أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الطبيعيةبيولوجيا

تعليم الأجنة: كيف يبدأ التعلم بزمن طويل قبل الولادة

بقلم: غاي لوي 

ترجمة: أماني عبدالملك

الحيوانات في طور نموّها داخل البيض والأرحام تلتقط الكثيرَ عن العالم الخارجي لدرجة تستدعي التحقق من السلوك الذي كنا نظنه فطرياً.

تتجه السلاحف حديثة الفقس مباشرة إلى البحر، وتتعرف الشراغيف Tadpoles على السلمندر Salamander المفترس منذ أن تقع أعينها عليه أول مرة، ولكن ما يبدو، في الظاهر، غريزةً أولية قد يخفي أحياناً حقيقةً أكثرعمقاً وغرابة: وهي أن دروسنا الأولى في الحياة تبدأ قبل الولادة ذاتها.

لقد غيّرت دراسات أجريت -على مر السنين- على صغار الحيوانات التي تنتمي إلى مختلف الأصناف حدود بدايات التعليم المعروفة. يقول لودفيك ديكل، المتخصص في دراسة الحبّار في جامعة كايين نورماندي بفرنسا: “لقد حاولنا الرجوع إلى مراحل مبكرة أكثراً فأكثر، وفي النهاية استوقفتنا الأجنة.”

وتبدأ التوجهات بالظهور من منطلق هذا البحث، فالطيور في بيضتها تستمع إلى أمهاتها، ويمكن تعليم الحملان -كما هو مع صغار البشر- عن الطعام قبل الولادة، وتشاهد بعض الأجنة العالم من خلال عيونٍ مازالت في طور التكوين. وكون جميع هذه الأمثلة عن المعرفة المكتسبة، وليست عن الغريزة، فبالإمكان التلاعب بها كذلك.

خذ التذوق على سبيل المثال، فليست قصصُ الأطفال الذين يطورون تفضيلاً لأطعمة معينة وهم لا يزالون في بطون أمهاتهم قصص نادرةً ( انظر: هل يعي ما في بطني العالم؟). ربما أفضل مثل لذلك هو أننا نميل إلى تحمل الأكل المبهر لو اتبعت أمهاتنا الحوامل حمية مليئة بمثل تلك الأطعمة.

وبطريقة مماثلة، أظهر فريق كونستانتينوس فيغروس، من جامعة أثينا للزراعة في اليونان، أنه إذا تم إطعام نعجة حبلى الزعتر البري، بدلاً من الحمية العادية، فمن المرجح أن يختار حملها بعد الولادة طعاماً منكهاً بتلك العشبة.

وحتى أجنة الدجاج داخل قشورالبيضة تحصل على جرعة من نظام أمهاتها الغذائي. فقد أطعمت ألين بيرتن، من المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث الزراعية في نوزيلي، الدجاج بنظام غذائي غني إما بزيت السمك أو بزيت فول الصويا. ووجدت أن كتاكيت المجموعة الأولى كانت أكثر ميلاً إلى أكل الطعام غير المألوف بعد الفقس إذا أُضيف زيت السمك إليه، والذي صار مألوفاً لها الآن.

ويعتبر هذا النوع من التعوّد Habituation نموذجاً أساسياً للتعليم، فهو مثال على كيفية تغيير الحيوانات لسلوكها بناء على معلومات تجمعها من بيئتها. وتظهرالدراسات التي أُجريت على الجرذان حدوث نموذج أكثر تعقيداً من التعليم في الرحم.

وباستطاعة العديد من الحيوانات، على عكس البشر، أن تسير وتركض أو تسبح منذ لحظة ولادتها تقريباً. ويعتبر ذلك منطقياً. فالقدرة على الهرب من مفترس منذ لحظة البداية تعتبر ميزة ملحوظة في البرية. ولكن يبدو وكأنه ليس بإمكاننا أن نعزو ذلك إلى الغريزة بعد الآن. إذ تُظهر صور السونار أن أجنة الجرذان تحرك أطرافها بطريقة متناسقة، الأمر الذي يدل على أنها ربما تتمرن لليوم الذي ستخرج فيه إلى العالَم.

لقد تعمق سكوت روبنسون Scott Robinson، من جامعة أيوا في مدينة أيواUniversity of Iowa، في ذلك أكثر. فقد أجرى جراحات دقيقة على إناث جرذان حوامل لربط رِجلين من أرجل كل جنين معا، ومن عمد إلى مراقبتها باستخدام السونار. وبغض النظر عن أي من الأطراف التي ربطها روبنسون، فقد تعلمت الأجنة حركات متناسقة جديدة في غضون 30 دقيقة.

وقد حققت تجارب أخرى نجاحا في إعادة البرمجة –بشكل أكثر أساسية في الطيور. فقد عمل كل من كريستوفر هارشو Christopher Harshaw من جامعة إنديانا Indiana في بلومنغتون، وروبرت ليكليتر من جامعة فلوريدا الدولية Robert Lickliter في ميامي، على تشغيل تسجيلات تغريدات طائر السمان الياباني لبيض طائر السمان الأمريكي (الصورة). وعندما فقست الكتاكيت كان لديها خيار، في جانب من المختبر شُغّل عبر مكبر صوت تغريدة طائر السمان الأمريكي، وهو النداء الذي كانت ستطلقه أمهاتها لو كانت موجودة، وفي الجانب الآخر أُذيعت تغريدات طائر السمان الياباني. فقد غلبت تجربة ما قبل الولادة للكتاكيت على كل من الغرائز التي كانت من الممكن أن تمتلكها، فقد فضلت إمضاء الوقت بقرب نداءات الصنف الخاطئ.

حياة أو موت

تؤكد التجارب المماثلة لهذه على أهمية جمع المعلومات حول ما قبل الولادة. ففي أستراليا يجب على طائر النمنمة الأزرق إما تعلم شيءٍ بينما هو مخبأ داخل البيضة أو أن يواجه الموت المحتم. وإن أعشاشها تبتلى بطائر الواقواق المتطفل الذي يضع بيضه داخل مجموعة بيض طائر النمنمة قبل أن تفقس بأيام قليلة.

وأظهرت دايان كولومبيلي نغريل من جامعة فليندرز في آديليد أنه لإبعاد المتطفلين تغني أمّ طيور النمنمة تغريدة سرية فريدة لبيضها.

لدى بيضها أسابيع لتعلم الأغنية، ولكن لا تمتلك كتاكيت الواقواق الوقت وهذا ما يتسبب بهلاكها. فسوف تترك أم طائر النمنمة معظم الكتاكيت للموت إن لم تدمج تلك التغريدة السرية في تغريدتها الخاصة حالما تفقس.

ربما تعتقد أن ليس أي من ذلك مثيراً للإعجاب بقدر التعلم الذي أظهرته كلاب إيفان بافلوف التي اشتهرت بتعلمها ربط صوت الجرس بالطعام. ويقول مود فراري من جامعة ساسكاتشيوان في كندا: “بعد عدة جلسات بدأت الكلاب بإفراز اللعاب حالما تسمعه حتى وإن لم يُقدَّم الطعام.” فقد أوضح فراري وزملاؤه مؤخراً هذا النموذج التقليدي من تعليم الارتباط الشرطي في بيض الضفادع التي لم تفقس. ويقول فراري: “تفزع العديد من الأنواع حين تشتم أن أحد منها قد هوجم، فبإمكانها اشتمام المواد الكيميائية التي تنفذ من الجسم المجروح. لذا، باستطاعتنا ربط منبه الإنذار بمنبه عن مفترس محدد حتى نُعلّم ضحيةً عن مفترس. ففي المرة التالية التي تتقصى فيها منبهات عن المفترس تعلم أن عليها الخوف منه.”

أراد فريق فراري مشاهدة ما إذا كان باستطاعة أجنة ضفدع الخشب، وهي في مأمن في بيضها الهلامي، فعل ما يفعله كبارها بحيث تربط الرائحة بالخطر. فعمدوا، على مدى خمسة أيام في فترة ما بعد الظهر، إلى تعريض البيض في الوقت ذاته لرائحة مسحوق الشراغيف ورائحة السلمندر النمر. لاحقاً عندما قاربت الشراغيف عمر أسبوعين، عرّضوها لرائحة السلمندر مرة أخرى. وعلى الرغم من عدم مواجهتها للسلمندر من قبل، فقد تجمدت الشراغيف التي عُرِّضت لمنبهات أثناء وجودها في البيض، وتلك استجابة نموذجية تُشاهد في الضفادع لتتجنب أن يلاحظها مفترس. أما الأخرى لم تفعل ذلك.

ولكن لم تكن تلك حدود إمكانياتهم. ويقول فراري: “حقيقة تعلمهم بحد ذاتها لم تكن مذهلة لتلك الدرجة. فقد كانت رائعة ولكنها في الحقيقة ليست غير متوقعة. فالعديد من الأجنة تتعلم الأشياء. ما أثار الدهشة هو مدى التعقيد الذي يمكن أن يتخذه تعلمها.”

ويصطاد السلمندر عادةً بعد الظهيرة، حين تكون درجة حرارة الجو وجسمه أكثر دفئاً. لذا، حتى تكون التجربة أكثر واقعيةً، عرّض الباحثون الأجنة لمنبهات المفترس في تلك الفترة من اليوم. فقد تجمدت هذه الشراغيف لاحقاً فقط حين مواجهتها إشارات السمندل بعد الظهيرة. ولكن لو دُرِّب البيض في الصباح بدلا من ذلك، لاستجابت الشراغيف للإشارات في فترة الصباح فحسب. ويقول فراري: “لتعلُّم أن شيئاً ما لا يظهر إلا في وقت محدد من اليوم، تحتاج إلى التكرار والوقت لتكوّن نمطاً. لذا فإن تعلمها بعد مرتين أو ثلاثة من التعرض هو أمرٌ مذهل.”

حتى أن بعض الأجنة تشاهد العالم يمّر وهي في أمان بيضتها. وتلك هي حال أجنة الحبّار في مراحلها الأخيرة، حيث يكون بيضها شفافاً. ويقول ديكل: “إن الأجنة عالية التفاعل، فعندما تحرك يديك أمامها تُغير لونها.”

ترك ديكل وفريقه بيضاً لينمو بجوار سرطانات بحرية حية، بحيث يفصل النوعين مجرد لوح زجاج شفاف. وقد سبق وأن بيّن الفريق أن الحبّار حديث الفقس يُفَضّل القريدس على جميع الأطعمة، ولكن عندما أُعطيت مجموعة ديكل المفقوسة قرار اختيار الفريسة اندفعت نحو السرطانات بدلاً من ذلك. يعتقد الفريق أن الحبّار يراقب السرطانات من خلال عيونه الجنينية. وللتأكيد على ذلك تخطط المجموعة لأن تعيد التجربة مع تسجيلات صورية للسرطانات بدلاً من الحية منها.

ويقول ديكل: “إنها تغير لون جلدها إلى نمط تمويهي آخر في الأسبوع الأخير من النمو. على الأرجح أن ذلك نوع من التدريب: فهي في مأمن من المفترسين داخل البيضة لذا بإمكانها ارتكاب الأخطاء. وتستطيع تعلم الاستطلاع، والإحساس والشم.”

تبين التجارب المماثلة أن المخلوقات التي لم تولد بعد تستطلع البيئة التي سوف تسكنها عما قريب. وعندما تبدأ أحاسيسها بالظهور تقوم بتحليل واسترجاع المنبهات التي نفذت من خلال جدار حضانتها الجنينية لتمنحها استعداداً أساسياً. لذا توخوا الحذر بجوار بيض الضفادع فإنها تلاحظ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى