أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم التطبيقيةالعلوم الطبيعية

وحيد القرن وأطفال حسب الطلب: كيف ترى مبدعةُ “كريسبر” المستقبلَ

يعطينا اكتشافُ جنيفر دودنا لكريسبر سيطرةً غير مسبوقة على الحياة .لكنها تقول إننا نستطيع أن نتعامل مع هذا التحدي، على الرغم من تصورات هوليود.

تقول جنيفر دودنا Jennifer Doudna: “لقد كانت لحظات من الفرح الخالص.” وتردف قائلة: “الفرح بأن تفهم فجأة شيئا ما.”

ففى عام 2012 توصل فريق دودنا إلى واحد من أكبر الاكتشافات في تاريخ البيولوجيا؛ كيفية تحرير الحمض النووي  DNA في الخلايا الحية بسهولة نسبية. وهذا في جوهره يعطي البشرَ القوةَ لتوجيه التطور.

لم يكن ذلك ما اعتزموا القيام به، لكنهم أدركوا فورا أن تقنية تحرير الجينات كريسبر لها إمكانات هائلة. وهذا ما فعله الباقون. ففي السنوات الست التي مرت منذ ذلك الحين، استخدمت للمساعدة على علاج السرطان وفي تغيير الحمض النووي  DNA في كثير من النباتات والحيوانات-بما في ذلك الأجنة البشرية.

وبعد أن كانت دودنا تشتغل ببعض أحاجى الكيمياء الأحيائية غير المشهورة فقد وجدت نفسها في مكانة مرموقة، وملاحقة من المراسلين للسؤال عن رأيها في أحدث التطورات.”وهذا الأمر يجعلني أشعر بالتواضع الشديد،” قالت ذلك مستطردة: “ما أنا إلا فتاة من ريف هاواي صارت تؤدي هذا الدور. إنه شعور غريب نوعا ما.”

لقد أثارت نشأة دودنا في هاواي شغفها بالبيولوجيا. فقد كانت منبهرة بالكيفية التي تطورت بها النباتات والحيوانات في ظروف الجزيرة. وفى الوقت نفسه أورثها والدها الولع بالألغاز.” وقد أحببت فكرةَ القدرةِ على أن يتركز عمل المرء على اكتشاف كيفية عمل الأشياء.”

وكان اكتشاف تحرير الجينات بكريسبر تتويجا للحياة العملية التي قضتها في اكتشاف أسرار الحمض النووي RNA . ففي ييل نجحت مجموعتها في اكتشاف البنية ثلاثية الأبعاد لواحد من إنزيمات الحمض النووي RNA الرئيسية، لتحل بذلك لغزا علميا كبيرا. أما مجموعتها في جامعة كاليفورنيا University of California، ببيركلى، فقد كانت مهتمةً ببروتين كريسبر-كاس9، لأنه مُوجَّه بواسطة الحمض النووي RNA . لم يستطع أحد فهم كيفية عمل هذا البروتين، حتى استطاعت مجموعتها حل اللغز في عام 2012. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، فقد شغلت تقنية كريسبر العالم العلمى بشكل عاصف. وبحلول عام 2015  ولد أول قرد حُرِّرت جيناته.

وفى ذلك الوقت بدأت دودنا تحلم أحلاما تسونامية. والتسونامي يعني لدودنا أكثر مما يعنيه للغالبية : فمدينة هيلو الصغيرة التي ترعرعت فيها ضربها تسونامي واحد كان من أشدها في حياة والديها، لذا فقد كانت واعية بالخطر في سن مبكرة. وفى الأحلام كان التسونامي هى تقنية كريسبر التي تنتشر خارج السيطرة “لقد بدأت أشعر بدرجة من الشبه بالدكتور فرانكشتين، هل أوجدت مسخا خطيرا؟” هكذا كتبت عام 2017 في كتابها عن الموضوع. وحينئذ قررت أنها في حاجة إلى أن تكون جزءا من هذا النقاش.

لم يعد هناك مرض مستعصٍ

منذ ذلك الحين، نظمت دودنا المؤتمرات، وأعطت أحاديث في مختلف أنحاء العالم، وقدمت النصح لصانعى السياسات وأجابت عن تساؤلات الجمهور بكل أنواعها بهدف زيادة الوعي بإمكانات كريسبر، وهى إمكانات هائلة. لقد تحولت كريسبر إلى مجموعة أدوات لتعطيل الجينات أو إصلاح الجينات المعيبة أو تشغيل الجينات أو إيقافها. وكما تشير دودنا، فان أي مرضٍ وراثي يمكن أن يتحول إلى حالة من المحتمل علاجها.

ولكن هنالك مخاطر أيضا. لنأخذ محركات الجينات-وهي عبارة عن مقاطع من الحمض النووي DNA تنسخ نفسها لتؤكد مرورها إلى النسل كله، وليس مجرد النصف كما هي الحالة المعتادة لتنويعات الجين. فهناك الكثير من محركات الجينات الطبيعية، ولكن قبل كريسبر لم يستحدث أحدٌ مُحركا فعالا. والآن هنالك فرق عديدة تقوم بدراستها في ذباب الفاكهة والبعوض والفئران. وهناك مخاطر عظيمة. فعلى سبيل المثال، إذا هرب محرك جينات صُمِّم للقضاء على الأنواع الغازية Invasive species ولنقل الأرانب في نيوزيلندا الجديدة- فإنه قد يؤدي إلى انقراض النوع كله. والمكاسب قد تكون عظيمة أيضا. ” أعتقد أن الأمر يستحق المخاطرة،” وتقول دودنا مستطردة: ” تخيل إذا كان بإمكانك أن تستخدم طريقة للتخلص من سلالة من البعوض تنشر الملاريا.”

ومع ذلك، فإن القضية الأخلاقية التي اجتذبت معظم العناوين الرئيسية هى ما إذا كانت تقنية كريسبر يجب أن تستخدم في إحداث تغير دائم في الحمض النووي في أطفالنا، ومن ثم كل أحفادنا. تلك الفكرة ترعب البعض، بما في ذلك أحد المشاركين في اكتشاف كريسبر، إيمانويل شاربنتييهEmmanuelle Charpentier. ولكنها لا ترعب دودنا التي تقول: “إذا ظهر أن هذه التقنية يمكن أن تكون آمنة وفعالة في القيام بأمور مثل تصحيح طفرة التليف الكيسي، فإنني شخصيا أعتقد أن ذلك يعد أمرا جيدا.”

نحن نستطيع فعلا أن نمنع كل الأمراض الوراثية تقريبا بفحص أجنة الأزواج الذين يخضعون لعملية الإخصاب خارج الرحم IVF ، لكن ذلك يعنى التخلص من تلك التي بها طفرات. وتقول دودنا: “كثيرون يشاركونني الرأى أنه من غير المريح مطلقا أن نتخلص من الأجنة. ومع ذلك، فبالنسبة إلى البعض قد يبدو ، بدلا من ذلك، أن يكون القرار الأفضل هو تصحيح طفرة ما.”

ولكن، ماذا لو قررنا تحسين الأطفال، وليس مجرد منع المرض؟ تقول دودنا: “لدي مشكلة في ذلك. وقد يبدو تفكيري من المدرسة القديمة.” لكن الأمر هو أمر ذو طابع عملي. هنالك في الواقع عدد قليل جدا من التنويعات الجينية (الأليلات)، ذلك إن وجدت اصلا، التي يمكن أن نتأكد بنسبة 100 في المئة من الحصول على فائدة كبيرة منها. لناخذ الذكاء مثلا –يبدو أنه يتحدد بواسطة مئات الجينات، وكل منها له تأثير ضئيل. وأكثر من ذلك، فإن التنويع نفسه قد يكون له تأثير مختلف باختلاف الأفراد. لذلك، ليس هنالك ما يضمن أن يكون هؤلاء الأطفال أفضل. وتقول: “لست متأكدة من أنني سأكون مرتاحة للقيام بهذه المخاطرة مع طفلى بهذه الطريقة.. لكننا لا نحتاج-حسب قولها- إلى أن نحرم التعزيز الوراثي بشكل مطلق، فقد نصل إلى المرحلة التي نتأكد فيها أن التحوير مفيد.”

وأحد المخاوف هو إمكانية أن نزيد من عدم المساواة في المجتمع. فهذه المشكلة موجودة فعلا وبشكل عام في الرعاية الصحية، وتعتقد دودنا أنها ستنطبق على التعزيز الجينى. لذلك تقول: “من حيث المبدأ يريد المرء أن يعمل على أن يكون استخدام أي تكنولوجيا مفيدا لأكبر عدد من الأفراد.”.

وهذا ما يمكن أن يكون في حالة كريسبر إذا ما استخدمت لتعزيز الحيوانات والنباتات التي نعتمد عليها. لذلك تقول دودنا: “أعتقد أن العائد الأكبر سيكون في الزراعة.” وفي الواقع ، فقد استخدم البيولوجيون كريسبر فعلا لتخليق كل شيء، من القمح الخالى من الغلوتين إلى الخنازير منخفضة الدهن والماعز الأكثر إنتاجا لصوف الكشمير.

لقد بدأت أشعر كأني دكتور فرانكشتين. هل خَلَقْت وحشا؟

هل سنأكل جميعا طعاما محررا جينيا في وقت قريب؟ هذا يعتمد جزئيا على التصورات العامة-والكثير من الناس لم يسمع أصلا عن كريسبر أو تحرير الجينات حتى الآن. وتقول دودنا: “كثيرون لن يسمعوا به إلا بعد أن يؤثر فيهم شخصيا.” كما يعتمد الإدراك جزئيا على المصدر الذى يحصل منه الناس على معلوماتهم. “من المؤكد أننا نواجه تحديا مع هوليود والطريقة التي تصور بها التحرير الجينى.”  تحدثت إلي دودنا عن ذلك قبل بث العروض المختصرة لرامبيج Rampage، وهو الفيلم الذي يقدم فيه ” التحرير الجينى” بتحويل الحيوانات إلى مسوخ خارج السيطرة، بما في ذلك ذئب طائر عملاق.

لكن دودنا تقول إننا سنكون قادرين ذات يوم على أن نبدع حيوانات غريبة، بما في ذلك وحيد القرن والسحالي الطائرة. ربما لا تكون هنالك ذئابا طائرة، إلا أن هذه الحيوانات ستظل تخضع لقوانين الطبيعة.

وبحل لغز كريسبر، فقد أوجدت دودنا مشكلة محيرة أكبر: كيف نوظف قوتها الهائلة. إنه أمر من المحتمل أن تواجهه البشرية لقرون قادمة. لكن دودنا تبدو مبتهجة إذ تقول: “أنا لست قلقة، وأشعر بالإثارة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى