الهندسة التي قد تكشف الطبيعة الحقيقية للزمكان – The geometry that could reveal the true nature of space-time
بقلم أنيل أنانثاسوامي Anil Ananthaswamy
ترجمة: همام بيطار
The geometry that could reveal
يُجبر اكتشاف بنية رياضياتية هندسية رائعة على إعادة التفكير جذرياً في طبيعة الواقع، وقد يمهد الطريق أمام بلوغ نظرية كمومية للجاذبية
على الرغم مضي أعوام عديدة على وفاة عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان، فإنّ سيارته الصفراء من طراز سبعينات القرن الماضي وماركة “دودج مينيفان” لاتزال مركونةً وقد أصابها الصدأ في كراج بالقرب من باسادينا بكاليفورنيا. فعندما أُعيد ترميمها في عام 2012، بُذل الكثير من الجهد لإعادة دهانها بالرسمات التعبيرية Doodles العملاقة التي كانت تُزخرفها. فقد كانت تلك الزخرفات جيدة، إذ تضمنت مجموعة بسيطة من الخطوط المستقيمة والدوائر والخطوط المتعرجة. لكن ليس من المبالغة القول إنّ مخططات فاينمان Feynman diagrams قادت إلى ثورة في فيزياء الجسيمات. فمن دونها ما كنّا لنبني النموذج القياسي للجسيمات Standard model of particles والقوى الذين قادا إلى اكتشاف بوزون هيغز Higgs boson.
ربما نقف اليوم على أعتاب تحول ثانٍ وأكثر عمقاً. فمع تجلي فشل ثورة فاينمان، يكتشف علماء الفيزياء الآن إشارات على وجود حقائق هندسية أشد عمقاً. فإذا كان بالإمكان دعم فكرة وجود بنى رياضياتية رائعة داخل أبعاد تمتد وراء تلك القليلة التي نعرفها، فإنها لن تنير الدرب نحو الوصول إلى فهمٍ أفضل لتفاعل الجسيمات فحسب، وإنما إلى فهم طبيعة الواقع نفسه.
لقد كان الطريق نحو بلوغ النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات شاقاً. ويصف هذا الصرح النظري العملاق جميع جسيمات العالم الكمومي، والقوى المُطبقة عليها باستثناء الجاذبية. فقد بدأ الأمر في ثلاثينات، وبدايات أربعينات القرن الماضي عندما كان علماء الفيزياء، العاكفون على دراسة الإلكتروديناميكا الكمومية Quantum electrodynamics الذي يُمثل النظرية التي تشرح كيفية تفاعل الحقول الكهرومغناطيسية مع الجسيمات، يعملون على حساب سعات التشتت Scattering amplitudes -الاحتمالات الخاصة بالمخرجات المختلفة لتفاعل الجسيمات مع بعضها. لكن تبين أن تلك الحسابات صعبة للغاية، بل بدت مستحيلة لبعض الوقت.
وبعد ذلك جاء فاينمان، ففي عام 1949 وضع طريقة بديهية لمعالجة المسألة معتمدا في ذلك على “الرسمات التعبيرية” يُمكن رسمها حتى على المناديل الورقية. لننظر على سبيل المثال إلى تفاعل إلكترونين مع بعضهما. تصور الإلكترونيات على شكل خطوط مستقيمة تتجه نحو بعضها البعض. لكن قبل أن تلتقي هذه الخطوط، تتفاعل الإلكترونات عن طريق تبادل فوتون “افتراضي” “Virtual” photon يُرسم على شكل خط متعرج، مما يتسبب في ابتعاد الخطين المستقيمين عن بعضهما، وحينها نقول إن الإلكترونين تنافرا.
وهذا التفاعل هو الأبسط والأكثر احتمالا. لكن للحصول على الصورة كاملةً، يتعين عليك رسم كل مخططات فاينمان المحتملة التي قد يتخذها تفاعل معين لمعرفة كل الطرق المختلفة التي يُمكن من خلالها للجسيمات أن تؤثر في بعضها البعض. وقد يُصدر أحد الإلكترونات ويمتص فوتوناً افتراضياً مما يقود إلى نشوء حلقة متعرجة يُمكنها التفاعل مع نفسها لتُولد بذلك المزيد من الحلقات. ويتمثل النهج الأساسي بأن تقوم بتحويل كل مخطط محتمل إلى صيغة رياضية جبرية، ومن ثمّ تعمل مع كل تلك الصيغ للحصول على سعة التشتت.
كلما كان عدد الجسيمات الافتراضية أكبر، كانت الحسابات أكثر تعقيداً. إذن، لماذا نُقحم فكرة الجسيمات الافتراضية؟ قد يتراءى لنا أنّ ذلك غريب فتلك الجسيمات ليست حقيقية، فالجسيم الحقيقي هو في الواقع عبارة عن تموج Ripple متناسق داخل حقل الطاقة، وهو تموج يستمر دوماً بمرور الزمن. لكن عندما تتفاعل تلك الجسيمات الحقيقية، فإنه بإمكانها التسبب في تموجات مؤقتة داخل الحقول الكمومية الموجودة، مثل الحقل الكهرومغناطيسي. وتُدعى تلك التموجات المؤقتة بالجسيمات الافتراضية، وقد كان وراء استخدامها في مخططات فاينمان عدد من الأسباب.
يكمن السبب الأول في أن التعامل معها يُمكننا من تعقب الرياضيات بشكلٍ أكبر مقارنةً بالحقول. أما الفائدة العظيمة الأخرى، فتكمن في أنها تساعد علماء الفيزياء على تصور كل شيء على أنه تفاعلات محددة تماماً بين جسيمات شبه نقطية على النقيض من الصورة الضبابية التي نحصل عليها عند استعمال فكرة الحقول. ويتناسب هذا بشكلٍ أنيق مع مبدأ الموضعية Locality البديهي والذي ينص على عدم قدرة الأشياء على التفاعل إلا إذا وجدت في البقعة نفسها من الفضاء والزمن. في نهاية المطاف، تساعد هذه التقنية أيضاً على تعزيز مبدأ الواحد Unitarity: مجموع احتمالات كل المخرجات الممكنة يجب أن يكون مساوياً للواحد.
دبقة مثل الغلونات Sticky like Gluons
تعمل مخططات فاينمان بشكلٍ جميل عند تطبيقها على الفوتونات والإلكترونات، وقد أصبحت جزءاً أساسياً من الفيزياء إذ يجري استعمالها للتنبؤ بمخرجات تجربة ما بدقة مذهلة. لكن الأمور أصبحت غاية في الصعوبة حالما بدأ علماء الفيزياء بمعالجة الكروموديناميكا الكمومية Quantum chromodynamics، وهي النظرية التي تصف التفاعلات التي تتضمن الكوراكات Quarks والغلوونات Gluons -المكونات الأساسية للبروتونات والنيوترونات الموجودة في قلب الذرات. فقد وجد العلماءُ الكثيرَ من الجسيمات الافتراضية، وكذلك طرق التفاعل التي قد تحصل إلى درجة تطلّبَ معها كل حسابٍ، يعتمد على مخططات فاينمان، جهوداً بطولية وفقاً لجاكوب بورجيلي Jacob Bourjaily من معهد نيلز بور Niels Bohr Institutes في جامعة كوبنهاغن في الدانمارك.
أصبح ذلك واضحاً في ثمانينات القرن الماضي عندما كانت الولايات المتحدة تبني مصادم الجسيمات فائق الموصلية وسيِّئ الحظ. فقد كان من المفترض أن يقوم ذلك المصادم بصدم البروتونات مع بعضها البعض، ولذلك كان لزوماً عليهم فهم تفاعل الغلوونات المسؤولة عن تماسك الكواركات مع بعضها والتي بدورها تؤلف البروتون، لكنّ ذلك بدا مستحيلاً. وقد قال أحد أعضاء المجموعة في ذلك الوقت: «لقد بلغ تعقيدها حداً لم يكن من الممكن معه حساب تلك التفاعلات في المستقبل المنظور.»
وبعد ذلك جاء تحولٌ مفاجئ في الأحداث. ففي عام 1986، استخدم ستيفن بارك Stephen Parke وتوماس تايلور Tomasz Taylor من مختبر فيرميلاب Fermilab بالقرب من باتافيا-إيلينوي، مخططات فاينمان والحواسيب الفائقة لحساب احتمالات الحصول على مخرجات مختلفة من التفاعلات التي تتضمن ستة غلوونات. وبعد ذلك ببضعة أشهر، وضع العالمان تخميناً تجسد في صيغة من سطرٍ واحدٍ لحساب الأمر عينه، وقد اختصر ذلك السطر أكثر من مئتي مخطط من مخططات فاينمان والعديد من صفحات الجبر في معادلة واحدة، ولم يكن لدى أيٍ من الباحثين فكرة عن السبب الكامن وراء ذلك.
وما كان واضحاً حينها هو أن الجسيمات الافتراضية كانت جزءاً كبيراً من المشكلة. يقول بورجيلي: «كل مخططٍ من مخططات فاينمان عبارة عن خيال،» بمعنى أنه ليس لدينا أي طريقة لرصد الجسيمات الافتراضية التي يوضحها المخطط، وما نعرفه حقاً هو أن الرياضيات اللازمة لأخذ تلك المخططات بعين الاعتبار حقيقية جداً، وتؤدي إلى حسابات غير عملية إلى درجة سخيفة.
لقد مضى عشرون عاما أخرى قبل أن يأتي دليل جديد؛ ففي عام 2005، تمكن روث بريتو Ruth Britto وفريدي كاشازو Freddy Cachazo، وبو فينغ Bo Feng، وإدوارد ويتن Edward Witten من حساب سعات التشتت دون اللجوء حتى إلى جسيم افتراضي واحد، وقد استنتجوا المعادلة التي خمنّها بارك وتايلور لتفاعل مكون من ستة غلوونات.
في هذه المرة وُجد سببٌ قاد إلى ما قد تعنيه الطريقة BCFW، فقد ألهمت وجهة نظر تخص الزمكان وتُعرف بنظرية الإعصار Twistor theory واضعي تلك الطريقة. وجرى تطوير هذه النظرية في وقتٍ متأخر من ستينات القرن الماضي من قبل روجر بنروز Roger Penrose في جامعة أكسفورد، ولم يتمثل هدفها الأساسي بالجسيمات، وإنما بأشعة الضوء. ويقول أندرو هودجز Andrew Hodges، وهو أحد زملاء بنروز في أكسفورد: «يُمكنك تخيل الكون على أنه مؤلف من هذه الأشعة حيث تُولد نقاط المكان والزمن في مواضع التقاء تلك الأشعة مع بعضها.»
لقد برهن هودجز على أن الحدود المختلفة الموجودة في الطريقة BCFW يُمكن تفسيرها على أنها أحجام لأجسام رباعية وجوه موجودة في فضاء إعصاري، وجَمعُ تلك الأحجام يقود إلى الحصول على حجم لمتعدد الوجوه. وتمثلت المشكلة حينها بأن هذه الرؤية تعمل مع أبسط الحالات فقط وأكثرها احتمالية كتفاعل غلوونات لديه خواص محددة. أما بالنسبة إلى تفاعلات الجسيمات الأكثر تعقيداً، فإن الأجسام الهندسية الناجمة كانت محيرة تماماً، فصلتها مع ديناميكا الأجسام الحقيقية كانت مثيرة، إلا أن الرياضيات المستخدمة صعبة جداً.
تطلب الأمر من نيما أركاني-حامد Nima Arkani-Hamed وزملائه في معهد الدراسات المتقدمة في نيوجرسي، بما في ذلك طالبيه جاروسلاف ترنكا Jaroslav Trnka وبورجيلي جمع كل النقاط معاً. وتوصل الفريق بالاعتماد على عمل رياضيلتي بحت إلى استنتاج مذهل: ترتبط سعة التشتت المحسوبة باستخدام تقنية BCFW بحجم جسم رياضياتي جديد، وقد أطلقوا على عديد الوجوه المتصل ومتعدد الأبعاد اسم مجسم السعة Amplituhedron.
ومن الأفضل النظر إلى مجسم السعة على أنه جسم مجرد تماماً عوضاً عن كونه حقيقي، فهو بنية رياضياتية تُعطينا طريقة أنيقة لتشفير الحسابات التي تخبرنا كيفية تفاعل الجسيم بطريقة ما. وتتجسد تفاصيل التفاعل، بما في ذلك عدد وخصائص الجسيمات والقوى الداخلة فيه، في أبعاد وجوانب مجسم السعة، وبدوره يحتوي هذا المجسم على الإجابة التي نسعى وراءها. لذلك هناك العديد من مجسمات السعات، إذ سيكون هناك واحدٌ يُمثل كل طريقة تفاعل ممكنة.
هنا التناقض صارخٌ مع مخططات فاينمان التي قد يتعين عليك عند استخدامها رسم آلاف المخططات واستخدام الحواسيب الفائقة. فمن ناحية أخرى يُمكنك الوصول إلى الإجابة نفسها عبر حساب حجم جسم هندسي وحيد على الرغم من أن الرياضيات اللازمة في هذه الحالة بعيدة كل البعد عن كونها بسيطة. ويقول ترنكا، الذي يعمل حالياً في جامعة كاليفورنيا بديفيس: «تترجم هذه الطريقة الفيزياء إلى مسألة رياضياتية بحتة: احسب حجم ذلك الجسم«.
قد تغير هذه الطريقة من الفيزياء أيضاً، فربما تساهم في الوصول إلى نظرية كل شيء لأنّ مجسم السعة لا يجسد الوحدة والموضعية اللتين تُعتبران مبادئ أساسية موجودة داخل الواقع وفقاً لمخططات فاينمان. تنبثق سعات التشتت، التي تخضع لقوانين الوحدة والموضعية، من مجسمات السعة. لكن على النقيض من مخططات فاينمان، فهذه المجسمات لا تبدأ بوجود زمكان يتمتع بتلك الخواص (الوحدة والموضعية). ويعلق ترنكا على الأمر قائلاً: «الأمر الذي تقوم بحسابه سيكون واحداً وموضعياً. إنها نتيجة للهندسة.»
إذا كان ذلك صحيحاً، فلن تكون الموضعية حينها مميزة أساسية للزمكان، وإنما صفة وليدة، وهذا يدعو إلى إعادة التفكير بالواقع جذرياً (انظر: يبدو الأمر جنونياً، ولكن…) قد يساعدنا في نهاية المطاف على حل واحدٍ من أكبر أسئلة الفيزياء: كيف تتصرف الجاذبية عند الأحجام الصغيرة جداً؟
الجاذبية والموضعية لا يجتمعان معاً. ولتحديد ما يحصل بدقة في نقطة ما من الزمكان، سيتعين عليك حينها تكبير تلك النقطة أكثر ودراسة فترات زمنية أصغر وأصغر. وتنص ميكانيكا الكم على أنه عندما يصل المرء إلى دقة أكبر في منطقة ما من الزمكان، فإن تذبذبات الطاقة الموجودة في تلك المنطقة تصير أكبر. كما نعرف، فإن الطاقة عبارة عن كتلة أيضاً، وللكتلة جاذبيتها الخاصة، ونتيجة لهذا، فإن وجود كمية كبيرة جداً من الكتلة في منطقة صغيرة من الفضاء سيؤدي في نهاية المطاف إلى تشكل ثقب أسود Black hole مما سيجعل معرفة ما يجري مستحيلاً، وحينها سيختفي أي أمل بالبحث عن الطبيعة الكمومية للجاذبية. لذلك، إذا كان من الممكن وجود الجاذبية وميكانيكا الكم في الوقت نفسه، فإنّ الموضعية يجب أن تختفي من المشهد.
ويقترح مجسم السعة أن ذلك ممكنٌ، ويُعبد الطريق أمام نظرية كمومية للجاذبية، وذلك يجعلنا في نهاية الأمر نفهم أسراراً كونية مازالت منيعة على النظرية حتى الآن، مثل فهم ما يجري داخل ثقب أسود، أو حتى ما حصل عند لحظة الانفجار الكبير Big bang.
“في نهاية المطاف، ربما يكون الزمكان وميكانيكا الكم شيءٌ واحد”
إذا كان أركاني-حامد محقاً، فذلك لن يكون إلا البداية فقط، فقد صرح في مؤتمر رياضيات الأوتار String-Math 2016 الذي عُقد في باريس بفرنسا: «إذا كنا سنخسر شيئاً مهماً جداً كفكرة الزمكان، فمن غير المرجح ألا يترك ذلك أثراً في الفيزياء. يجب أن يتجلى الأمر في كل مكان، ويشمل ذلك حتى الحالات التي نعتقد أن فهمنا لها مثاليٌ.»
وبالطبع لاتزال هناك صعوبة كبيرة. فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، برهن اركاني-حامد وزملاؤه على أن مجسم السعة يعمل بشكلٍ جيد مع نموذج “لعبة” لتفاعلات الجسيمات، وتضمن ذلك النموذج البسيط التناظر الفائق Supersymmetry، وهي النظرية التي تنص على أن لكلٍ من جسيمات النموذج القياسي شريك. لكنّ النموذج القياسي الذي يُعتبر أفضل وصف لدينا للواقع، ليس لديه أي تناظر فائق.
وقد قد يبدو هذا مدمراً، لكنه ليس كذلك؛ فقد قال أركاني-حامد في مؤتمر معهد الدراسات المتقدمة Institute for Advanced Study (اختصارا: المعهد IAS) الذي انعقد في أبريل الماضي [2017]: «نموذج اللعبة ذلك قريب للواقع أكثر من أي لعبة تَعَّود الناسُ اللعبَ بها خلال العقود الثلاثة الماضية.» في الواقع، وفي أبسط الحالات، كتفاعلات الجسيمات، قادت الحسابات المعتمدة على مجسم السعة إلى النتائج نفسها المستخلصة من تطبيق طرق النموذج القياسي.
تصمد النظرية الجديدة بشكلٍ جوهري في إطار النظريات رباعية الأبعاد الخاصة بالجسيمات عديمة الكتلة، وفائقة التناظر، أو غير ذلك. وينتمي النموذج القياسي إلى هذا النوع من النظريات، ولذلك من المنطقي تماماً أن يعمل بشكلٍ صحيح في أماكنٍ تعمل فيها تلك النظريات، ويُعلق بورجيلي على ذلك قائلاً: «هذا الارتباط بالهندسة صفةٌ عامة. إنه قانون بالنسبة إلى النظريات رباعية الأبعاد.»
ويكمن التحدي الآن في توسيع هذه الطريقة الهندسية في التفكير لتؤلف نماذج أكثر واقعية لتفاعلات الجسيمات، ولتشمل في نهاية المطاف الجاذبيةَ عبر استبعاد صفة الموضعية. لن يكون ذلك الأمر بهذه البساطة، مما يفسر سبب كون ويتن، الذي كان حاضراً في مؤتمر المعهد IAS، متأثراً وحذراً في الوقت نفسه. فقد صرح قائلاً: «قد تكون [مجسمات السعة] هذه أقرب نقطة لنا من الوصول إلى صورة موحدة، على الأقل فيما يخص بعض الأسئلة. فهناك العديد من المفاجآت في مجال دراسة سعات التشتت هذه، مما يجعل من الصعب جداً توقع الاتجاهات المستقبلية. لكن المؤكد أنه مازال أمامنا الكثير لنكتشفه.»
أما أركاني-حامد فهو واثقٌ بأنه -في نهاية المطاف- سندرك أن ميكانيكا الكم والزمكان عبارة عن الأمر نفسه، وقد قال في باريس: «كان الأمر كذلك تماماً في هذا المثال الصغير،» وتابع قائلاً: «لا توجد أي طريقة داخل هذه الهندسة لفصل الجزء المتمثل بالزمكان عن ذلك الذي يُجسد ميكانيكا الكم. إنهما الأمر عينه، والجانب نفسه للهندسة الإيجابية الكامنة خلفهما.»
يبدو ذلك جنونياً، لكن… It sounds crazy, but…
يُرينا التاريخ أنّ طرق التفكير الجديدة والجذرية حول الواقع تستحق بذل الجهد للعمل معها. خذ على سبيل المثال قوانين نيوتن في الحركة. فعند معرفة موضع الجسيم وكل القوى المؤثرة فيه، يُمكنك حينها البت وبشكلٍ قطعي -عبر وصف السبب والأثر- كيف سيتحرك من النقطة A إلى النقطة B. لكن هناك طريقة أخرى للتفكير بمسارات الجسيمات، وهي تُعرف بمبدأ الفعل الأصغري Principle of least action. وتنص هذه الطريقة على أن الجسيم سيسلك المسار الذي يُقلل قدر الإمكان من كمية تُعرف بالفعل الكلاسيكي، والتي تُمثل القيمة المتوسطة للطاقة الحركية مطروحاً منها الطاقة الكامنة للجسيم على طول المسار.
بدا ذلك المبدأ غريباً بالنسبة إلى العقول التي تعودت على الفيزياء الكلاسيكية، ويقول جاكوب بورجيلي من معهد نلز بور في جامعة كوبنهاغن بالدانمارك: «لم يفكر أي شخص في أن الجسيمات تحسّست كل المسارات الممكنة واختارت ذلك الذي يُقلل من قيمة هذا الرقم المهول،» ويُضيف: «إنها نقطة غريبة جداً ليبدأ المرء منها تعلمه للفيزياء الكلاسيكية.» وأكثر من ذلك، فهذه النظرية تبدو غير قاطعة لأن مسار الجسيم غير واضح. مع ذلك، يقود مبدأ الفعل الأصغري إلى نفس تنبؤات قوانين نيوتن، مما يقترح أن القطعية صفة وليدة، كما أن الحسابات تصبح أبسط.
لقد توافقت طريقة التفكير هذه بشكلٍ كبير مع ميكانيكا الكم، وقادت إلى أشياء مثل مخططات فاينمان التي فتحت الباب على العالم دون الذري. ويحذونا الأمل الآن في أن تؤدي هذه البنى الرياضياتية الغريبة والمعروفة بمجسم السعة إلى فعل ما فعلته مخططات فاينمان لكن بطريقة منافية للبديهة، وهذا قد يقود الفيزيائيين نحو هدفٍ أعظم.
أنيل أنانثاسوامي Anil Ananthaswamy مستشار لدى مجلة نيوساينتيست.
نشرت المقالة في مجلة نيوساينتيست، العدد 3136، 29 يوليو 2017.
حقوق الترجمة العربية محفوظة لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي