جدران من المياه
جدران من المياه(*)
على ما يعتقد، إن تيارات المحيطات والظواهر الشواشية (1)
الأخرى هي بطبيعتها غير متوقعة. غير أن الرياضياتيين (علماء
الرياضيات) يبحثون حاليا عن نظام لجنون الطبيعة في هذا المضمار.
<D. ماكنزي>
باختصار
غالبا ما تتشكل خطوط تقسيم غير مرئية في تدفق الموائع، بما في ذلك الرياح وتيارات المحيطات. ومثل «حواجز النقل» هذه (المسماة «بنى متماسكة لاگرانجية(2)») تجعل هذه الظواهر الشواشية أكثر قابلية للتوقع. وفهم هذه البنى بإمكانه المساعدة على عمليات البحث في البحار، وتحسين أداء عملية التنظيف عند حدوث تسرب نفطي. كما يمكن أن يساعد على حل أي مشكلة ذات علاقة بحركة الموائع المضطربة، مثل نمذجة تدفق الدم أو تغيرات الطقس.
|
على طول خليج المكسيك، كان عام 2010 صيف التسرب النفطي. فقد تدفق نفط منصة ديبووتر هوريزون التابعة لشركة برتش بِتروليوم BP حتى بلغ حدود ولاية لويزيانا، مما جعل السياح يتجمعون بعيدا عن ساحل الخليج حين اقتنعوا، من خلال الاطلاع على التقارير الإعلامية، بأن النفط على وشك الوصول إلى الشواطئ، إن لم يكن قد أدركها بعد. وهكذا خلت من السياح تلك الشواطئ حتى البعيدة منها بعد شاطئي فورت ميرس وكي لارگو في ولاية فلوريدا، وتدنت مستويات نسب شغل غرف الفنادق هناك.
والـواقــع أن الوضـع لم يبلغ قـط هــذه الـدرجة من السوء – لا سيما على الساحل الغربي لولاية فلوريدا. فهذا الجزء من الخليج كان محصنا خلال التسرب النفطي من قبل فجوة غير مرئية لم تتبدد. وكان ثمة خط خفي يقع فوق الهضبة القاريّة قبالة فلوريدا يقوم بتوجيه تدفق النفط ويحول دون انتشاره أكثر في الجهة الشرقية. ولم يكن هذا الخط من مادة صلبة، بل كان جدارا من الماء يتحرك في المنطقة كما تتحرك تيارات المحيط المتحولة. ومع ذلك، كانت لهذا الجدار فعالية تضاهي فعالية الأسوار البحرية والحواجز المانعة.
يسمي العلماء هذه الجدران الخفية «حواجز النقل» transport barriers، وهي المكافئ البحري «للحدود القارية الفاصلة(3) continental divides، فهي تفصل المياه المتدفقة في اتجاه معين عن المياه التي تجري في اتجاه آخر. وفي محيط شواشي، تقدم حواجز النقل هذه خارطة طريق تفيدنا باتجاه الحركة. ومع أنه غالبا ما يبدو أمرا محالا التنبؤ تماما بحركة التيارات المائية، فإن حواجز النقل تعيد نوعا من الترتيب والبنية إلى تدفقاتها الشواشية.
وخلال السنوات الأخيرة، ازدهرت دراسة هذه البنى؛ ولكن أهميتها لم تقدر حتى الآن حق قدرها لدى الأسرة العلمية. إلا أن الباحثين بينوا كيف يمكن أن تساعد دراستها على تفسير السبب الذي جعل نفط السطح في التسرب النفطي بخليج المكسيك يختفي بسرعة أكبر مما كان متوقعا، كما توضح كيف لم يتسرب منه شيء عبر مضيق فلوريدا إلى المحيط الهادي. والإلمام بكيفية سير هذه التدفقات يمكن أن يفعل جهود عمليات التنظيف إذا ما حدثت كوارث مستقبلا. ويمكن لهذه البحوث أيضا أن تكشف الطريقة التي يؤثر بها تدفق الدم في تشكيل لويحات في الشرايين، وأن تساعد على التنبؤ بكيفية تنقل الأبواغ(4) المسببة للحساسية في الأجواء.
وخلال سبعينات القرن الماضي، نضجت دراسة الشواش عندما اكتشف العلماء أن الاضطرابات في بعض الظواهر الطبيعية، بما فيها الاضطرابات البالغة الصغر، يمكن أن تؤدي إلى تغييرات عميقة. والمثل الذي يتردد دوما في هذا السياق هو أن رفرفة من جناح فراشة في جهة من الكرة الأرضية يمكن أن تحدث تغييرات حادة في تيارات الهواء التي تتوالى إلى أن تتسبب – بعد أسابيع – بإعصار في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية.
إن الموائع المتدفقة – التي تشمل الغازات كالهواء، والسوائل كمياه البحر – هي في الواقع مثال نموذجي بامتياز للنظم الشواشية، وهي واحدة من أكثرها انتشارا: ديناميكا الموائع تتحكم في ظواهر تمتد من تدفق گولف ستريم(5) GulfStream إلى تدفق الهواء عبر عنفة هوائية، مرورا بتقويس ركلات الجزاء في كرة القدم. لقد تم كشف النقاب عن المعادلات الرياضياتية التي تصف تدفق الموائع قبل نحو 200 سنة، من قبل <L-C. نافييه> و<G. ستوكس> علما بأن معرفة المعادلات لا تعني حلها، فمعادلات <نافييه – ستوكس> تظل من بين المسائل الأكثر تحديا في الرياضيات.
ومن الناحية النظرية، فإن الحل الدقيق لمعادلات <نافييه – ستوكس> سيؤدي إلى توقع دقيق ومفصل لسلوك المائع مستقبلا. ولكن الدقة في الجواب ستكون مرتبطة بمدى دقة معرفتنا للحاضر – وهو ما يسميه العلماء الشروط الابتدائية the initial conditions. وفي الواقع، لا يمكننا أبدا معرفة الوجهة التي سيأخذها أي جزيء ماء في المحيط، ففي المنظومة الشواشية تتزايد (أسيا بمرور الزمن) جميع الارتيابات – شأنها في ذلك شأن آثار حركات الفراشة. ولذا، فحلكم الدقيق لمعادلات <نافييه – ستوكس> سرعان ما سيفقد مغزاه.
ومع ذلك، فمصطلح «شواش» chaotic لا يعني «العشوائية» أو «استحالة التكهن والتوقع»، هذا على الأقل من حيث المبدأ. وقبل نحو عقد، أنشأ علماء الرياضيات إطارا نظريا لفهم البنى المستدامة، مثل حواجز النقل المندسة في الموائع الشواشية. وفي عام 2001، أطلق <G. هالر> [وهو عالم رياضيات ينتسب الآن إلى المعهد الاتحادي السويسري للتقانة بزيوريخ] على هذه البنى اسما يبدو صعبا، وهو بنى متماسكة لاگرانجية Lagrangian coherent structures . والأكثر من ذلك شاعرية أن <هالر> سمى البنية المعقدة لحواجز النقل الهيكل العظمي للاضطراب the skeleton of turbulence. وبمجرد تحديد هذه البنى في كتلة من الموائع، يمكن تقديم تنبؤات مفيدة على المدى القصير إلى المتوسط حول المكان الذي سينقل إليه تدفق المائع شيئا ما – مثلا -، حتى من دون معرفة حل كامل ودقيق لمعادلات <نافييه – ستوكس>.
كيف يبدو حاجز النقل؟ أنتم تشاهدون أحدها كلما نظرتم إلى حلقة من الدخان. في نواتها هناك بنية متماسكة لاگرانجية جاذبة – وهي منحن تتدفق في اتجاهه الجسيمات، كما لو كانت مجذوبة بمغنطيس. وفي العادة، نحن لا نستطيع رؤية مثل هذه البنية، ولكن إذا نفثنا دخانا في الهواء، فسوف تتراكم جسيمات الدخان حولها، وتجعلها مرئية.
ومن الأصعب بكثير تصور بنى متماسكة لاگرانجية طاردة(6) – وهي منحنيات تظهر، إذا كانت مرئية، وكأنها تدفع الجسيمات لإبعادها. وإذا كنا قادرين على الرجوع بعجلة الزمن إلى الوراء فسيسهل علينا مشاهدتها (لأن من شأنها عندئذ جذب الجسيمات). وحيث إنه يتعذر علينا ذلك، فالطريقة الوحيدة للعثور عليها هو تحديدها والكشف عنها بالتحليل الحاسوبي(7). ومع أنه من العسير مشاهدة بنى متماسكة لاگرانجية طاردة فإنها بالغة الأهمية لكونها تميل إلى اتخاذ شكل حواجز نقل حسبما أثبته <هالر> رياضياتيا.
وقد بينت تجربة أجريت في صيف عام 2003 في خليج مونتيري على ضفاف سواحل كاليفورنيا أنه يمكن حساب بنى لاگرانجية متماسكة لحظة بلحظة (في الزمن الحقيقي) وفي كتل حقيقية من الماء. وقد رصد <C .S. شادن> [عالم الرياضيات من معهد إلينويز للتقانة] ومعاونوه التيارات السطحية في الخليج باستخدام أربع محطات رادار عالية التردد نصبوها في أرجاء خليج مونتيري.
وبتحليل البيانات الرادارية، اكتشف الباحثون أن هناك في معظم الأوقات حاجز نقل طويلا شق طريقا متعرجا عبر الخليج تقريبا على طول خط يصل بين پوينت پينوس Point Pinos، في الجهة الجنوبية، والضفة الشمالية. والملاحظ أن المياه في الجهة الشرقية من الحاجز تجري وتعود إلى داخل الخليج، في حين تتجه مياه الجهة الغربية نحو الخارج باتجاه البحر. (ومن حين إلى آخر ينفصل الحاجز عن پوينت پينوس ويبتعد نحو البحر). ومثل هذه المعلومات يمكن أن تكون حيوية في حال حدوث تسرب ملوثات.
وللتأكد من أن البنى التي حُسبت تصرفت في واقع الأمر كما كان معلنا، رصد فريق <شادن> حركة أربع عوامات منقادة كان قد نشرها بالتعاون مع معهد البحوث لحوض سمك خليج مونتيري. وعندما وضع الفريق عوامتين على جهتي حاجز النقل، لاحظ أن عوامة اتبعت مجرى المياه داخل الخليج، بينما امتطت الأخرى التيارات المتجهة جنوبا على طول الساحل. وبيّن الفريق كذلك أنه إذا ما وضعت عوامة في جهة الحاجز التي تبقيها داخل الخليج, فيمكن أن تظل هناك (داخل الخليج) مدة 16 يوما – حتى وإن لم يستعمل الفريق في حساباته سوى البيانات المقدمة خلال ثلاثة أيام. وتشهد متانة هذه النتائج على قوة واستمرار وجود حاجز النقل. ولمدة 16 يوما، كان لدينا حقا شيء أشبه بجدار غير مرئي داخل المياه.
نجاة بالكاد في الخليج(**)
كان أبرز ظهور درامي لمفهوم حاجز النقل قد تجسد في أعقاب تسرب النفط إلى خليج المكسيك عام 2010. وفي هذا السياق، قام علماء المحيطات وعلماء الرياضيات بتحليل كميات ضخمة من البيانات حول التسرب فبينوا أن تلك المعلومات كانت قادرة على تمكين العلماء من التنبؤ بطريقة أفضل بالوجهة التي كان سيأخذها النفط المتدفق.
ويمكن أن تساعد بنى متماسكة لاگرانجية على تفسير سبب اختفاء نفط السطح بسرعة تجاوزت جميع التوقعات – بسرعة أكبر، مثلا، من سرعة اختفاء النفط المتسرب عام 1989 من إكسون ڤالديز في مضيق الأمير ويليام بألاسكا. (أما مصير النفط الباطني أسفل السطح فهو أكثر إثارة للجدل، ومن الجائز أن يكون قد ظل جزء كبير منه في قاع الخليج). لقد اتضح فيما بعد أن خليج المكسيك الدافئ كان وكرا لجحافل من المتعضيات الميكروية micro organismsالتي تتغذى بالمواد الهيدركربونية المتسربة بشكل طبيعي في مياه الخليج. ونظرا لوفرة الهيدركربونات مقارنة بالوضع الاعتيادي فقد ازدهرت هـــذه المتعضيـــات. وبهــذا الصـدد بَيّن عالم الأحيـاء الميكرويـة <D. ڤالنتاين> وعالم الرياضيات <I. مرزيك> [وكلاهما من جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا] أن البكتيريا تميل إلى التجمع في مناطق مناسبة ومتماسكة تحددها حواجز النقل. ومن الواضح أن طول مدة الاستقرار التي عرفتها هذه المناطق ساعدت على تحلل النفط. ويلاحظ <ڤالنتاين> أن الوضع سيكون مختلفا لو حدث الانفجار قبالة السواحل البرازيلية حيث اكتُشفت احتياطيات هائلة من النفط في أعماق المياه. وفي تلك المناطق تؤدي التيارات إلى البحر، حيث لا وجود لإمدادات محتجزة من البكتيريا لتتغذى بالهيدركربونات.
وبإمكان حواجز النقل أيضا تفسير لماذا لم يسلك نفط منصة ديبووتر هوريزون مسلك لوپ كَرَنت Loop Current، وهو دفق قوي يعبر مضيق فلوريدا ويصل إلى المحيط الأطلسي، حيث كان من الممكن أن يحدث تلوثا للشواطئ على طول الساحل الشرقي. ولغاية 2/7/2010، كانت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)ن(8) تتوقع نسبة 61 إلى 800 في المئة من احتمال وصول بعض النفط إلى مجرى لوپ كَرَنت. وقد استند هذا الاستنتاج إلى 155 عاما من البيانات التاريخية الخاصة بتيار المحيط في خليج المكسيك.
في عام 2010، يبدو أننا كنا محظوظين. أولا، فقد هبت رياح عاصفة غير مألوفة من الجنوب الغربي دفعت البقعة النفطية نحو الشمال، بعيدا عن مجرى لوپ كرنت. وإضافة إلى ذلك، كانت هناك دوامة عملاقة، تدعى إدي فرانكلين، انفصلت عن تيار لوپ كَرَنت ودفعته جنوبا أكثر من المعتاد، مُشكلة حاجزا بين النفط والتيار. ويبقى أن نعرف ما إذا كان بالإمكان مسبقا توقع أي من هذه الظواهر. وقد بيّن <هالر> والباحثة في علم المحيطات <M. أولاسكواگ> [من جامعة ميامي] أن هناك تغيرات أخرى متقلبة ظاهريا في البقعة النفطية كانت متوقعة. فعلى سبيل المثال، ظهر يوم 17/5/2010 ذيل نمر tiger tail عملاق (سمي هكذا نظرا لشكله) من النفط قطع فجأة مسافة أكثر من 160 كيلومترا نحو الجنوب الشرقي خلال يوم واحد. وحسب تحليلهما الحاسوبي فإن «ذيل النمر» سار على طول بنية متماسكة لاگرانجية جاذبة، وقد جرى توقع حدوث عدم الاستقرار الوشيك قبل سبعة أيام من وقوعه وذلك عبر تشكل «نواة» قوية جاذبة على هذه البنية. وبشكل مشابه، تم توقع تراجع مفاجئ نحو الغرب للحافة الرئيسة من البقعة النفطية 16/6/2010، قبل تسعة أيام من حدوثه، وذلك من خلال تشكل نواة طاردة قوية بشكل استثنائي شرق البقعة. فلو نصبت تجهيزات مراقبة قادرة على تحديد حواجز النقل؛ لكان بالإمكان إرسال قوارب تنظيف إلى المواقع المناسبة.
وفي خضم دراسة تيارات المحيطات، تكاثرت تطبيقات مفهوم حاجز النقل خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، درس <S. روس> [من معهد البوليتكنيك بفرجينيا] تأثير حواجز النقل بالغلاف الجوي في المُمْرضاتpathogens التي تنتقل جوا. وهكذا، استعمل <روس> وعالم الأحياء النباتية <D. شميل> [من معهد البوليتكنيك بفرجينيا] طائرة صغيرة من دون طيار لجمع عينات من الأجواء على ارتفاع يتراوح بين عشرات ومئات الأمتار فوق مدينة بلاكسبورگ. واكتشف الباحثان أنه عند مرور بنية جاذبة من هناك أو عند مرور بنيتين طاردتين بسرعة، الواحدة تلو الأخرى، تظهر نتوءات وزيادات حادة في عدد الأبواغ لفطر يسمى المغزلاوية (الفيوزاريوم) Fusarium. وقد افترض <روس> أنه في الحالة الأولى تم جذب الأبواغ نحو البنى المتماسكة، أما في الحالة الثانية فحوصرت تلك الأبواغ بين حاجزين طاردين، شأنها شأن القطيع الذي سيق باستخدام المناخس prods ليستقر في حيز ضيق. وكانت بعض الأبواغ من نوع لم يكن يظهر عادة في ولاية فرجينيا، مما يوحي بأن تلك البنى ظلت على حالها خلال فترة طويلة من الزمن كانت كافية ليتم نقل الأبواغ عدة مئات من الكيلومترات.
حاليا يقوم <شادن> بدراسة دور بنى متماسكة لاگرانجية في تدفق الدم. وعلى سبيل المثال، فقد استخدم هذه البنى للكشف عن الحدود الفاصلة بين الدم المتدفق عند نبضة من نبضات القلب والدم المتدفق عند النبضة التالية. وأثبت في هذا الصدد أن معظم الدم في البطين الطبيعي يظل فيه خلال نبضتين على الأكثر. ولكن لوحظ لدى ستة مرضى يعانون تضخم القلب أن إعادة جريان الدم وضخه من البطين يتطلب وقتا أكثر، ويمثل ذلك حسب ما كتب <شادن> في مسودة دراسته «أحد عوامل خطر تخثر الدم الذي يؤكده الكثير من المختصين».
وبعد مضي أكثر من عقد على تسمية <هالر> هذه البنى «بنى متماسكة لاگرانجية»، فإنها لا تزال بعيدة عن الاتجاهات السائدة في بحوث علم المحيطات أو علم الغلاف الجوي. ومن بين الاعتراضات التي أثيرت بشأن فائدتها أنه إذا ارتُكبت أخطاء في قياس حقل التدفق فإن تلك الأخطاء ستنتشر، لا محالة، وستتولد منها أخطاء أيضا حول توقعات حاجز النقل. غير أن تجربة خليج مونتيري أظهرت أن موقع حواجز النقل لم يتأثر نسبيا بأخطاء القياس.
وهناك اعتراض آخر يتمثل في أن حساب البنى يتطلب معرفة حقل التدفق بأكمله، وهذا يعني معرفة سرعة المياه المتدفقة عند كل نقطة. غير أنه إذا ما عرفتم ذلك، يمكنكم توقع سلوك البقعة النفطية باستخدام النماذج الحاسوبية المتداولة. وفي هذه الحالة، ما الجدوى إذن من حسابات بنى متماسكة لاگرانجية؟
وقد اتضح كذلك أن التوقع ليس الأمر الوحيد الذي يمكننا القيام به هنا. فالاختبار الرجعي(9) Hindcasting قد يكون ذا أهمية في التوصل إلى مصدر «لغز التسربات النفطية» التي تجتاح الشاطئ انطلاقا من مصادر مجهولة – وهي كثيرا ما تكون ناجمة عن السفن الغارقة. مثال ذلك باخرة أس أس جاكوب لوكِنباخ SS Jacob Luckenbach التي غرقت قبالة سان فرانسيسكو عام 19533، فصارت منذ نحو عام 19911، تلوث سنويا ساحل كاليفورنيا، غير أن مصدر التسرب لم يكتشف إلا في عام 2002. والملاحظ أنه ينجم عن تحطم الطائرات وأنقاض السفن أيضا «انتشار للحطام» و«انتشار للفضلات الصلبة». وبما أن نماذج المحيطات التقليدية لا يمكن عكسها زمنيا، فلا يستطيع رجال الإنقاذ القيام باستنتاجات نظرية رجعية تمكنها من حقل حطام مرصود التوصل إلى معرفة مصدره. وحاليا يعمل عالم المحيطات <C .J. بيگل-كراوس> وعالم الرياضيات <T. پيكوك> [كلاهما من المعهد MIT] على استخدام بنى متماسكة لاگرانجية للتنبؤ بجهة التيارات التي سيجد الناجون من غرق السفينة فيها أنفسهم، وهو ما من شأنه أن يساعد على تضييق وحصر مجال البحث عن هؤلاء الناجين. وفي مثل هذه الحالات، كما يشير <پيكوك>، «فحتى بضع دقائق قد تكون مسألة حياة أو موت.»
وأخيرا، توفر بنى متماسكة لاگرانجية ما هو أكثر من مجرد توقعات أو اختبارات رجعية؛ إنها تتيح لنا إدراك ما يحدث. والإحاطة بهذه البنى تجعل العلماء يحسنون من تفسير توقعات النماذج الحاسوبية. وإذا تنبأ نموذج بأن سليكا جدوليا صغيرا من النفط سيتجه نحو پنساكولا Pensacola، وكان بمقدورنا مشاهدة بنية تدفع النفط أو تجذبه في ذلك الاتجاه، فإنه من المنطقي أن نكون واثقين إلى حد معقول في تنبئنا. أما إذا لم تكن هناك بنية ترافقه، فسوف نعالج النموذج بالكثير من الحيطة والحذر.
حاليا، يقوم علماء الرياضيات بتوسيع مجال أبحاثهم ليشمل أنواعا مختلفة من البنى المنظمة في الموائع المضطربة، مثل الدوامات والنفاثات. فعندما يتعمق فهمنا لها سيكون بوسعنا الإجابة عن الأسئلة المطروحة حول الظواهر الشواشية التي ظلت مستعصية لغاية اليوم.
المؤلف
Dana Mackenzie | |
<ماكنزي> كاتب مستقل في حقل الرياضيات والعلوم، يعيش في سانتا كروز بكاليفورنيا. وحصل على الدكتوراه في الرياضيات من جامعة پرنستون، وهو حامل لقب «لايف ماستر» Life Master في لعبة الشطرنج بالولايات المتحدة. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان The Universe in Zero Words (يPrinceton University Press, 2012). |
مراجع للاستزادة
The Correlation between Surface Drifters and Coherent Structures Based on High-Frequency Radar Data in Monterey Bay. Shawn C. Shadden et al. in Deep-Sea Research, Part II: Topical Studies in Oceanography, Vol. 56, Nos. 3–5, pages 161–172; February 2009.
Forecasting Sudden Changes in Environmental Pollution Patterns. María J. Olascoaga and George Haller in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 109, No. 13, pages 4738–4743; March 27, 2012.
Lagrangian Coherent Structures: The Hidden Skeleton of Fluid Flows. Thomas Peacock and George Haller in Physics Today, Vol. 66, No. 2, pages 41–47; February 2013.
(*)WALLS OF WATER
(**)CLOSE CALL IN THE GULF: نجاة بشق النفس في الخليج
(1) chaotic phenomena
(2) Lagrangian coherent structures
(3) هو الاسم الذي يطلق في شمال أمريكا على سلسلة قمم جبال تفصل الأماكن التي تصب مياهها في المحيط الهادي عن تلك التي تصب مياهها في المحيط الأطلسي وعن تلك المتعلقة بالمحيط المتجمد الشمالي.
(4) spores
(5) تيار محيطات ينطلق من منطقة فلوريدا وجزر البهاماس ويصب في المحيط الأطلسي.
(6) the repelling lagrangian coherent structures
(7) computer analysis
(8) the National Oceanic and Atmospheric Administration
(9) Hindcasting أو Backtesting: طريقة لاختبار النماذج الرياضياتية تعتمد على كم كبير من البيانات الحقيقية المستقاة من الماضي. (التحرير)