هل ساعد «الزجاج» البركاني على إطلاق شرارة الحياة المبكرة؟
ربما ساعدت الحمم الخامدة على تشكيل خيوط طويلة من الحمض النووي RNA الضرورية لنشوء الكائنات الحية الأولى
عندما نشأت الحياة فإنها فعلت ذلك بسرعة كبيرة. تقترح الأحافير أن الميكروبات كانت موجودة قبل 3.7 بليون عام مضت، أي بضع مئات من ملايين السنين فقط بعد أن برد الكوكب – يقدّر عمر الكوكب بـ 4.5 بليون عام- إلى الحد الذي يدعم البيوكيمياء. ويعتقد العديد من الباحثين أن المادة الوراثية لهذه الكائنات الحية الأولى كانت من الحمض النووي RNA. وعلى الرغم من أن الحمض RNA ليس بتعقيد الحمض النووي DNA، فإنه بدوره يصعب تشكيله في خيوط طويلة لازمة لنقل المعلومات الجينية، مما يثير السؤال حول كيفية تشكله التلقائي.
ربما حصل الباحثون الآن على جواب لذلك. ففي تجارب مخبرية أظهروا كيف أن صخوراً تدعى الزجاجيات البازلتي Basaltic glass ساعدت أحرف الحمض RNA المفردة المعروفة نيوكليوسيد ثلاثي الفوسفات Neucloside Triphosphate على الارتباط ببعضها بعضا لتشكل خيوطاً بطول يصل إلى 200 حرف. هذه الزجاجيات لا بد أنها كانت متوفرة في حمم الأرض المبكرة وصخورها الكبريتية. وهي تتشكل عندما تخمد هذه الحمم في الهواء أو الماء، أو عندما تبرد الصخور المنصهرة الناشئة عن اصطدامات الكويكبات المفاجئة.
هذه النتيجة أدت إلى اختلاف أبرز الباحثين في علم أصل الحياة. توماس كاريل Thomas Carell – كيميائي من جامعة لودفيج ماكسميليان Ludwig Maximilian University بميونيخ يقول: «تبدو هذه كقصة رائعة تشرح أخيرا كيف تفاعلت جزئياً نيوكليوسيد ثلاثي الفوسفات مع بعضها بعضا لتنتج خيوط الحمض RNA». ولكن جاك زوستاك Jack Szostak، عالِم الحمض RNA من جامعة هارفارد Harvard University، يقول إنه لن يصدق النتيجة إلا بعد أن يصنَف الفريق الباحث خيوط الحمض RNA بشكل أفضل.
الباحثون في أصل الحياة مولعون بعالم بدئي Primordial من الحمض RNA، لأن الجزيء يمكنه أن ينفذ عمليتين متمايزتين ضروريتين للحياة. فالحمض RNA مثل الحمض DNA مؤلف من أربعة حروف كيميائية يمكنها أن تحمل معلومات وراثية. ومثل البروتينات يمكنه أيضاً أن يحفَز تفاعلات كيميائية ضرورية للحياة.
لكن الحمض RNA يجلب المتاعب أيضاً. ولم يعثر أحد، بعدُ، على مجموعة ظروف ما قبل الحياة معقولة يمكنها أن تشكل مئات من حروف الحمض RNA – كل واحدة منها عبارة عن جزيئات معقدة – بحيث تتصل في خيوط طويلة بما يكفي لدعم الكيمياء المعقدة اللازمة لإطلاق شرارة التطور.
تساءل ستيفان مويزيش Stephen Mojzsis، جيولوجي في مركز أبحاث الفلك والعلوم الأرضية Research Center for Astronomy and Earth Sciences التابع لأكاديمية العلوم المجرية Hungarian Academy of Sciences، عما إذا كان الزجاج البازلتي قد أدى دوراً في ذلك. فهو غني بمعادن مثل المغنيزيوم والحديد التي تحفز العديد من التفاعلات الكيميائية. ويتابع قائلا: «الزجاج البازلتي كان في كل مكان على سطح الأرض في ذلك الوقت».
أرسل عينات من خمس زجاجيات بازلتية متباينة إلى مؤسسة التطور الجزيئي التطبيقي Foundation for Applied Molecular Evolution. وهناك طحنت إلايزا بيوندي Elisa Biondi، عالِمة البيولوجيا الجزيئية، وزملاؤها كل عينة إلى مسحوق ناعم ثم عقمتها وخلطتها بمحلول من نيوكليوسيد ثلاثي الفوسفات. من دون المسحوق الزجاجي الناعم فشلت حروف الحمض RNA في الارتباط ببعضها بعضا. ولكن عندما خلطت بالمسحوق الزجاجي الناعم ارتبطت ببعضها في خيوط طويلة تصل إلى بضع مئات من الحروف، كما ذكر الباحثون – في الأسبوع الأول من شهر يونيو 2022- في مجلة أستروبيولوجي Astrobiology. ولم تكن هناك حاجة إلى الحرارة أو الضوء. «كل ما كان علينا فعله هو أن ننتظر»، كما تقول بيوندي. تشكلت خيوط قصيرة من الحمض RNA خلال يوم واحد فقط، لكن الخيوط ظلت تنمو لأشهر عدة. «جمال هذا النظام هو في بساطته»، كما يقول جان سباسيك Jan Spacek -عالِم البيولوجيا الجزيئية من شركة فاياربيرد Firebird Biomolecular Sciences. ويستطرد قائلا: «اخلط المكونات، انتظر لعدة أيام، ثم اكشف عن الحمض RNA».
مع ذلك، فإن النتائج تثير العديد من الأسئلة. أحدها هو كيف نشأ النيوكليوسيد ثلاثي الفوسفات في المقام الأول. يقول ستيفان بينار Steven Benner، زميل بيوندي، إن البحث الأخير يظهر كيف أمكن للزجاج البازلتي نفسه تحفيز تشكيل حروف الحمض RNA المنفردة وتثبيتها.
المسألة الأكبر كما يقول زوستاك هي شكل خيوط الحمض RNA الطويلة. ففي الخلايا الحديثة، تضمن الإنزيمات نمو معظم الحمض RNA في سلاسل خطية طويلة. لكن يمكن لحروف الحمض RNA أن تنحني في أنماط متفرعة Branching patterns معقدة. ويدعو زوستاك الباحثين إلى أن ينشروا تركيبة الحمض RNA الذي شكله الزجاج البازلتي. ويعلق قائلا: «من المحبط جداً أن يحقق المؤلفون هذا الاكتشاف الأولي المثير، لكنهم يقررون بعد ذلك متابعة الأمر بالإعلام بدلاً من العلم.»
تعترف بيوندي أن تجربة فريقها أنتجت بالتأكيد كمية بسيطة من جزيئات الحمض RNA المتفرع. لكنها مع ذلك تشير إلى أن بعضاً من جزيئات الحمض RNA المتفرع توجد في الكائنات الحية حاليا، وربما وجدت بنى قريبة من ذلك منذ بدء الحياة. وتقول أيضاً إن الاختبارات الأخرى التي أجراها الفريق تؤكد وجود خيوط طويلة بارتباطات يحتمل جداً أن تعني أنها خطية. ويقول ديتار برون Dieter Braun، -عالِم كيمياء أصل الحياة في لودفيغ ماكسيمليان: «إنه نقاش صحي، سيطلق الجولة الثانية من الاختبارات ».
بقلم: روبرت سيرفس
ترجمة: د. سعد الدين خرفان
© 2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved