أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
كيمياء

عهد جديد في الخيمياء: نسخ كيمياء الطبيعة في لمح البصر

بقلم : جيمس متشيل كرو
ترجمة: ناصر نجف عباس

الآن وقد تعلمنا كيفية كسر أقوى الروابط في الكيمياء، فإن أفضل الجزيئات في الطبيعة، بما في ذلك الأدوية الرئيسية، لم تعد خارج نطاق مهاراتنا

يبذل معظم الناس قصارى جهدهم لتجنب شجرة المانشاينيل Manchineel tree. فمجرد الاحتماء تحتها أثناء المطر قد يفاجئك مفاجأة سيئة. فنسغها سام ويذوب في الماء، ولذلك فأي نقطة منها ترتد عن جذعها وتسقط على جلدك ستسبب بثورا. ولا تفكر في تناول فاكهتها المستديرة الصغيرة – ففي أمريكا الوسطى حيث تنمو هناك تعرف بـ “تفاحة الموت الصغيرة”.

فيل باران Phil Baran ليس كمثل باقي الناس. فالسم الذي تفرزه الشجرة -والذي يدعى فوربول Phorbol – يُعدّ بالنسبة إلى باران أمرا مثيرا للفضول. فسّم هذه الشجرة مثال على البنى الكيميائية المُعقّدة المواد، وكذلك على التأثير المثير للاهتمام الذي قد يكون للمواد المنتجَة طبيعيا. فبمجرد تغيرات بسيطة يتحول الفوربول من مادة سامة إلى عامل محتمل مضاد للسرطان، وقد تكون مواد طبيعية أخرى أساس العقار أوالعطر أو البلاستيك أو الصبغ الرائع التالي الذي سننتجه.

وحتى ندرس هذه المواد الطبيعية، فلابد أولا من أن نصنعها ونعالجها في المختبرات. عند هذه النقطة يواجه الكيميائيون التخليقيون -مثل باران- مشكلة عويصة. فالمركبات الكيميائية الطبيعية تضع حاجزاً على شكل رابطة ذرية معينة، وهي رابطة تربط جميع هذه المركبات معا ومن الصعب جداً كسرها. هذا ما كنا نعتقده حتى الآن: يعتقد باران و قلة آخرون أن هناك طريقة لكسر هذه الرابطة التي لا تكسر وتُبشر بعهد جديد من الخيمياء الكيميائية Chemical alchemy.

تهتم الكيمياء التخليقية بكسر روابط كيميائية قديمة وصنع روابط جديدة: إنها مسؤولة عن معظم المواد من صنع البشر التي نراها حولنا. وأغلب الروابط التي نريد أن نكوِّنها تكون بين ذرة كربون وأخرى. وذلك لأن كيمياء الكربون هي اللغة الجزيئية للكائنات الحية، لذا فهي أيضاً اللغة التي لابد من أن تفهمها الأدوية.

ولربط ذرة الكربون بشيء آخر لابد من أن تُنزع ذرة مرتبطة أساساً بذرة كربون. والاحتمال الأكبر هو أنها ذرة هيدروجين Hydrogen. فمنذ أن صِيغ الكربون في النجوم الأولى وهو يتحد مع الهيدروجين، أكثر العناصر وفرة في الكون. فأينما وجد الكربون في الطبيعة، تجده متدثرا في عباءة من الهيدروجين.خذ النفط الخام على سبيل المثال – المادة الخام المفضلة لدينا التي نصنع منها العقاقير والكثير من الأمور الأخرى. إنه يتكون بشكل شبه حصري تقريبا من الكربون و الهيدروجين. والدليل على ذلك الاسم الذي نطلقه على العديد من مشتقاته: المواد الهيدروكربونية Hydrocarbons. فسلاسلها الطويلة من الذرات يمكن تقطيعها إلى سلاسل أقصر، وقطعٍ يُمكن التعامل معها، وذلك باستخدام عملية صناعية تُدعى التكسير باستخدام العوامل المُحفِّزة Catalytic cracking التي تتضمن تسخينها إلى ما هو أعلى من 500 درجة سيليزية. لكن هذه العملية لا يمكنها كسر الرابطة بين الكربون والهيدروجين بالطريقة التي نحتاج إليها لكيمياء مفيدة.

ركام جزيئي Molecular rubble

المشكلة هي أن الهيدروجين –عندما يكون مرتبطا- يصعب جدا فكّه، فالرابطة الكيميائية تحدث نتيجة تشارك ذرتين في زوج من الإلكترونات، ولأن ذرة الهيدروجين هي أصغر، فإنها تقترب بشكل خاص من ذرة الكربون وترتبط برابطة قوية بشكل خاص.

ويقول الكيميائي هوو ديفيز Huw Davies من كلية إيموري في أتلانتا بولاية جورجيا: “إذا كنت تبحث في كتاب، فستجد فصلا صغيراً جداً يتناول الرابطة بين الكربون والهيدروجين، لأن الكيمياء القائمة عليها قليلة جداً.” حتى وقت قريب، كانت إحدى استراتيجياتنا القليلة المستخدمة لكسر الرابطة بين الكربون والهيدروجين هي الاحتراق الذي يترك ركاما جزيئيا لا يمكننا الاستفادة منه بشيء.

هناك خيار أقل وضوحا، ففي الظروف العادية، كسر الرابط يعني نقل إلكترونين إلى إحدى الذرات ولا شيء إلى الذرة الأخرى. وهذا يولّد شظيتين Fragments إلكترونيتين مشحونتين. ولكن، هناك انفصال مختلف تماماً عن الانفصال الذي يحدث عندما تحصل كل ذرة على إلكترون، مولّدة شظية غير مشحونة تسمى جذورا Radicals. وفي حالة الرابطة بين الكربون والهيدروجين، فإننا نستطيع فعل ذلك بإضافة غاز الكلور Chlorine وتسليط الضوء بتردّدات Frequancies معينة على الكلور. وعندئذ سيُنتزع الهيدروجين مع واحد من إلكتروناته، تاركا خلفه جذرا كيميائيا من الكربون Carbon radical. ومن ثم يكون هذا الجذر مُهيأ لتكوين رابطة جديدة. فالمشكلة تتمثل في أن هذه الجذور هي كيانات طائشة تتفاعل بسرعة مع أي شيء، وهذا سيسبب فوضى كيميائية.

هذا يجعل الكيميائيين في موقف صعب. كأنك تخطط لبناء طريق يقطع مدينة مترامية الأطراف دون السماح بالانعطاف إلى اليمين. وهذا يعني أنك لن تصل إلى أماكن كثيرة إلا إذا اتجهت نحو ذلك المكان بسلسلة انعطافات نحو اليسار للوصول إلى مكان كنت ستصل إليه بانعطاف واحد إلى اليمين.

وعدم القدرة على التلاعب بالرابطة بين الكربون والهيدروجين شبيه بعدم القدرة على الانعطاف إلى اتجاه ما. هذا يعني أن إنتاج مادة طبيعية في المختبر مهمة طويلة. فإنتاج الفوربول -السم الذي يخرج من الشجرة- يحتاج إلى 52 تفاعلا كيميائيا منفصلا كل منها يتطلب ما يقارب يوما للتفاعل، ويوما إضافيا لتنقية المادة المطلوبة من مستحلب التفاعل. وقد تستغرق التفاعلات الفاشلة وضبط عمليات التخليق سنواتٍ طويلة. ومع ذلك، فقد حصل الكيميائيون على نتائج جيدة في التفاعلات التي تُكسَر فيها الروابط بين الكربون و ذرات مثل النيتروجين والأكسجين والكلور والكبريت وذرات أخرى. ومنذ السبعينات، أنتج الكيميائيون العديد من العوامل المُحفِّزة الفلزية Metal catalysts التي تعمل على التوفيق بين الذرات.

تنتزع هذه العوامل –أولا – ذرةَ كربون، ومن ثم تنتزع ذرة كربون بعد أخرى، بكسر الروابط مع الذرات الأخرى في هذه العملية، فتربط بين ذرتي الكربون بسلاسة، وتخلق رابطة جديدة. وقد مهدت التفاعلات من نوع “الاقتران التهجيني” Cross Coupling الطريقَ أمام إنتاج العديد من الأدوية المستوحاة من المواد الطبيعية التي نستخدمها اليوم (انظر: عجائب طبيعية). وليس مستغربا فوز هؤلاء الكيميائيين بجائزة نوبل في الكيمياء عام 2010. لكن تفاعلات الاقتران التهجيني بعيدة عن الكمال. فأحد المنغصات هو أن المواد المُحفِّزَة لن تنتزع ذرة الكربون إلا بعد تعديل الكربون باستخدام شيء مثل ذرة بورون أو ذرة زنك -وهي خطوة ليست بالصعبة في العادة، لكنها خطوة أخرى تستغرق المزيد من الوقت.

وبالكاد يصبر باران – في معهد سكريبس Scripps Intitute في لاهويا- على هذه الالتواءات. فهو يدعو إلى مفهوم يطلق عليه التخليق المثالي Ideal synthesis. إذ يقول: “إن جلّ ما يخبرنا ذلك به هو أن عليك إجراء الأمور بأبطأ طريقة ممكنة.” وهذا يتضمن “الانعطاف يميناً” في الكيمياء –نوعا ما- وتجنب التفاعلات غير الضرورية، مثل إضافة ذرات البورون أو الزنك. وبدلاً من ذلك، يستهدف باران “المجموعات الأصلية” Native groups من الذرات التي هي بالفعل شائعة.

وتشمل قائمته المُستهدَفة: ترتيب ذرات الكربون والأكسجين الذي يعرف بالأحماض الكربوكسيلية Carboxylic acids، و الرابطة الثنائية بين ذرتي الكربون، والرابطة بين الكربون والهيدروجين. ويمكن تفككيها بطريقة واحدة وهي بتحويلها إلى تلك الجذور غير المستقرة. ففي عام 2014 صمم باران عاملا مُحفِّزا أساسه الحديد Iron يساعد على تكوين جذر حرٍّ من رابطة ثنائية بين ذرتي الكربون، وذلك بدلاً من الطريقة القديمة التي تستخدم الكلور، ويمكن لهذا الجذر أن يتحد لاحقاً بذرة كربون مختلفة لتكوين رابطة أحادية جديدة، دون الحاجة إلى أي عملية تنشيط معقدة تسبق ذلك.

كما حقق باران و آخرون معه النجاح نفسه باستخدام الأحماض الكربوكسيلية. وبدأت رغبته في تحقيق مكاسب تتحقق: إذ تمكن باران في العام الماضي من تقليل خطوات تكوين الفوربول إلى 19 خطوة بدلاً من 52.

على الرغم من أن الروابط الثنائية بين ذرتي الكربون والأحماض الكربوكسيلية شائعة، فإنه باران وزملاءه لم يتمكنوا بعد من العمل على الرابطة بين الكربون والهيدروجين الموجودة بكثرة. وإلى أن نتمكن من كسرها، لا يمكننا القول إننا تمكّنا من الالتفاف إلى اليمين في مثل هذه التفاعلات. لطيف جدا، إذن نحرز الآن تقدما جديّا في هذا المجال أيضا، بما في ذلك الاكتشاف الذي حققه ديفيد ماكميلان David MacMillan -من جامعة برينستون، والمتأخر عن ركاب السبق- مصادفة.

فقد كان يعمل على تفاعلات تُحفَّز بالأشعة فوق البنفسجية عالية الطاقة، وهي تجارب مُصمّمة لتكوين نوع آخر من الروابط. وقد نجح في تحقيق ذلك، ولكنه ليس عمليا لأنه مكلف مادياً ومعقد عمليا، ولا ننسى اعتبارات السلامة حول هذه المصابيح التي تصدر أشعة فوق بنفسجية قوية.

بعد ذلك طلب إلى أحد أعضاء فريقه أن يقترح حلا بديلا. وصدف أن كان الباحث يتحدث إلى صديق يعمل على العوامل المُحفِّزَة المُستخدَمة في عملية البناء الضوئي الاصطناعي Photosynthesis Artificial، وعندما جرّبها الباحث في التفاعلات التي يجريها، وجد أن التفاعل حدث على الفور باستخدام ضوء منخفض الطاقة.

وعلى الرغم من عمل الكيميائيين على هذه العوامل المُحفِّزَة بالاختزال الضوئي Photoredox catalyst، فإن مجموعة ماكميلان هي التي أظهرت -لأول مرة- قدرتها على منح إلكترون فردي أو اكتسابه، في حين أن معظم المواد المحفزة إما تمنح أو تكتسب إلكترونا، وهذا ما يجعلها مناسبة تماما لتوفير الطاقة اللازمة لكسر روابط الكربون وإنتاجها عن طريق كيمياء الجذور Radical chemistry. وسرعان ما أصبح عاملا مُحفِّزا يستطيع أن ينزع إلكترونات فردية من الرابطة بين الكربون والهيدروجين وإنتاج جذور كربون يمكنها بعد ذلك أن تتحد بذرة كربون أخرى من اختيار الكيميائيين.

يقول دافيس: “إن العوامل المُحفِّزَة بالاختزال الضوئي مشوقة جداً ؛ فهي تسمح بارتباط الجزيئات ببعضها البعض بطرق غير اعتيادية.” وتدرس شركات الأدوية بالفعل كيفية إدخال استخدام هذه العوامل المُحفِّزَة في اكتشاف وتصنيع الأدوية، كما يقول ماكميلان. مثلا، أنتجت شركة ميرك Merck مفاعلا مخصصا لعامل مُحفِّز بالاختزال الضوئي يستخدم المصابيح LED الزرقاء الضوء ومصمما لكي يمتص أكبر كمية من الضوء. ويقول ماكميلان: “لدينا الآن تفاعلات تحدث خلال ثانية واحدة أو ثانيتين فقط.”

إلا أن التغلب على الرابطة بين الكربون والهيدروجين سلاح ذو حدين. فهذا العمل الفذّ أمر مفيد لأن هذه الرابطة موجودة في كل مكان، إلا أن هذا الشيوع هو في حدّ ذاته مشكلة. فمن الجيد جدا امتلاك القدرة على كسر الذرة. ولكن الجزيئات التي تحتوي على أكثر من خمس أو ست ذرات كربون، كما هي الحال في المركبات الطبية الطبيعية، قد تحتوي على أكثر من 10 روابط بين الكربون والهيدروجين، فكيف نقطع الرابطة الصحيحة؟

لدى ماكميلان خطة لهذا. إذ إن العامل المُحفِّز الذي يستخدمه يمكنه تمييز حركة الإلكترون المطلوب نزعه من الرابطة بين الكربون والهيدروجين، وهي حركة تختلف اختلافا طفيفا باختلاف ترتيب ونوع الذرات الأخرى التي يرتبط بها الكربون. ويأمل ماكميلان بإنتاج العديد من العوامل المُحفِّزَة التي تعمل بشكل انتقائي أكثر .

وقد عرض مختبر دافيس مثالاً رائعا لكيفية تحقيق ذلك. إذ أخذ دافيس جزيئا من البنتان Pentane وهو مركب بسيط يتكون من خمس ذرات كربون مرتبطة فيما بينها بسلسلة، وتغطيها ذرات الهيدروجين. كيميائياً، ليس هناك شيء يميز الروابط بين الكربون والهيدروجين. ولكن بتخليق ودراسة عدد من العوامل المُحفّزة، وجد الفريق أن هناك عاملا يكسر فقط رابطة الكربون الثانية في السلسلة انتقائيا بنسبة %95. ويقول دافيس: “لقد كان البنتان تحدياً خاصا.” وينتقل دافيس الآن إلى تجربة الحيلة نفسها على جزيئات تصلح كنقاط طريق على مسار الوصول إلى تخليق المنتجات الطبيعية.

وبطبيعة الحال لا يحلّ أي تفاعل من هذه التفاعلات محلِّ التفاعلات الكيميائية الكلاسيكية مثل تفاعل الاقتران التهجيني. ويكمن التحدي في أن نتوصل إلى تفاعل بالقوة نفسها التي تسمح بالانعطاف يمينا، بحيث نتمكن من الانعطاف إلى أيٍّ من الاتجاهين. ويقول باران: “أتمنى أن تكون هذه التفاعلات التي طورناها بجودة التفاعلات القديمة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى