سيرة جديدة لفيليب جونسون تسلط الضوء على جانبي شخصيته المظلمين
الرجل في البيت الزجاجي: فيليب جونسون، مهندس معماري للقرن الحديث
المؤلف: مارك لامستر
منشورات: ليتل وبراون آند كومباني Little, Brown & Company
الصفحات: 508
السعر: 35 دولاراً.
ترجمة: مي منصور بورسلي
قد تميل إلى أن تبدأ مراجعة كتاب الرجل في البيت الزجاجيThe Man in the Glass House، السيرة الذاتية الجديدة والمثيرة لحياة فيليب جونسون Philip Johnson من تأليف مارك لامستر Mark Lamster، بذكر شيء عن الهندسة المعمارية. ولكن واقع جونسون (أحد أكثر المهندسين المعماريين إثارة للإعجاب على مرّ الزمن، وهذا لا يعادل القول إنه أحد أفضل المهندسين المعماريين) هو أنّ الأمر الأكثر إثارة للاهتمام عنه لم يكن المباني التي صممها؛ فالصفات التي شكّلته، وهذا الكتاب، وجعلته شخصا رائعًا هي: ذكاؤه الوقّاد وتوقه وحيويته وقلقه وطموحه وشغفه، وكلها صُبَّت صبًا في إنجاز بضعة نماذج من العمارة التي ستصمد أمام اختبار الزمن، وكذلك تلك التي لن تصمد.
وجونسون الذي بدأ حياته المهنية في الهندسة المعمارية كأول أمين للعمارة في متحف الفن الحديث Museum of Modern Art قرر في وقت لاحق فقط أن يطبق ما درسه، وعلى الأرجح كان تأثيره في الثقافة المعمارية أعمق من أي شخص آخر في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أنجز بالتأكيد أكثر من أي شخص آخر باستثناء فرانك لويد رايت Frank Lloyd Wright لغرس الهندسة المعمارية في سياق خطاب الجمهور. وكان عقله عقلا ناقدًا وليس فنانًا: كان مفتونًا بكل شيء، وأراد أن يعبرّ عن ذلك، ويضعه أمام الجمهور، ويُثير النقاش. وقد رعى المسيرة المهنية للمهندسين المعماريين الذين أُعجب بهم، وقوَّض، أو حاول أن يقوض، مسيرة أولئك الذين يعتقد أنهم دون المستوى المطلوب. وبفضل قوة الشخصية، نصّب نفسه الأب الروحي للهندسة المعمارية الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وهذا إنجاز لا يستهان به لشخص لم يكن، في المحصلة، مهندسًا عظيمًا حقًا. وكان يعرف ذلك، كان أذكى من أن يفوته ذلك، على الرغم من أنه كان يواجه صعوبة في الاعتراف به، وبينما كان في بعض الأحيان يُصرّح بكلام ينتقص من الذات، مثل عبارته المقتبسة التي يرى فيها أنّ جميع المعماريين مدفوعو الثمن، فقد كان يعلم أنّ مهنته ونفسه لا يمكن تفسيرهما بتلك البساطة. إذ يبيع المهندسون المعماريون أنفسهم لزبائنهم، ولكن فقط للوصول إلى غاية أكبر، ألا وهي الصناعة المعمارية التي تمتلك القدرة على تحريك المشاعر، وهو أمر اعتقد جونسون بصدق أنها غاية نبيلة. وخلال معظم حياته كان واحدًا من أكثر المؤيدين المتحمسين لمفهوم مفاده أنّ المباني الجيدة تجعل الحياة أفضل.
ولتقديره حق قدره، شيّد جونسون العديد من هذه المباني بنفسه: ينتمي قصر بينزويل Pennzoil Place في هيوستن، ومطعم فور سيزون Four Seasons الأصلي ومبنى AT & T في نيويورك إلى تلك القائمة. وقد أدى به الجمع بين الدعوة الحماسية وعمق عدم إحساسه بالأمان إلى أن يكون كريماً بشكل استثنائي مع المهندسين الموهوبين الأصغر سنًا الذين، وحتى لو تفوقوا عليه بالموهبة، كانوا سيحترمون منصبه باعتباره عميدًا لهم. وعندما حصل على الميدالية الذهبية من المعهد الأمريكي للمهندسين المعماريين Gold Medal of the American Institute of Architects في عام 1978، تمكن من إقناع تشارلز مور Charles Moore، وبيتر إيزنمان Peter Eisenman، ومايكل غريفز Michael Graves، وريتشارد ماير Richard Meier، وفرانك غيري Frank Gehry، وروبرت ستيرن Robert Stern، وتشارلز غواثمي Charles Gwathmey، وسيزار بيلي Cesar Pelli، وستانلي تيغرمان Stanley Tigerman بالانضمام إليه في دالاس ليكونوا بمثابة نوع من حرس الشرف من حوله، الوصيفين المعماريين الشباب.
وهذا هو الجانب الجيد. هكذا هو البيت الزجاجي، المنزل الريفي الاستثنائي الذي أنشأه لنفسه في بداية عام 1948 في نيو كانان بولاية كونيتيكت، وهو الآن متحف يمتلكه الصندوق الوطني للحفاظ على التاريخ National Trust for Historic Preservation. وإضافة إلى المنزل الزجاجي الأصلي مكان إقامة جونسون، فإنّ هذه الأراضي هي أيضًا موطن لعشرات من الهياكل البارزة الأخرى التي بناها على مدار عقود عديدة، بما في ذلك معرض اللوحات ومعرض النحت ومكتبة الدراسة، التي ظلت قائمة حتى سنوات قليلة قبل وفاته عن عمر ناهز الثامنة والتسعين في عام 2005. ويعرض العقار المملوك له كليًّا ذكاءه الذي تمثّل في التصاميم المتغيرة أثناء تطوره التدريجي عبر أكثر من نصف قرن. وهي أقرب إلى سيرة ذاتية حقيقية في الهندسة المعمارية مثل أي شيء شُيّد في الولايات المتحدة، وهو لا يشبه أي مكان آخر.
لكنّ هناك جانباً آخر لفيليب جونسون، وهو أقل لطفًا. إذ يتناول لامستر بشكل موسع افتتان جونسون البشع بالنازيين في ثلاثينات القرن العشرين، وهو فصل مروِّع وثّق بشكل جيد في سيرة فرانز شولز Franz Schulze عام 1994، حيث عرض لامستر بعض التفاصيل الأخرى التي لا تصب في صالح الشخص موضع الكتابة. وقد قضى جونسون وقتًا طويلاً في ألمانيا، حيث كان يبحث ظاهريًا في ازدهار العمارة الأوروبية الحديثة؛ مما أدى إلى المعرض الشهير والكتاب، الطراز العالمي The International Style، اللذين أعدهما جنبًا إلى جنب مع المؤرخ المعماري هنري-راسل هيتشكوك Henry-Russell Hitchcock، لمتحف الفن الحديث في عام 1932. ولكنه أخذ أكثر من إجازة قصيرة لدراسة المباني، حيث وقع تحت تأثير السياسة الألمانية وجاذبية الشباب الآري.
وبعد أن صار كل هذا معروفا قبل بضع سنوات، فقد كان يُعذر في بعض الأحيان باعتبار ذلك مجرد أحد ميول جونسون الشخصية. ولكن لامستر يساعدنا على فهم ضعف هذا التفسير؛ لأنه يبين كيف دعم جونسون عندما عاد إلى الولايات المتحدة العديد من الشخصيات الأخرى التي كانت سياساتها شنيعة جدا، من بينهم هيوي لونغ Huey Long والأب تشارلز كوغلين Father Charles Coughlin.
وفي الواقع، كان جونسون عبارة عن مجموعة من التناقضات. فقد كان ذواقًا رائعًا للفن، وخبيرًا، ومثقفًا يلتهم الأفكار، ومتحدثًا مُحفِّزًا أكثر من أي شخص قد تصادفه على الإطلاق. إذا كان في شبابه يمتلك ما يسميه لامستر “خيلاء مفرطة”، فقد كان مفعما بالحماس، فلم يكن مجرد شخص متهكم ساخر. ويمكنك القول إنه نجح نتيجة امتلاكه فضولاً حقيقياً لم يخبُ قطُّ، حتى في سن الشيخوخة. “وكان الملل الشيء الوحيد الذي لم يعانِه فيليب جونسون،” كما يخبرنا لامستر.
وكان جونسون أيضاً رجلاً أمضى معظم حياته يبحث عن شيء يؤمن به، يُقدّر فذًّا معمارياً تلو الآخر: وكان أعظم مؤيدٍ لمييه فان دير روه Mies van der Rohe، حتى لم يعد كذلك؛ اعتنق تيار ما بعد الحداثة متأثرا بروبرت فنتوري Robert Venturi ودنيس سكوت براون Denise Scott Brown، ثم تخلى عن ذلك لما سماه الآخرون الحركة التفكيكية Deconstructivism التي نشرها من خلال تنظيم معرض بهذا الاسم في متحف الفن الحديث. وبعد ذلك، قرب نهاية حياته، قرر أن فرانك غيري هو أعظم مهندس معماري في عصره، وبدأت أعماله تتبنى طراز غيري بوضوح، حتى وإن لم تكن جيدة جدًا.
ما جوهر جونسون؟ يقول لامستر إنّ عِمارة جونسون تدور في الواقع حول فكرة الفراغ، ولكن هذا التفسير يبدو عاديًا بعض الشيء، وهو قريب جدًا من القول إنه كان يحاول ملء فراغ داخلي، كما هي الحال بالنسبة إلى الجميع على مستوى ما. لم يكن جونسون غير قادِرٍ على الحب؛ إذ كانت لديه علاقة حب استمرت أكثر من أربعة عقود. فقد كان قارئًا ومفكرًا متميزًا يكفيه أنه بنى لنفسه مبنى كاملًا -في عزبة البيت الزجاجي ليتخذه ملاذًا ويكون محاطاً بالكتب.
لكنه كان أيضاً مولعًا بالظهور الإعلامي دون مواربة، وهذا ما عُبّر عنه في نهاية مسيرته المهنية، عندما انتهت شراكته المهنية الطويلة مع جون بورغي John Burgee، واستمر في مواصلة عمله وحده، اتخذ من مُطوّر عقارات يدعى دونالد ترامب زبونًا له. فقد احتاج هو وترامب إلى الآخر: أراد ترامب اسمًا مشهورًا، وكان جونسون يائسا للبقاء في اللعبة. وقد أنجز جونسون بضعة مبان رديئة لترامب الذي ربما لم يكن يعرف الفرق. وكل ما كان يهتم به هو أنه صار قادرًا على الادعاء بأنّ فيليب جونسون صممها. وحصل جونسون على مواصلة العمل في هذا المجال في نظر الجمهور.
في البدء ظهر فصل ترامب الذي بدأ في تسعينات القرن العشرين كمجرد حاشية غريبة في مسيرة جونسون الطويلة. أمّا الآن، فقد صار من الصعب تجاهله. ظاهريًا، لم يكن ممكنا أن يصبح الرجلان أكثر اختلافًا: قد يجادل جونسون بفصاحة في أي موضوع وبالعديد من الكلمات والعبارات، وترامب غير كفء لفظيًا. وازدرى جونسون عامية ترامب وافتقاده إلى الفضول الفكري، ولم يكن لدى ترامب أي فهم لثقافة جونسون. قد تكون المكتبة الصغيرة الجميلة في المنزل الزجاجي بمثابة سجن لترامب. ولكن الآن بعد أن عرفنا عن ترامب ما هو أكثر من مجرد كونه مُطورًا عقاريًا، فمن الصعب ألا نفكر مرة أخرى في افتتان جونسون بالديكتاتوريين، وتعجرفه، وهوسه بالظهور، فقد نتساءل عما إذا كانت لديهما قواسم مشتركة أكثر مما بدا في ذلك الوقت.
وجاء توقيت لامستر ممتازًا: فقد كتب قصة فيليب جونسون في زمن دونالد ترامب، وهو ما يجعلنا نرى جانبا من جونسون، على الأقل، متفتحاً. وجونسون، مثل ترامب، جعل من المستحيل علينا تجاهله. وقد يكون أهم إسهام للامستر هو توضيحه لنا أنه على الرغم من أن القدرة على التحكم في الأضواء قد تكون مثيرة، فإنها لا تمنح الصفات الدائمة للعظمة.
©2018 The New York Times
Distributed by The New York Times Syndicate