بالاختباء خلف الصخور. ومن جهته قام عالِم دراسة الحيوانات العليا <.F دي وال> [من جامعة إيموري] بتوثيق أمثلة على سلوك المخادعة بين قرود الشمبانزي التي تعيش في الأسر. ففي عام 2004، قام عالِم النفس <.W .R بيرن> [من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا] وزميلته <.N كورب>، وهي تعمل الآن في جامعة كيل بإنكلترا، بكشف كيف أن حجم القشرة الحديثة يمكنه أن يُنبئ عن الدرجة التي يمكن أن يصل إليها خداع الحيوانات العليا: فكلما كانت القشرة الحديثة أكبر في نوع حيواني ما، كان أفراد هذا النوع أكثر استخداما للحيل والعمليات التكتيكية الـمُضللة وغير الأمينة من أجل التلاعب بغرض السيطرة الاجتماعية.

 

 

حينما زاد الباحثون من قيمة الجائزة النقدية كمكافأة على الإجابات الصحيحة، فإن ما حدث فعلا هو تدني مجموع حالات الغش.

 

 

كلنا يغش… ولو قليلا(***)

 

إن البشر كثيرا ما يُسارعون بدرجة مُذهلة إلى ارتكاب الغش، وذلك إذا ما كانت الظروف تسمح بذلك. وفي عام 2008 وصف <.D آرْيلي> [أستاذ السلوك الاقتصادي في جامعة ديوك] وزملاؤه، ما حدث عندما طلبوا إلى طلبة جامعيين حل مسائل رياضياتية مقابل مكافآت مالية. فحين قام الباحثون بتغيير شروط التجربة على نحو يجعل الطلبة يدركون أن الممتحن لن يستطيع اكتشاف وجود غش، فإنهم وجدوا أن متوسط مستوى نتائج الاختبار التي يقدمها الطلبة بأنفسهم ارتفع إلى درجة عالية تلفت الانتباه. وقد تحقق الباحثون من أن النتائج التي تضخمت لم تكن عند قلة من الطلبة الذين قاموا بالغش، بل بالأحرى عند كثرة منهم قاموا بالغش ولو قليلا.

 

وربما يكون واضحا بذاته أن البشر، شأنهم في ذلك شأن الحيوانات الأخرى، إنما يدفعهم إلى الغش هدف الحصول على مكاسب ممكنة، ولو كان الغشاشون يعتمدون على مجرد حساب التكلفة مقابل المكسب، إذن لأمكننا أن نتنبأ بأن الناس سوف يغشون كثيرا بقدر ما يستطيعون، وليس بقدر قليل فقط. ومع ذلك، فإن دراسة <آريلي> أظهرت أن الطلبة في المتوسط أثبتوا حصولهم على ست إجابات صحيحة، بينما كان ما وصلوا إليه هو أربع فقط، وذلك حتى وإن كان بوسعهم أن يرفعوا درجاتهم لتصل إلى العشرين. يُضاف إلى ذلك، فإنه لم يظهر وجود ترابط صريح بين قدر المكافأة وإمكان حدوث غش. فحين قام فريق <آريلي> بزيادة قدر المكافأة النقدية، فإن ما حدث في الواقع هو انخفاض عدد حالات الغش. وتفسير <آريلي> لهذا هو أن الطلبة كان ينتابهم الشعور بالذنب حينما يغشون أكثر وأكثر، أو حين يتلقون مبالغ مالية أكبر عن طريق السلوك المخادع. إن هذا يعني أن ضمير الشخص يضع سقفا على مدى الغش الذي سيمضي إليه. ومن ثم، فإن هناك إمكانا آخر: إن الطلبة لعلهم رأوا أنهم ربما يُبْعِدون عن أنفسهم انتباه المراقبين إذا ما هم قاموا بقليل من الغش، وليس كثيرا.

 

 

قم بعملك أنت فقط: إن الغش منتشر إلى درجة مدهشة. وأفضل رادع له هو احترام الشخص لتصوره عن نفسه self-image. وهكذا، فإن الطالب لن ينقل عن ورقة جاره إذا كان ذلك يجعله يحس بعدم الرضا عن نفسه. لهذا، فإن التذكير اللفظي بميثاق الشرف الأخلاقي، قبيل بدء الامتحان مباشرة، ربما يحول دون قدر كبير من الغش في الامتحانات الناجم عن استراق النظر من ورقة ممتَحن من قبل جارٍ له.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/09-10/Image111.jpg

 

 

ومع ذلك، فإن احتمال الغش ليس موزعا بين الناس بالتساوي، ذلك أن <آريِلى> و <.F جنو> [أستاذة السلوك الاقتصادي في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارڤارد] نَشَرا بحثا في عام 2011 يُبين أنه كلما عَلَتْ الدرجة التي يحصل عليها الأشخاص للاختبارات النفسية للإبداع(8)، كانوا أكثر عرضة للسير على طريق الغش، وهو ارتباط ربما لم يكن مفاجئا باعتبار أن الإبداع والخداع التكتيكي(9) كلاهما مما ينتج من عمل القشرة الحديثة(10). ومع ذلك، فإن <جينو> و <آريلي> يعتقدان أن الأمرين ليسا مترابطين على نحو آلي، وإن كانا مرتبطين علميا. وهما يقترحان أن الأفراد المبدعين يتميزون بقدرتهم على الخداع الذاتي(11): فهم قادرون على ابتداع تبريرات(12) يكونونها لما يقومون به من غش، وذلك كوسيلة لطمأنة أنفسهم حول أفعالهم المخادعة(13). وقد سبق للروائي الفرنسي <.M پروست> أن قال في روايته بحثا عن الزمن الضائع(14): «إننا نتوقف عن التنبّه إلى أننا نكذب، ليس فقط لأننا نكذب على الغير، ولكن أيضا لأننا نكذب على أنفسنا.» وبعد ذلك بخمسة وسبعين عاما، وفي برنامج الكوميدي الأمريكي <.J ساينلفلد> المسمى على اسمه، يقول <جورج> (البريطاني) ل<جيري> (الألماني): «ليس كذبا ما تعتقد أنت أنه صحيح.» وإنه لمما يدعو إلى السخرية، أن الابتكار والذكاء اللذين نعتبرهما مما يميز الإنسان تحديدا، ربما نشآ بالتوازي مع ظهور قدرتنا على الخداع، فنحن من نحن لأننا نغش(15).

 

في الواقع، إنه عندما لا تكون هناك رقابة على الغش، فإن هذا قد يدفع المرء إلى تصور أن عليه أن يغش كي يبقى قادرا على التنافس مع الآخرين.

 

وهناك أيضا دور يقوم به الجنس gender، في تحديد من يتلاعب بمن بين الذكور والإناث. فقد لاحظ المؤلفان، ومعهما الباحثة في أمراض النبات <.W .J بينِت> [من جامعة رُتگرز] في بحث حديث، أن الذكور مِنْ بين مَنْ يقومون بالأبحاث في علوم الحياة هم الأكثر احتمالا أن يقوموا بالغش في أبحاثهم من زميلاتهم الإناث. وهناك إثباتات على سوء السلوك على كافة مستويات الهرم الأكاديمي، من الطلبة إلى الأساتذة، ولكن الرجال هم الأكثر حضورا بكثير على قائمة المذنبين. وكما أن الذكور هم من يرتكبون جرائم أكثر من الإناث، فإنهم أيضا، على مستوى الأوساط الأكاديمية، من يُتوقع أن يرتكبوا الغش والاحتيال بنسبة أكبر. ومع أننا لا نعرف بدقة حتى الآن لِمَ يُتوقع أن ينحرف الذكور عن طريق الخُلُق القويم بأكثر من الإناث، إلا أن الباحثين تجمعت لديهم أفكار نافذة حول طبيعة الدوافع التي تبعث على الغش بوجه عام.

 

فمما يؤدي إلى سلوك الخداع غير الأمين، إضافة إلى عامل توقع الكسب، هناك عامل الخوف من الخسارة. ففي الحقيقة، إن البــاحـــث في ظـــواهـــر التسويـــق <.S رِك> [وهو الآن في جــامعــة متشيگان] والباحث في السلوك الاقتصادي <.F .G لووِنستين> [الآن في جامعة كارنيگي ميلون] قد لاحظا أن الفزع هو دافع أعظم قوة في هذا الصدد من الرغبة في الحصول على مكافأة. وقد أشار كلاهما في تعليق مشترك لهما على البحث الذي قام به <آريلي> وزملاؤه في عام 2008، أن كثيرا من حالات اللجوء إلى الخداع وعدم الالتزام بالأمانة في العالم الحقيقي(16) إنما تحدث حين يجد بعض الناس أنفسهم في موقف يُحتمل  فيه أن يفقدوا مالا أو سمعة أو وظيفة.

 

 

مناورة التحايل لعبور للطريق مخالف قواعد المرور: إن عبور الطريق على عكس ما يشير إليه ضوء المرور يمكن أن ينتقل من فرد إلى آخر بالعدوى. فحين يغامر أحد المارة ويندفع عابرا إلى الناحية الأخرى وسط تيار السيارات المنطلقة، فقد يتراءى لك أن تفعل مثلما فعل لئلا تتأخر عن موعد وصولك باحترامك قواعد المرور. وليحدث ما يحدث للسيارات التي سيكون عليها أن تتوقف لتجعلك تمر؛ أو لك أنت إذا لم تستطع هذه السيارات أن تتوقف.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/09-10/Image121.jpg

 

 

وإننا نعتقد أن القلق بشأن الخسارة هو دافع أساسي لارتكاب الغش في ميدان البحث العلمي. فقد قمنا، بالاشتراك مع الباحث في علم الأعصاب والكاتب في شؤون الطب< .G .R ستين> [عضو هيئة مستشاري الاتصال الطبي في تشابل هِل بولاية نورث كارولينا] بعمل مسح لألفين من الأبحاث العلمية غير المقبولة للنشر، وأغلبها في العلوم البيولوجية. وقد انتهينا، في العام الماضي (2012)، إلى أن معظم البحوث المرفوض نشرها يُردُّ إلى سوء السلوك في إجراء البحث العلمي، وأغلب أشكال هذا السلوك هو الغش والاحتيال. وحتى بعد تصويب النتيجة أخذا في الاعتبار التزايد السريع في أعداد البحوث العلمية المنشورة، فإننا توصلنا إلى أن معدل البحوث التي رُفض نشرها بسبب الغش قد ازداد بنحو عشرة أضعاف على مر العقدين السابقين. ويتوازى هذا التوجه مع تعاظم درجة الضغوط الباعثة على زيادة حدة التنافس من أجل الحصول إما على منح البحوث أو الوظائف الأكاديمية. والقول المأثور في الأوساط الأكاديمية الأمريكية: «إما أن تنشر أو تهلك»(17) يُخطِر عضو الهيئة الأكاديمية الذي ليست  لديه أبحاث علمية منشورة بالقدر الكافي، أو غير الممول بحثيا بما يكفي، بأنه قد يرى نفسه وقد انتزع منه مكتبه أو مختبر أبحاثه أو صفته العلمية أو عمله. ونتيجة لهذا، فإن كثيرا من حالات الغش في الأوساط الأكاديمية تنطلق من القلق على ضياع ممكن للعمل المهني، أكثر من أن يكون دافعها الهالة التي تحيط بالباحث جراء نشر بحوثٍ علمية.

 

ومما ذكره <.E پولمان> [الاختصاصي في عِلم وظائف الأعضاء من جامعة ڤرمونت] وهو واحد من الباحثين النادرين الذين قضوا بالفعل فترة عقوبة في السجن بسبب سوء سلوكه البحثي، ذكر أنه كان قلقا كثيرا جدا على قدرته على دفع رواتب الباحثين العاملين معه في مختبره. وقد قال للقاضي الفيدرالي في جلسة النطق بالحكم عام 2006: «لقد كُنتُ في طاحونة تدور بي، ولم أكن أستطيع الإفلات منها.» وقد انتهى أستاذ الطب النفسي <.D كورنفلد> [وهو أستاذ فخري في كلية الأطباء والجراحين بجامعة كولومبيا] في بحث نشره العام الماضي (2012) إلى نتيجة مفادها أن من أعظم بواعث إساءة السلوك البحثي عند المتدربين على عمل الأبحاث هو تخوفهم من أنهم سيفشلون في صعود السلم الوظيفي. وإمكانية الخسارة تخلق ما أطلق عليه كل من <رِك> و <لووِنستين> تسمية «الدافع الأعظم»(18) نحو سلوك سبيل الغش، وهو الدافع الذي قد يؤدي ببعض الأفراد إلى القفز فوق الضوابط الأخلاقية المعهودة.

انتشار هائج للخداع والغش(****)

 

يمكن للغش أن يتوالد. فإذا تغلب امرؤ على العائق الأول المانع من الغش، فإن الحواجز التالية أمام السلوك غير الأمين سوف تبدو أصغر وأصغر وأنه من السهل تجاوزها. فـ <آريلي> يعتبر هذه الاستجابة ناتجا من نواتج صيغة: «ولِمَ لا أفعلها من جديد، فقد فعلتها من قبل؟»(19)، تماما على نحو ما يقال: «ولِمَ لا، فما دمت قد أفسدت نظامي الغذائي، إذن سأتناول قطعة الحلوى هذه هي الأخرى.» وقد لاحظنا، في دراستنا حول الأبحاث غير المقبولة للنشر، وجود تكرار في ارتكاب السلوك الخاطئ عند باحثين علميين أصبح الغش والخداع عادة لديهم. ولعل أشد الأمثلة تطرفا على ذلــك هــو حــالــة الاختصــاصــي في دراســة التخــديــر الجراحي <.Y فوجي>، وكان يعمل من قبل في جامعة توهو بطوكيو، والذي يقال إنه قام بتلفيق بيانات مالا يقل عن 183 مقالة علمية.

 

 

ليس بهذه السرعة: إن علامات الرادار المراقب للسرعة تشجع السائقين على مراعاة حد السرعة القصوى, وذلك لأن تلك العلامات تُشعِر المخالفين بالخجل بإعلانها عن إفراطهم في السرعة بينما هم يتجهون للقاء شخص في الجوار. فالتذكير بوجوب احترام قواعد المرور هو من الوسائل الفعالة لتقليص حالات الغش في تطبيق هذه القواعد.

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/09-10/Image131.jpg

القفز فوق الضوابط الأخلاقية المعهودة.

 

 

وهناك طريق آخر ينتشر به الغش، وهو سلوك التقليد. فرؤية شخص آخر يرتكب الغش، ومن غير أن تكون هناك عواقب ظاهرة تنتج من هذا، هو مما يشجع الغير بشدة على القيام بالعمل نفسه. ولا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى المشاة المنتظرين عند عبور نقطة الشارع، أو إلى المسافرين الواقفين في خط الانتظار عند موقف حافلة النقل العام لكي يلاحظ أمثلة على تلك الظاهرة. وفي عام 2011 قامت عالمتا النفس <.A بلاطيو> و< .M ڤرمكو> [من جامعة لوبلن الكاثوليكية في بولندا] بوصف تجربة يقوم فيها الطلبة بإجراء اختبار للتهجئة في قاعة جُهِزَت سرا بمرآة لا يُرى من خلالها إلا من جهة واحدة، وقد وُضِعَ في القاعة قاموس ومعجم موسوعي للألفاظ ، وطلب إلى هؤلاء الطلبة ألا يستخدموها. وقد ظهر أن المشاركين في التجربة كانوا يقومون بالغش ثلاث مرات حينما كان يوجد بينهم مساعد للباحثين، يجلس متخفيا وكأنه طالب، ويقوم هو نفسه بالغش. فالواقع أنه عندما لا تكون هناك رقابة على الغش، فإن هذا قد يدفع المرء إلى أن يتصور أن عليه أن يغش كي يبقى قادرا على التنافس مع الغير.

 

وقد دفعت مثل هذه الملاحظات بـ <آرْيلى> إلى أن يصف فعل الغش بأنه «مُعدٍ». ونحن، باعتبارنا طبيبين اختصاصيين في الأمراض الـمُعدية، نرى أن هذا التشبيه مثير للاهتمام؛ ذلك أن فكرة هذا النوع من العدوى الاجتماعية قد تساعد على تفسير الدرجة العالية لتفشي الغش في مجموعات صغيرة نسبيا من البشر. مثال ذلك، إن مئة وخمسة وعشرين طالبا من طلبة جامعة هارڤارد خضعوا للتحقيق معهم بتهمة الغش أثناء امتحان نهائي في مقرر «المدخل إلى دراسة الحكومة.» وقد طُلب إلى أكثر من نصف عدد هؤلاء الطلبة أن ينسحبوا من الدراسة لفترات تصل إلى عام، عقابا على الغش الذي ارتكبوه. وإنه من غير المتصور إحصائيا أن ما يقرب من نصف عدد طلبة ذلك الفصل البالغ 279 طالبا، يتكوّن من مرضى اجتماعيين، وذلك لانخفاض مستوى نسبة المرض الاجتماعي داخل المجموعات، التي لا تتعدى %3 بين الذكور، و%1 بين الإناث. والتفسير الأنسب لانتشار ظاهرة الغش قد يكون هو العدوى. وانتشار ظاهرة عدم احترام القواعد ربما أدّى بأولئك الطلبة إلى أن يستنتجوا أنه لا يوجد ما يمنع من الغش في الامتحان. (كان عنوان المقرر هو «مدخل إلى الكونگرس». وهكذا، فلم يفعل الطلبة أكثر من أن يفرطِوا في التمثل بموضوع دراستهم.)

 

وتماما، العدوى المرضية القليلة الشأن قد تؤدي إلى وضع أكثر خطورة من حيث الإصابة بالمرض إذا لم تُعالَج، فإن أفعال خيانة الأمانة الضئيلة الشأن، التي تمر من دون عقاب، يمكن أن يتبعها سلوك انحرافي أشد فظاعة من تلك الأفعال الأولى. وإليك مثالا: حالة <.L ڤان پاريگس>، الذي كان يوما ما شابا واعدا ضمن مجموعة المتدربين بعد حصولهم على الدكتوراه في مختبر الحائزِ على جائزة نوبل <.D بالتمور> بمعهد كاليفورنيا للتقانة (MIT). وبحسب ما قاله <ڤان پاريگس>، في مقابلة صحفية نُشرت عام 2010, فإنه كان يختصر بعض الإجراءات بشكل معيب. إلا أن <بالتمور> لم يكن يدري شيئا عن ذلك السلوك في تلك الفترة. وحين انطلق <ڤان پاريگس> يعمل في مختبر خاص به في المعهد MIT، تضخم سلوكه الاحتيالي غير الأمين وزاد شدة. ففي عام 2009، اكتشف مكتب نزاهة البحث العلمي أنه قام بتزوير البيانات التي أوردها في العديد من طلبات المنح البحثية، وكذلك في المقالات التي نشرها وفي عروضه عن أبحاثه. وقد تم رفض خمسٍ من مقالاته البحثية، وفقد <ڤان پاريگس> وظيفته جراء ذلك.

 

وأكثر من ذلك، فقد يستطيع فعل ارتكاب غشٍ واحد أن يؤدي إلى نتائج كارثية يبقى تأثيرها لأمدٍ طويل في المجتمع ككل. وأحد الأمثلة الشهيرة على ذلك هو حالة مقالة نشرت في مجلة Lancet عام 1998(20)، وكان قد كتبها <.A ويكفيلد>، وهو باحث بمستشفى رويال فري بلندن، في تخصص تكوين الجهاز الهضمي وأمراضه(21)، والتي أراد أن يثبت فيها وجود رابط بين مرض التوحد وأمراض الأمعاء والتطعيم ضد الأمراض. وهذه الدراسة، التي أصبح أعضاء هيئة التحرير في المجلة الطبية البريطانية (BMJ) يصفونها من بعد بأنها «غش مقصود في شتى تفاصيلها،» قد أدت إلى إذكاء الحركة الحديثة المناوئة للتطعيم، إلى حد أن الثقة العامة في التطعيم تستمر بالتآكل، بما يؤدي إلى حدوث حالات من العدوى كان يمكن منعها إذا ما أُجري التطعيم المناسب.

 

مُلقح من أجل الأمانة(*****)

 

تَقَدم كلٌ من عالِـمة النفس <.L كوسميدس> وعالِم الأنثروبولوجيا <.J تُوبى> [من جامعة كاليفورنيا سانتاباربرا] بفكرة مؤداها أن البشر يتمتعون معا بالقدرة على الخداع والتضليل وكذلك بموهبة مميزة في اكتشاف الغشاشين. وقد استمر هذان العالمان لأكثر من عقدين من الزمن يعملان من أجل إثبات أن الناس يتطلعون إلى اتخاذ انتهاكات القواعد الاجتماعية سبيلا إلى تحديد الغشاشين، وتحديدا في المواقع الأكثر احتمالا في تعرضها للغش، على نحو ما يحدث عندما يدخل فتى في سن السابعة عشرة إلى محل لبيع المشروبات الكحولية، أو حين يحضر حفلا تُوزّع فيه تلك المشروبات. إن جزءا من تلك الموهبة على كشف التضليل وخيانة الأمانة يتمثل في قدرتنا على القيام بأبحاث علمية يمكن استخدامها في ابتكار خطط أكثر فاعلية في الحد من الخداع أكثر وأكثر. ومع أن ثمة نزعة طبيعية نحو اللجوء إلى تشديد العقوبات بهدف إثناء الناس عن ممارسة الغش، إلا أنه ليس أمامنا إلا بعض الدلائل القليلة التي تؤيد الفكرة القائلة إن العقوبات الأقسى هي أقوى في فاعليتها من العقوبات المعتدلة. وعوضا عن ذلك، فإن اللجوء إلى التربية، لإقامة وتدعيم القيود الشخصية التي تحول دون ارتكاب الغش وخيانة الأمانة، يشكل مدخلا لحل المشكلة هو أكثر جاذبية من استخدام العقاب.

 

وبحسب <آريلي>، فإن صورة المرء عن نفسه هي قيد ذو أهمية من أجل منعه من ارتكاب الغش وخيانة الأمانة: ذلك أن البشر لا يرتكبون الغش حينما يجعلهم ذلك ينظرون إلى أنفسهم نظرة سيئة. أما حين يحدث ويقومون بالغش بالفعل، فإنهم ربما يلجؤون إلى ابتداع مسوغات لما يفعلونه تبدو عقلانية، وذلك حتى يظهروا أمام أنفسهم بمظهر أفضل. وهكذا، فإن مما له وزن معتبر وتأثير أشد في الحد من الغش هو التفكير المتكرر بميثاق للشرف، أو اللجوء إلى جعل الأفراد يوقعون على إقرار بأنهم لن يرتكبوا غشا. ويقترح <آريلى> في هذا الصدد، أن رفع مكان التوقيع من أسفل الصفحة إلى أعلاها في نماذج الإقرارات الضريبية هو مما قد يساعد على التزام دافعي الضرائب الأمانةَ في إقراراتهم. وعلامات المرور الرادارية، تنجح في تعديل سلوك السائقين، لأنها تستثير شعور الخجل لديهم بإعلانها عن مخالفات سرعة سياراتهم.

 

أما إذا استهدفنا تخفيض الدافعية العالية نحو الغش، التي تنشأ عن خشية الخسارة، فإننا سنكون بحاجة إلى نظم للمكافآت تؤدي إلى إعلاء حس الفرد بالأمان، وذلك في المواقف التي يكون فيها إمكانُ الغش متأرجحا بين الحدوث وعدمه. وفي الميدان الأكاديمي، فإن تخفيض مدى اعتماد أعضاء هيئة التدريس على ميزانيات توفرها منح البحث العلمي قد يضعف من قوة الإغراء باللجوء إلى رفع مصطنع لقيمة نتائجهم أو إلى تلفيقها. كذلك، فإن إعلان التقدير للفرق الناجحة بحثيا، أَكثرَ من تقدير أفراد معينين في هذه الفرق، ربما يسهم هو الآخر في الحد من بواعث القيام بالسلوك غير الشريف.

 

هذا وإن تعليم قواعد الأخلاق، حينما يوجد في الكليات أو في مواقع العمل، ينبغي أن يبرز الثمن الباهظ للغش وآثاره المدمرة. فقد أوصت لجنة العلاقات العامة التربوية، في عام 2006، أن تعرض المعاهد والجامعات الأمريكية مقررات مخصصة لمبادئ الأخلاق، ولكن الكثير منها لم يقم بعد بذلك. إن مثل هذا التعليم قد يؤدي إلى تخفيض معدل انتشار الغش في المعاهد والكليات، وأن حَدّا للخلط القائم في أذهان كثير من الطلبة بشأن ما يعنيه مفهوم انتحال أفكار الغير(22).

إن المراقبة وتشديد العقوبات على الغشاشين هما أداتان مهمتان وضروريتان للحد من انتشار الغش. وكما أن اختبارات تشخيص المرض يمكنها أن تكشف عن وجوده، فإن التقانة المتقدمة يمكنها الكشف عن تعاطي الرياضيين للمنشطات، كذلك فإن الفحص الدقيق لبيانات البحوث، مع الاستعانة بالأدوات الإحصائية، يمكنه الكشف عن حالات الغش بين الباحثين العلميين. إضافة إلى ذلك، فإن أصوات صفارات الإنذار من قبل العلماء يمكنها أن تقوم بدور الحيوان الحارس في حالة أوبئة الأمراض، وذلك بإلقاء الضوء على العلامات المبكرة للغش. فمن قام بالتنبيه على السلوك الاحتيالي عند كلٍ من <آرمسترونگ> و<هاوزر> و<بولمان> و<ڤان پاريگس> إنما هم أفراد من داخل جماعتهم اللصيقة. وقد قال مرة قاضي المحكمة العليا الفيدرالية <.L برانديس>: «إنه يقال عن أشعة الشمس إنها أفضل المطهرات التي تقضي على الجراثيم، وإن الضوء الكهربائي هو أعظم شرطي فعالية. وطبقا لذلك، يتعين الاعتراف بمشكلات السلوك المنافي للأمانة ومناقشتها علنا.»

 

ويقال في علم الأوبئة: إن فردا ما يمكن أن يُحمى من الإصابة بالمرض عن طريق «مناعة القطيع» الذي بواسطته يكون معظم أفراد مجموعة مقاوما لعاملٍ حامل للعدوى. وعلى هذا النحو نفسه، فإن الآباء الذين يقومون بتطعيم أطفالهم، إنما يقومون في الوقت نفسه بحماية أطفال الآخرين الذين لم يتعرضوا للتطعيم. وكذلك الحال مع الأفراد في المواقع التي يمكن أن يتم فيها ارتكاب الغش: فإنه ينبغي أن يُحصَّنوا ضد الغش عن طريق التذكير بالقواعد الأخلاقية، وبحالات العقاب التي تَعرَّض لها كل من كُشِف أمر غشه.

 

ولأن سلوكا بسيطا غير قويم يمكن أن يقود إلى ما هو أشد وأشد فظاعة منه، لذلك فإن أفعال الخداع وخيانة الأمانة، مهما صغرت، يتعين اتخاذ إجراء جدي بشأنها. وهــذا هــو أساس نظريــة الإجــرام التي أطــلقها الـراحـل <.Q .J ويلسون>، عام 1982، وأعطاها اسم نظرية النوافذ المحطمة(23) لجريمة. إن  الاهتمام بأمر الجنح الطفيفة، من قبيل التخريب المتعمد للممتلكات، واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها، ربما يشكل عائقا أمام تحول صغار الجانحين إلى مجرمين قساة، تماما كما أن علاج إصابة جلدية موضعية يمكنه أن يحول دون نمو تلك الإصابة لتصبح تعفنا دمويا ربما يهدد حياة المريض. ولو أن ميل <ڤان پاريگس> إلى الاختصار المعيب للإجراءات والقفز فوق بعضها انتهازا لأيسر السبل كان قد وجد من يكتشفه ويتعرفه ويتعامل معه بالطريقة المناسبة، عندما كان في مرحلة التدرب بعد حصوله على الدكتوراه، إذن فلربما كان سيظل عضوا في هيئة التدريس الأكاديمية إلى اليوم.

 

وأخيرا، فإن مكافحة الغش سوف تتطلب، على ما هو مرجح، النظر إلى الأمر في آن واحد من جهات متعددة، وذلك من أجل تشجيع قيام ثقافة أكثر احتراما لقواعد الأخلاق مما هو عليه الحال حاليا. وينبغي أن يكون من بين عناصر هذا المخطط تعديل نظم الجزاء، بحيث نُعلي من قدر فريق العمل والتعاون، ونعاقب من يسيء السلوك على نحو منضبط ومستمر، ونقيم إجراءات توفر حماية لمن يُبلِّغ عن سلوك الغش والخداع، وتُحسِّن مناهج الكشف عن عمليات الغش. ومع أن الغش قد يوفر، على الأمد القصير، مكاسب للشخص الذي يرتكبه، من قبيل الجوائز المالية والتقدير المعنوي، إلا أنه عالي التكلفة على الأفراد أو على المجتمع. لقد سُحِبَت من <آرمسترونگ> ألقابه جميعها، وحُرِّمت عليه ممارسةُ مسابقات الرياضة بقية عمره، كما طُرِد <هاوزر> من عمله كأستاذ في جامعة هارڤارد. وما تعلماه هذان العالمان وكثير من أمثالهما، والشعور بالحزن والندم يعصر قلبيهما، هو أن للغش والخداع ثمنا باهظا وتكلفة عالية جدا.

 

المؤلفان

Ferric C. Fang
 

<فانگ> أستاذ طب المختبرات والبيولوجيا الميكروبية وطب وبيولوجيا الأمراض في جامعة واشنطن. ويقوم بدراسة التخلق البكتيري المرضي، وهو رئيس تحرير مجلة العدوى والمناعة Infection and Immunity.

 

 

Arturo Casadevall
 

<كاساديڤال> أستاذ ميكروبيولوجي وعلم المناعة <.L فورشهيمر> و<.J فورشهيمر> في كلية ألبرت آينشتاين للطب. ويقوم بدراسة التخلق المرضي للفطريات وآليات عمل الأجسام المضادة، وهو المحرر الأول لمجلة online journal mBio.

 

 

  مراجع للاستزادة

 

Mechiavellian Intelligence: Social Expertise and the Evolution of Intellect in Monkeys, Apes, and Humans. Richard W. Byrne and Andrew Whiten. Oxford University Press, 1989.

How Many Scientists Fabricate and Falsify Research? A Systematic Review and Meta-Analysis of Survey Data. Daniele Fanelli in PLOS ONE, Vol 4, No. 5, Article e5738, 11 pages; May 2009.

The (Honest) Truth about Dishonesty: How We Lie to Everyone-Especially Ourselves. Dan Ariely. HarperCollins, 2012.

Winner Takes All. Arturo Casadevall and Ferric C. Fang in Scientific American, Vol. 307, No. 2, page 13; August 2012.

Misconduct Accounts for the Majority of Retracted Scientific Publications. Ferric C. Fang, R. Grant Steen and Arturo Casadevall in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 109, No. 42, pages 17,208-17,033: October 16, 2012.

Males Are Overrepresented among Life Science Researchers Committing Scientific Misconduct. Ferric C. Fang, Joan W. Bennett and Arturo Casadevall in mBio, Vol. 4, No. 1, page 300640-12; January 22, 2013.

(*) WHY WE CHEAT: مقالة صدرت في العدد 2013 6/5 من مجلة Mind التي تصدر عن Scientific American

(**) Origins of Deception

(***) Everyone cheats__A Little

(****) Deception Gone Wild

(*****) Inoculated for Honesty

 

(1) “Costs of Deception: Cheaters Are Punished”

(2) U.S. Office of Research Integrity

Health Partners Research Foundation (3)

(4) suspicious shenanigans

(5) أو: اللحاءات المخية

(6) hamadryas baboons

(7) natural-born cheaters

(8) psychological tests if creativity

(9) tactical deception

(10) neocortex

(11) self-deception

(12) rationalizations

(13) انظر: Unveiling the Real Evil Genius,”by Ingrid Wickelgren;

Scientific American Mind, November/December 2012

(14) Remembrance of Things Past

(15) we are who we are becuase we cheat

publish-or-perish (16)

real world (17)

hypermotivation (18)

(19) What the hell effect

(20) في عام 2004 أشارت المجلة Lancer إلى عدم صحة هذه المقالة جزئيا، وفي عام 2010 إلى عدم صحتها كليا.

(21) gastroenterology

(22) plagiarism

(23) broken windows theory

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى