أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

ربما نكون قد لمحنا كونًا موازيًا يعود في الزمن نحو الوراء

جسيماتٌ غريبةٌ رصدتها تجربةٌ في أنتاركتيكا  قد تكون الدليلَ على واقعٍ بديلٍ يكون فيه كلُ شيءٍ رأسًا على عقب 

بقلم:    جون كارترايت

ترجمة: محمد الرفاعي

في القطب المتجمد الجنوبي Antartic  تسير الأمور بخطىً بطيئة مثل الثلاجات الجليدية، فقط اسأل بيتر غورام Peter Gorham. فقد راقب غورام وزملاؤه على مدى شهرٍ كاملٍ منطادًا عملاقًا يحمل مجموعةً من الهوائيات Antennas  ويطير فوق الجليد ماسحاً مليون كيلو مترٍ مربعٍ من الأراضي المتجمدة بحثاً عن دليلٍ على جسيماتٍ عالية الطاقة  High-energy particles  قادمةٍ من الفضاء.

وعندما عاد المنطاد بنتائج التجربة إلى الأرض للمرة الأولى، لم يكن هناك ما يقدمه عدا عن ومضاتٍ غريبةٍ مصدرها ضجيج الخلفيةBackground noise . وتكرر الأمر مرةً أخرى بعد الرحلة الثانية قبل أكثر من عام.

وبينما كان المنطاد في السماء للمرة الثالثة، قرر العلماء أن يعيدوا النظر في البيانات مرةً أخرى، خاصةً تلك التي اعتقدوا أنها كانت ضجيجًا. ولحسن الحظ أنهم فعلوا ذلك. فبعد الفحص الدقيق تبين أن إحدى الإشارات كانت إشارة مميزة تصدر عن جسيمٍ عالي الطاقة High energy particle. ولكن لم يكن ذلك هو ما يبحثون عنه. إضافة إلى أن ذلك مستحيلاً. فالجسيم لم يكن هابطًا من الأعلى  بل نابعًا من الأرض.

وفي عام 2016 اكتشف الباحثون هذه الأمور الغريبة ، ومنذ ذلك الوقت طُرِحَت كل التفسيرات المستندة إلى الفيزياء المعروفة على الطاولة لتبرير وجود هذه الإشارة المحيرة، لكنها فشلت جميعها. أما ما تبقى، فذو تبعاتٍ صادمة. فلتفسير هذه الإشارة نحتاج إلى كونٍ Universe  معاكسٍ لكوننا تَشَكَلَ معه لحظة الانفجار الكبير Big Bang ويوجد في حالةٍ موازيةٍ له. وفي هذا الكون الذي يشكل مرآةً لكوننا يكون فيه الموجب سالبًا، اليسارُ يمينًا، ويعود الوقت إلى الوراء. إنها أكثر الأفكار المدهشة التي انبثقت من جليد أنتاركتيكا – لكنها قد تكون صحيحة.

لم تكن طموحات تجربة هذا المنطاد، المعروف بهوائي أنتاركتيكا الاندفاعي العابر Antarctica Impulsive Transient Antenna (اختصاراً: التجربة أنيتا ANITA)، بهذا الحجم قطّ. وتُقصف الأرض باستمرارٍ بجسيمات تُعرف بالأشعة الكونية Cosmic rays قادمةٍ من أقاصي الفضاء، وطاقة بعضها أكبر بمليون مرةٍ مما يمكن أن ننتجه باستخدام أفضل معجلات) مسرعات)  الجسيمات Particle accelerators. ويشعر علماء الكوزمولوجيا (Cosmologists) بالفضول لمعرفة مما تتكون هذه الأشعة الكونية فائقة الطاقة ومن أين أتتْ، لكن هذه الأسئلة من الصعب إيجاد إجابات لها. وذلك لعدة أسبابٍ أحدها أن مسارات  Trajectories هذه الأشعة تنحرف نتيجة المجال المغناطيسي magnetic fields   لمجرتنا، مما يستحيل معه تقريبًا تحديد المصدر الذي التي انبعثت منه هذه الأشعة.

“لا يمكن للفيزياء المعروفة اليوم أن تفسر هذه الإشارة المحيرة”

لحسن الحظ، أيّاً كان ما يولّد هذه الأشعة الكونية فائقة الطاقة، فبالتأكيد سيولّد  منارة أخرى مفيدةً أكثر: النيوترينو Neutrino. وبما أنّ هذه الجسيمات هي من دون شحنةً، فهذا يعني أنها لا تتأثر بالمجال المغناطيسي، وبإمكانها أن تنطلق في الفضاء في خطوطٍ  مستقيمة. وكنتيجةٍ لذلك، فإن تحديد مصدر جسيمات النيوترينو – وأي أشعةٍ كونية تتشكل معها- لا يتطلب إلا تتبع مسارها انطلاقًا من نقطة اصطدامها. وهنا يأتي دور التجربة ANITA.

عندما يصطدم نيوترينو عالي الطاقة بجليد أنتاركتيكا، فإنه يُشَكِلُ سيلًا من الجسيمات المشحونة التي تُولِّدُ الموجات الراديوية Radio waves. وإذا  كشفت التجربة أنيتا هذه الموجات المنبعثة من السطح، فسيتمكن الباحثون من تحديد مكان اصطدام النيوترينو، ويستنتجون بذلك مصدر الأشعة الكونية المرافقة. “نعرف كل شيءٍ عن هذه العملية”، كما يقول غورام، وهو فيزيائي جسيماتٍ تجريبي من جامعة هاوي University of Hawaii وأحد الباحثين الأساسيين في التجربة ANITA.

ومع ذلك، لم تتمكن من تفسير ما اكتشفه الباحثون في عام 2016. فبدلًا من الاصطدام بالجليد من الأعلى، فإن هذه الجسيمات عالية الطاقة التي كانوا يتعاملون معها بدت أنها كانت تنبع من الأرض، ومن المفترض أنها اخترقت الأرض من الطرف الآخر. وبوسع النيوترينو الطبيعي منخفض الطاقة Low-energy neutrinos إجراء رحلةٍ كهذه، لأنه يعبر المادة بسهولة. ولكن النيوترينو عالي الطاقة High-energy neutrinos يصطدم بالأشياء الصلبة كالكواكب كما يصطدم بطن الغطاس غير المتمرس بالماء في قفزةٍ غير موفقة: ببساطة، لا يمكن لهذا النوع من النيوترينو أن يعبر دون أن يتأثر، وذات الأمر ينطبق على الأشعة الكونية.

وكانت الفكرة التالية هي  تجربة بعض الحلول الإبداعية. يأتي النيوترينو بثلاثة أنواعٍ معروفة: الإلكترون Electron ، والميوون Muon ، والتاو Tau. ولا يمكن لأيٍّ منها أن يعبر المادة بسرعةٍ عالية، لكن  تاو نيوترينو Tau neutrino يمكنه أحياناً التحول إلى جسيمٍ آخر يدعى تاو ليبتون Tau lepton قبل أن يعود ليصبح  تاو نيوترينو مرة أخرى. فربما استطاع تاو نيوترينو عالي الطاقة أن ينجو مرحلة عبور الأرض عن طريق  إجراء هذا التحول الشكلي. ولكنه يبدو أنّ هذه الفكرة مبالغ فيها لحل هذه المشكلة بالتحديد، والعلماء المشاركون في التجربة ANITA يدركون ذلك. وقد شرح غورام الأمر: “لم يكن الجميع  يميل إلى هذه الفرضية”.

وفي عام 2018 ازداد اللغز تعقيدًا عندما رصدت التجربة ANITA إشارةً واضحةً أخرى لجسيمٍ هائلٍ ينبعث من الأرض. وأظهر تحليلٌ مستقلٌ أجراه ديريك فوكس Derek Fox وآخرون من جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania State University أن احتمال رصد حدثين كهذين صغيرٌ جدًا. وتبعًا لحساباتهم، فإن احتمال أن يعبر تاو نيوترينو الأرض بسلاسةٍ خلال طيران منطاد التجربة ANITA مرتين هو واحد من كل مليون. وعلّق غورام على ذلك: ” لقد نفذت التفسيرات السهلة من جعبتنا “.

أما التفسيرات الأصعب، فتأخذنا إلى ما وراء الفيزياء التي نعرفها. لأكثر من 40 عاماً حكم النموذج القياسي Standard model فيزياء الجسيمات، وهو قائمة من مجموعةٌ جسيمات وقوى أثبتت أنها دقيقة جدّا في تفسير ظواهر العالم الطبيعي. لكن، وفي خضم أوقاتٍ كهذه، يميل الباحثون إلى الخروج عن المألوف. فعلى سبيل المثال، اقترح إيفان إستيبان Ivan Esteban من جامعة برشلونة University of Barcelona في إسبانيا أن جسيمًا اسمه أكسيون Axion قد يكون المتسبب، وهو جسيمٌ افتراضي اقْتُرِحَ وجوده في أواخر سبعينات القرن الماضي لتصحيح عدم التوازن Imbalance الموجود في إحدى القوى الأربع الأساسية الموجودة  في الطبيعة. ويعتقد أن إشارات الراديو قد تكون سببتها أكسيوناتٍ تحولت إلى فوتوناتٍ Photons أثناء تفاعلها مع مجال الأرض المغناطيسي.

وعلى الطرف الآخر، لجأ فوكس وزملاؤه إلى التناظر الفائق Supersymmetry، وهو امتدادٌ كبيرٌ للنموذج القياسي يكون فيه لكل جسيمٍ أولي معروف توأم نموذجي أكبر منه. ويعتقدون أن جسيم تاو فائق التناظر، أو ستاو Stau، لديه احتمالات أكبر في عبور الأرض وتوليد الإشارة التي كشفتها التجربة ANITA. وتكمن المشكلة في أن التجاربَ المصممة للكشف عن الجسيمات فائقة التناظر مثل مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider، الموجود في سيرن CERN بالقرب من   جينيف في سويسرا، عجزت عن ذلك.

“لم يحدث أن كُسِرَ التناظر CPT. إلا أنّ هذا التناظر يسبب مشكلات للكون”

 

أما نيل توروك Neil Tuork من معهد بيريميتر للفيزياء النظرية Perimeter Institute for Theoretical Physics في واترلو  بكندا؛ فيعتقد أن كل هذه الاقتراحات معقدةٌ أكثر من اللازم. فعوضًا عن اختراع حشود من الجسيمات الجديدة لتفسير الظواهر الغامضة، يعتقد أن علينا استخدام ما نعرفه بالفعل.  ” انتقلت فيزياء الجسيمات من كونها أكثر النظريات التي نعرفها قدرةً على التنبؤ، إلى أقلها، وعددٌ مذهلٌ من الأشخاص تقبّل هذا الأمر”، كما يقول. ويضيف قائلًا: ” حسنًا، أنا أرفضه “.

وربما قاد شغفُ توروك في إبقاء الأشياء بسيطةً إلى حلٍ مذهلٍ لمشكلة إشارة التجربة ANITA. في البداية، كان اهتمامه منصبًا على مجالٍ بعيدٍ جدًا عن أنتاركتيكا؛ اللحظات التي تلت الانفجار الكبير. وأحد الأدلة القليلة التي يُسترشد بها وتساعد على دراسة هذه الفترة هو مفهومُ التناظر Symmetry، ويعني ببساطةٍ أن قوانين الفيزياء تبقى كما هي عند حدوث تحولاتٍ معينة.

ونشير إلى هذه التناظرات باستخدام اختصارات. فالحرف C ،على سبيل المثال، يشير إلى تناظر اقتران الشحنة Charge conjugation symmetry، والذي يقول إن عكس شحنة جسيم –أي أن يستبدل بالجسيم المكافئ الضديد له- ليس له تأثيرٍ في التصرف الأساسي للجسيم. أما الحرف P ؛ فاختصارٌ لتناظر تحويل التكافئ Parity transformation symmetry، ويعني أن الفيزياء في سيناريو ما لا يمكن تمييزها عن نظيرتها في صورة المرآة الخاصة بها. أما الحرف T ؛ فيمثل تناظر انعكاس الزمن Time reversal symmetry، الذي يعني أن العمليات إذا ما أُعيدت في الزمن إلى الوراء؛ فإنها لا تخالف أي قانونٍ في الفيزياء.

ومن المعروف أنّ واحدة أو اثنتين من العمليات التي تتضمن الجسيمات الأولية تخالف أحد أنواع التناظر C أو P أو Tعلى حدة. ولكن في جميع هذه الحالات، فإن التناظرين الآخرين يجري مخالفتهما أيضًا كنوعٍ من التعويض، مما يجعل التناظر CPT بالمُجْمَلِ تناظرًا مُصَانًا.  “لم يجد أي أحد أي طريقة لتجنب هذا الأمر”، كما يقول توروك.  ويضيف قائلًا: “إنه أمرٌ أساسيٌّ في الطبيعة”.

في عام 2018 انطلق توروك برفقة زميليه من معهد بيريميتر هما ليثام بويل Latham Boyle وكيران فين Kieran Finn في محاولةٍ لاكتشاف ما يعنيه أن يُحافِظَ  التناظر CPT على نفسه خلال لحظات الكون الأولى. وتوصلوا بعد حساباتٍ مضنيةٍ إلى وجودِ حدودٍ صارمةٍ على نوع وعدد الجسيمات التي سيطلقها الانفجار الكبير. وأحد هذه الحدود كان نيوترينو أيمن Right-handed ثقيلًا. وهذا يناقض فلسفة توروك، جسيمٌ افتراضي، إلا أن وجوده مقبولٌ على نطاقٍ واسعٍ بسبب أهميته في موازنة كتلة النيوترينوات التي نعرفها، والتي تُسمى النيوترينوات اليسارية Left-handed نسبةً إلى الطريقة التي تدور بها هذه الجسيمات. وبأخذ سعة انتشار هذا الجسيم، والتي تُرَدُّ إلى التناظر CPT، فقد وجد توروك وزملاؤه أنهم إن حسبوا كتلته بالشكل الصحيح، فإنها ستطابق خواص إحدى أكثر المواد مراوغة  في الكون – المادة المعتمة Dark matter، والتي تمثل كتلة الكون المفقودة، والتي لا يزال الفيزيائيون يَصْبون إلى الوصول إليها منذ عقود. وقال توروك عن هذا الاكتشاف: “لم نستطع تصديق ذلك”، وأضاف قائلًا: “لقد ظهر أن النيوترينو الأيمن مرشحٌ ليكون هو المادة  المعتمة”.

ليس من الصعب إيجاد مرشحين  للمادةً معتمةً. ولكن هذه المرة، كتلةُ الجسيم المرشح تساوي 500 مليون بليون إلكترون فولت Electronvolt، أو ما يعادل نحو جزءٍ من مليون بليون جزءٍ من الغرام. وما لم يكن يعرفه توروك آنذاك هو أن هذا الرقم كان متوافقاً مع كتلة الجسيم الذي رصدته التجربة ANITA.

تناظرٌ مخيف

كان الباحث النظري لويس أنكوردوكوي Luis Anchordoqui من جامعة مدينة نيويورك City University of New York في الولايات المتحدة وزملاؤهُ أول من لاحظ هذه المصادفة. واقترحوا أن جاذبية الأرض، وعلى مدى ملايين السنين، قد سحبت النيوترينوات اليمينية السائدة في الكوزموس Cosmos، لتستقر منذ ذلك الوقت داخلها. وتوقعوا كذلك أن جسيمات المادة المعتمة تتحلل إلى جسيمات بوزون هيغز Higgs boson وتاو نيوترينو، والأخيرة بدورها تسببت في الإشارة التي اكتشفتها التجربة ANITA. وقال أنكوردوكوي: ” الطاقة التي اكتشفتها التجربة ANITA هي تماماً ما تنبأ به هؤلاء”، وأضاف قائلًا: “هذا هو الأمر المذهل”. ما بين أيدينا الآن هو تنبؤٌ نوعيٌّ يمكن قياسه، إضافة إلى أنه مدعومٌ بتجربة، وهو أمرٌ نادرٌ في فيزياء الجسيمات في الوقت الحالي.

ولكن، إذا كان أساس هذه الفكرة صحيحاً، فهذا الأمر يتسبب بمعضلةٍ للكون الذي نعرفه. وإحدى تبعات مصونية التناظر CPT في اللحظات الأولى من الانفجار الكبير تعني أن الكوزموس احتوى على كمياتٍ متساويةً من المادة وضديد المادة Antimatter. ويُعرف أنّ هذين الاثنين لا ينسجمان مع بعضهما، وسيفنيان بعضهما البعض لحظة التقائهما، تاركين وراءهما الطاقة فقط. ولكن أعداد جسيمات المادة تزيد بشكلٍ مهولٍ على ضديد المادة في الكون، وهذه الحقيقة دفعت بالعديد من علماء الكوزمولوجيا إلى الاعتقاد أن التناظر CPT لم يكن مصونًا في لحظات الانفجار الكبير الأولى كما هي عليه الحال اليوم. لكن، وبما أن توروك وزملاؤه جعلوا من التناظر CPT مصاناً، ليس اليوم فقط، بل بُعَيد الانفجار الكبير كذلك، فقد صاروا أمام سؤالٍ جوهري: كيف وجِدَ كوننا أصلاً؟

تبين فيما بعد أن الإجابة تكمن في التناظر CPT بحد ذاته – وهي إجابةٌ مذهلة. ولفهمها، خذ بالاعتبار إحدى أهم العمليات التي تدخلها الجسيمات: ولادة الإلكترون وضديده، البوزيترون Positron، بوجود مجال كهربائيٍ قوي. لكن، إذا التزمنا بشكلٍ كاملٍ بالتناظر CPT، فإن هناك زاويةً أخرى للنظر إلى الأمر: البوزيترون هو إلكترونٌ سافر في الزمن نحو الوراء حتى لحظة توليد المجال الكهربائي، وحينئذٍ استدار وسافر في الزمن نحو الأمام. على الرغم من غرابة الأمر، إلا أن طريقتي وصف هذه الحالة متكافئتان بالكامل، ولا سبيل أمامنا يُمكّننا من معرفة أيهما “الحقيقي”.

وتنبُؤ توروك الاستثنائي يقول بحدوث شيءٍ مماثلٍ لكوننا. فالرؤية التقليدية للانفجار الكبير تُعَرِّفُه على أنه لحظة ظهور كوزموس واحدٍ يكاد يخلو تمامًا من ضديد المادة. لكن، وليبقى التناظر CPT مصاناً، فعلى الانفجار الكبير أن ينتج كونين متوازيين، بحيث تنتقل معظم جسيمات المادة إلى أحدهما –الكون الذي نعيش فيه نحن- أما معظم ضديد المادة فانتهى به المطاف في الكون الآخر. وفي هذا الأخير، كل شيءٍ سيكون معكوسًا، وأي نجمٍ أو كوكبٍ فيه سيتكوّن من ضديد المادة عوضاً عن المادة. وما يذهل العقل أكثر أن ضديد الكون هذا سينكمش في الزمن نحو الوراء وصولًا إلى لحظة الانفجار الكبير، عوضاً عن الابتعاد نحو الأمام.

قُلِب رأسًا على عقب

هذا ما يبدو من منظورنا على أقل تقدير.  والمفهوم الذي  ينص عليه التناظر CPT والقائل إن البوزيترون المسافر نحو الأمام في الزمن مكافئٌ للإلكترون المسافر نحو الوراء في الزمن، مماثلٌ –أي هذا المفهوم- لمفهوم ضديد الكون لكوننا. وبالنسبة إلى ساكني الكون الضديد، فكوننا هو الكون المقلوب رأساً على عقب، وهو الكون المنكمش نحو لحظة الانفجار الكبير، وهو ممتلئٌ بالمادة “الخاطئة”. لا يمكننا أن نعرف في أي كونٍ نحن، وليس بوسعنا إلا أن نعرف أن الكون الآخر يعود نحو الوراء مقارنةً بكوننا. وبالحديث على نطاقٍ كوني، لن يكون الزمن  سهماً موجوداً بفعل مراقبٍ خارجي. إنه أشبه بمروحةٍ  تحديد جهة الريح، تشير إلى الاتجاه الذي يتوسع إليه كوننا.

هذه رؤيةٌ مغايرةٌ جذرياً لما هو متعارفٌ عليه في الكوزمولوجيا، وتوروك هو أول من اعترف بوجود قطع لغزٍ مفقودة. لكنه مقتنعٌ بأنه وغيرَه قادرون على التغلب على هذه الصعوبات دون الحاجة إلى جسيماتٍ جديدة. ويقول عن ذلك: ” إذا كان هذا بوسعنا، فلن يكون هناك خلاف: نظريتنا ستكون أفضل بلا شكٍ من أي شيءٍ آخر”.

لكن، لا يزال أمامنا بابٌ مقفل لنفتحه. وإذا كان ما كشفته التجربة ANITA هو نيوترينو أيمن –الذي تتنبأ به فكرة ضديد الكون – فلا بد أن كواشف نيوترينو أخرى قد التقطت هذه الجسيمات أيضاً. وحتى نهاية عام 2019  لم تعلن تجربة آيس كيوب IceCube والتي بحثت بشكلٍ مستمر عن ومضاتٍ من الضوء الناتج من عملية تحلل النيوترينو بعد اصطدامه بمكعبٍ من جليد أنتاركتيكا بحجم كيلومترٍمكعب- عن العثور على أي نيورترينوات عالية الطاقة قادمةٍ من المكان الذي حددته التجربة ANITA.

ولكن، لا يمكن اعتبار هذا ضربةً قاضيةً لفكرة ضديد الكون. ويشير أنكوردوكوي إلى أن مسار تاو نيوترينو عالي الطاقة قد يُفَسَّرَ خطأً على أنه مسار ميوون نيوترينو منخفض الطاقة، وهو ما رصدته تجربة IceCube مرةً واحدةً على الأقل. وهذه الرؤية مثيرةٌ للجدل، لكن هذا يقترح أن كلتا التجربتين، ANITA وIce Cube، قد اكتشفتا دليلًا مغريًا على كونٍ موازٍ.

ضديد الكون سينكمش عائداً في الزمن نحو الوراء”

 

هناك الكثير من الأمور التي تشد داعمةً على  يدي هذا التفسير. ففكرة ضديد الكون تتوقع أن الانفجار الكبير لم يُنْتِج موجات جاذبية (ثقالة) بدئية Primordial gravitational wave – وهي تموجاتٌ في نسيج الزمكان Space-Time حاول العديد من علماء الكوزمولوجيا رصدها دون جدوى. وتتنبأ هذه الفكرة أيضاً بأن أخف جسيمات النيوترينو الثلاثة عديم الكتلة، وهو اكتشافٌ يعتقد توروك بإمكانية إثباته في السنوات الخمس أو العشر القادمة. واعتمادًا على هذه التنبؤات الكبيرة سيتحدد مصير فكرة ضديد الكون، ويقول: ” لقد قيدنا أيدينا “.

وفي غضون ذلك، يعود التركيز لينصب على أنتاركتيكا، وعلى احتمال العثور على جسيماتٍ كبيرةٍ تنبع من الأرض. فقد مرّت ثلاث سنوات منذ أن حطت رحلة التجربة ANITA الرابعة الرّحالَ على الجليد، ولا يزال العمل قائمًا على تحليل آخر البيانات.

يرفض غورام الآن مراجعة محتوى ما اكتشفه. ويُعَقِّبُ على ذلك: “لا نعرف الكيفية التي  سنقدم بها ما لدينا”، ويختم كلامه قائلاً: “إلا أن في حوزتنا شيء ما”.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى