الأكتونيون: أعداد غريبة قد توّحد قوانين الطبيعة
هل سيساعد نظام عددي ثماني الأبعاد الفيزيائيين على وضع إطار رياضياتي موحد يصف الكون كله؟
للكلمات طابعها المبهم والغامض! وقد ينطبق ذلك أكثر ما يكون في الفيزياء مقارنة بسائر نواحي الحياة. فلو تأملنا، مثلاً، مصطلح «الجسيم» Particle؛ لاستحضرت أذهاننا صورة كرة صغيرة، غير أنّ «الجسيم» ما هو حقيقةً إلّا مصطلحٌ رمزي وصفي لشيء مغاير كلياً لمعرفتنا وخبرتنا المعيشية- ولهذا فإنّ أوصافنا المثلى للواقع مستقاة من لغة الرياضيات الدقيقة والمجردة.
وكما تتعدد اللغات البشرية في العالم، كذلك تتعدد أنواع الأنظمة العددية Number system. ومعظمنا يستخدم خط الأعداد التقليدي المبتدئ بـ 1 و2 و3. غير أنّه هناك أنظمة أخرى أغرب وأعجب! وقد عكف الفيزيائيون مؤخراً على طرح سؤال عميق جدا: ماذا لو كنّا نصف الواقع مستخدمين نوعاً خاطئاً من الأعداد؟
لكل نظام رياضياتي طبيعته المميزة، مثلُه مثل اللغات؛ فقصائد الغزل باللغة الفرنسية تبدو أعذب من غيرها. أمّا اللغة الألمانية؛ فتمتاز بالقدرة على التعبير عن المصطلحات المعقدة، مثل الشماتة Schadenfreude، بمقاطع لفظية قليلة. وعلى إثر الإنجازات الحديثة التي كشفت مؤخراً عن صلاة مدهشة بين النماذج الموضوعة لتفسير كيفيكة عملMatter عند مستويات الطاقة Energy scales المختلفة، صار مرجحاً أن مجموعة غريبة من الأعداد، المعروفة بالأكتونيونات Octonions، لديها ما يلزم للتعبير عن حقيقة الواقع.
ويشيع بين علماء الرياضيات حماس شديد لأنهم يرون أنّ ترجمة نظرياتنا عن الواقع إلى لغة الأكتونيونات قد يعالج بعض المعضلات العميقة في الفيزياء، ويُيسر السبل أمام وضع «نظرية موحدة عظمى» unified theory Grand تصف الكون في عبارة واحدة. وفي هذا الصدد يقول العالم لاثام بويل Latham Boyle، من معهد بيرميتر Perimeter Institute الكندي في واترلو: «يبدو هذا المسار واعداً ومبشراً بالخير، لدرجة يصعب معها عدم التفكير فيه».
يحلم فيزيائيون كثيرون بوضع نظرية موحدة عظمى؛ أي إطار رياضياتي (نظري) واحد يشير إلى منبع قِوى الطبيعة، وطريقة تأثيرها (عملها) في المادة. وستبين مثل هذه النظرية -على نحو حاسم- كيفية تغيّر هذه الخصائص طوال عمر الكون -وهو ما نعلم أن قد حدث، وأسباب حدوث ذلك.
إن أقرب ما حققناه لبلوغ هذه الغاية هو النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات Standard model of particle physics؛ الذي يقدم معلومات تفصيلية عن الجسيمات والقوى الأساسية للكون، مثل الإلكترونات والكواركات والفوتونات وغيرها. لكن للنموذج القياسي قصوره. إذ يستلزم تطبيقه أن نغذيه بنحو 20 رقماً محسوباً، مثل كتل الجسيمات. ونحن نجهل لما هذه الأعداد على ماهي عليه. والأسوء أن النموذج القياسي لا يزودنا إلّا بمعلومات ضئيلة عن الزمكان Space-time، أي النسيج الذي توجد فيه الجسيمات؛ فالظاهر أننا في زمكان رباعي الأبعاد، إلا أنّ النموذج القياسي لا ينصّ تحديداً على وجوب ذلك. وهنا يتساءل بويل: «لمَ لا يكون زمكاناً سباعي الأبعاد مثلاً؟»
أعداد حقيقية وتخيلية
يرى كثيرون أن حلّ هذه المعضلات مرهون بنجاح التجارب في الكشف عن الجزء المفقود (الناقص) من النموذج القياسي. ولكن هذا لم يتحقق حتى بعد سنين طويلة من الجهود المبذولة، ويتساءل البعض عما إذا كانت الرياضيات هي أصل المشكلة.
أدرك علماء الرياضيات منذ قرون وجود أعداد أخرى خلاف التي نعدها على أصابعنا؛ فلو حسبنا الجذر التربيعي للرقم -1، لكانت النتيجة i، لما وجدنا أي إجابة ذات معنى لهذا الرمز، خاصةً أن ناتج ضرب 1*1 و -1*-1 يساوي 1، وهذا يعني أن العدد i هو عدد تخيلي Imaginary number. وقد خلص العلماء إلى أن الجمع بين العدد i والأعداد الحقيقيةReal numbers – أي جميع الأعداد التي توضع على خط الأعداد، ومنها الأعداد السالبة والكسور العشرية- قد يفضي إلى تشكيل نظام جديد يُعرف بالأعداد المركبة Complex numbers.
لو تأملنا بالأعداد المركبة على أنها ثنائية الأبعاد، فإن طرفي كل عدد يسجلان خصائص Properties غير مرتبطة ببعضها للشيء نفسه. وقد تبين أن هذا الأمر مفيد جداً؛ فجميع البنى التحتية الإلكترونية تُعوّل على الأعداد المركبة. ونظرية الكم Quantum theory- أي توصيفنا الناجح والبارز للعالم عند مستويات متناهية الصغر- لا تصحُّ من دونها.
وكان عالم الرياضيات الإيرلندي، وليم روان هاميلتون William Rowan Hamilton، قد أحدث تقدماً بارزاً في هذا الشأن في عام 1843؛ إذ أضاف إلى مجموعتي الأعداد الحقيقية والتخيلية مجموعتين من الأعداد التخيلية أسماهما j وk، فاستحدث بذلك الكواتيرنيون، وهو مجموعة من الأعداد رباعية الأبعاد.
وما هي إلّا بضعة شهور حتى أوجد جون غريفز John Graves، صديق هاميلتون، نظاماً آخر ثماني الأبعاد سمّاه الأكتونيون Octonions.
وهكذا تُعرفُ الأعداد الحقيقية والمركبة والكواتيرنيون والأكتونيون مجتمعة بمصطلح القسمة الجبرية المعيارية Normed division algebras. وهي مجموعة الأعداد الوحيدة التي تقبل عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة. ومن الممكن إنشاء أنظمة أكثر جموحا- ذات الأبعاد الستة عشر مثلاً- العمليات، إلا أن
يعتمد علم الفيزياء في وقتنا الحالي على ثلاثة من تلك الأنظمة؛ فالأعداد الحقيقية مستخدمة في كل شيء تقريباً، أمّا الأعداد المركبة فهي أساسية لفيزياء الجسيمات وفيزياء الكم. في حين تعبر الكواتيرنيونات بأناقة عن التركيب الرياضياتي للنظرية النسبية العامة، أي نظرية ألبرت آينشتاين في الجاذبية.
أما الأكتونيونات؛ فتتفرد -بغرابة- عن الأنظمة الأخرى، إذ لا ترتبط بأي قانون فيزيائي مركزي. ولكن لم يمكن ربط الطبيعة بثلاثة فقط من هذه الأنظمة العددية الأربعة؟ يقول بويل: «يدفعنا هذا الأمر إلى الشك بأن للأكتونيونات- أكبر الأنظمة الأربعة وأقلها فهماً- أهمية كبيرة أيضاً».
وفي الواقع عكف الفيزيائيون على النظر في مثل هذه الأفكار منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أنّها لم تحقق وعدها بعد. فالعالم مايكل داف Michael Duff، من جامعة إمبريال كوليدج لندن Imperial College London، كان -وما زال- مهتما بالأكتونيونات، إلا أنه يعي جيداً أن كثيرين حاولوا وأخفقوا في تبيان وتفسير دورها في وصف الواقع. إذ يعلق قائلاً: «صارت الأكتونيونات تعرف بمقبرةَ الفيزياء النظرية».
ولم يثبط هذا الأمر عزيمة جيل شاب من العلماء المنغمسين في مجال الأكتونيونات، ومنهم نيكول فيوري Nichol Furey من جامعة هومبولدت ببرلين Humboldt University of Berlin؛ إذ إنها تُحبذ البحث في المعضلات والمسائل الفيزيائية دون أي تحفظات. وتقول عن ذلك: «إنني أسعى إلى حلّ المعضلات بدءاً من نقطة الصفر، ففعل ذلك يتيح لنا العثور على طرقٍ بديلة غفل عنها الباحثون السابقون». والآن، يبدو أنها وعلماء آخرون على أعتاب إحداث ثورة في مجال الأكتونيون.
التناظرات الداخلية في ميكانيكا الكم
إن فهم عمل فيوري يستلزم استيعاب مفهوم فيزيائي معروف بالتناظر الداخلي Internal symmetry. فليس المقصود به التناظر الدوراني Rotational أو الانعكاسي Reflectional لندفة الثلج، وإنما يشير إلى مجموعة الخصائص المجردة، مثل الخصائص المميزة لقوى معينة والعلاقة بين الجسيمات الأساسية. فالجسيمات جميعها تُعرف حسب سلسلة من الأعداد الكمية، مثل كتلتها وشحنتها، فضلاً عن خاصيتها الكمية المعروفة بالدوران المغزلي (أو التدويم) Spin. فإذا تحول جسيم إلى جسيم آخر- أي أن يتحول إلكترون إلى فوتون مثلاً- فقد تتغير بعض تلك الأعداد ويبقى بعضها الآخر ثابتاً. وهذه التناظرات هي ما يحدد بنية النموذج القياسي.
وتقع التناظرات الداخلية في صميم عملية البحث عن النظرية الموحدة العظمى. فقد توصل الفيزيائيون مسبقاً إلى نماذج رياضياتية Mathematical models مختلفة ربما تبين طريقة عمل الواقع عندما كانت للكون طاقة أكثر بكثير. عند مستويات الطاقة المرتفعة هذه، يعتقد أنه كانت هناك تناظرات أكثر، أي أنّ بعض القوى التي نراها الآن كقوى مستقلة عن بعضها البعض كانت قوة واحدة ومتماثلة. غير أنّ هذه النماذج جميعها أخفقت في إدراج مسألة الجاذبية ضمن سياقها، مما يستلزم نظرية «كل شيء» أكبر وأعظم. ومع ذلك، وضّحت النماذج، مثلاً، أن القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة شكّلتا قوة «كهروضعيفة» Electroweak واحدة وصولا إلى جزء من الثانية بعد حدوث الانفجار الكبير (العظيم) Big bang. فمع انخفاض حرارة الكون، اختلت بعض التناظرات، وبذلك لا يمكن تطبيق هذا النموذج المعين.
تستلزم كل حقبة مختلفة نموذجاً رياضياتيا مختلفا يتسم بانخفاض تدريجي لعدد التناظرات. أي إنّ معظم هذه النماذج – نوعا ما- تتضمن بعضها البعض، مثل مجموعة الدمى الروسية.
ولعل أحد المرشحين لتأدية دور الدمية الكبرى، أي النظرية الموحدة العظمى التي تضم معظم النظريات، هو نموذج معروف بنموذج الدوران المغزلي (10)، ولديه عدد ضخم من التناظرات تعادل 45 تناظرا. وفي إحدى المعادلات، يقع نموذج باتي-سلام Pati-Salam model، وفيه 21 تناظراً. ثم يأتي نموذج تناظر اليمين-اليسار Left-right symmetric model، وفيه 15 تناظراً أحدها معروف بتناظر التكافؤ Parity. وهو من أشكال تناظر اليمين-اليسار التي تصادفنا عندما ننظر إلى المرأة. وفي نهاية المطاف توصلنا إلى النموذج القياسي وفيه 12 تناظراً. وما يدفعنا إلى دراسة معظم هذه النماذج هو صحتها؛ فتناظراتها تتسق تماماً مع الأدلة التجريبية. غير أننا لم نفهم قطُّ ما الذي يحدِّدُ أيَّ التناظرات تختفي في كل مرحلة من المراحل.
في أغسطس 2022، استطاعت فيوري، بالتعاون مع ميا هيوز Mia Hughes من جامعة إمبريال كوليدج لندن، أن تبين للمرة الأولى أنّ القسمة الجبرية، ومن ضمنه نظام الأكتونيون، قد يزودنا بهذه الصلة. وللقيام بذلك، استعانتا بأفكار فيوري التي طرحتها قبل بضع سنين لترجمة معظم التناظرات الرياضياتية وأوصاف الجسيمات الخاصة بنماذج مختلفة إلى لغة القسمة الجبرية. تقول فيوري: «استغرق الأمر وقتاً طويلاً»، إذ استلزمت هذه المهمة أن تستخدما جبر ديكسون Dixon algebra، وهو مجموعة من الأعداد التي تتيح الدمج بين رياضيات الأعداد الحقيقية والأعداد التخيلية والكواتيرنيون والأكتونيون، فأتت النتيجة على شكل نظام يصف مجموعة من الأكتونيونات المحددة بموجب الكواتيرنيونات، والتي هي محددة بمجموعة من الأعداد التخيلية المحددة بدورها بمجموعة من الأعداد الحقيقية. تقول هيوز: «إنه أشبه بوحش مجنون!»
هذا النظام قوي جداً؛ إذ أظهرت المعادلة الجديدة عن بعض الخصائص اللافتة للاهتمام في طبقات هذه الدمى الروسية (أي النظرية). فبعض الأعداد الواردة في معادلات الأعداد المركبة والكواتيرنيون والأكتونيون، تغيرت قميتها من الموجبة إلى السالبة، والعكس صحيح، كذلك تغيرت بعض التناظرات ولم يتغير بعضها الآخر، والتناظرات الثابتة هي وحدها التي تظهر في الطبقة التالية. تقول فيوري: «ساعدنا ذلك على معرفة الصلات بين نماذج الجسيمات المدروسة جيدا، والتي لم تحظ سابقاً بفهم وإلمام كافيين». إنّ ما تسميه فيروي «انعكاس القسمة الجبرية» Division algebraic reflection قد يُملي ما نواجهه في الكون المادي الحقيقي، وربما يبين لنا مسار اختلال-التناظر وصولاً إلى النظرية الموحدة العظمى المنشودة.
إن النتيجة نتيجة جديدة، فلا تزال فيوري وهيوز عاجزتين عن معرفة ما تفضي إليه مستقبلاً، وتعلق هيوز قائلة: «ربما توحي النتائج باختلال التناظر الفيزيائي، تعتمد بطريقة معينة على هذه الانعكاسات الجبرية، إلا أن طبيعة تلك العملية لا تزال مبهمة وغامضة حتى الساعة».
وتشير فيوري إلى تأثير محتمل لهذه النتيجة على التجارب، فهي تقول: «إننا عاكفون حالياً على معرفة إن كانت القسمة الجبرية تخبرنا بما نعجز -أو نستطيع- حسابه مباشرة عند مستويات الطاقة المختلفة». ولا تزال الأبحاث جارية، لكن تحليل الانعكاسات يشير ربما إلى قدرة الفيزيائيين على إجراء مجموعة من الحسابات (القياسات) على الجسيمات في مستويات الطاقة المنخفضة- مثل حساب دوران الإلكترون- ويشير كذلك إلى عجزهم عن إجراء حسابات أخرى مثل الشحنة اللونية للكواركات.
وقد أثار هذا البحث زوبعةً بين أوساط العلماء المشتغلين في مجال الأكتونيون؛ إذ يقول داف إنّ تكييف النموذج القياسي وفق لغة الأكتونيون نهج جديد إلى حد ما، ويضيف: «إذ تكللت هذه الطريقة بالنجاح، فسيكون أمراً عظيماً لنا، لذلك فهو يستحق التجربة». وسبق لعالمة الفيزياء كورين مانوغ Corinne Manogue – من جامعة ولاية أوريغون Oregon State University- أن أجرت أبحاثاً عديدة في مجال الأكتونيون طوال العقود الماضية، وهي تدرك أن الاهتمام به متأرجح بين مد وجزر، وتعلق قائلة: «يبدو الاهتمام في هذه اللحظة شديداً جداً، وهذا عائد، في نظري، إلى سمعة فيوري المرموقة والتأييد لأبحاثها».
ولا تقف التبصرات والأفكار المتعلقة بالأكتونيون عند هذا الحد؛ إذ تدور أبحاث بويل ودراساته في مجال غريب من الرياضيات يدعى «جبر جوردان الاستثنائي» Eexceptional Jordan algebra، والذي وضعه عالم الفيزياء الألماني باسكال جوردان Pascual Jordan في ثلاثينات القرن العشرين. متعاوناً آنذاك مع عالمين بارزين في نظرية الكم هما يوجين فيغنر Eugene Wigner وجون فون نيومان John von Neumann، وضع مجموعة من الخصائص الرياضياتية لنظرية الكم التي استعصت على التصنيف، وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالأكتونيون.
ولو تمحّص أحدهم بدقة وعمق في جبر جوردان الاستثنائي، لوجده مشتملاً على التركيبة الرياضياتية التي نستعين بها لوصف الزمكان الرباعي الأبعاد في نظرية آينشتاين. وإننا ندرك -منذ عقود طويلة- احتواء جبر جوردان الاستثنائي على تركيبة رياضياتية مشتقةٍ من مسار وعملية منفصلتين عن بعضهما كلياً، عمل عليها في مطلع سبعينات القرن العشرين، وذلك لوصف الجسيمات والقوى في النموذج القياسي. بعبارة أخرى، إنّها صلة وصل أكتونيونية بين نظرياتنا عن الزمن والمكان والجاذبية ونظرية الكم. وهنا يقول بويل: «أجدها ملاحظةً مدهشة ومثيرة وملهمة جداً».
وقد تعمّق بويل في أبحاثه واكتشف أمراً مثيراً للفضول عن أحد أنواع الجسيمات المعروف بالفرميونات- التي تشمل جسيمات معروفة مثل الكوراكات والإلكترونات. إذ وجد أنّها تتناسب مع لغة الأكتونيون. فالفرميونات تتسم بالخاصية الكيرالية Chiral؛ أي أن انعكاسات صورها المرآتية- يسميها الفيزيائيون تناظر التكافؤ- تبدو مختلفة عن بعضها البعض. وقد ألقى ذلك بمعضلة عند دمج الفيرمونات بنسخ الأوكتونيون للنموذج القياسي، إلا أن بويل وجد وسيلة لمعالجتها- وكان لها تأثير جانبي رائع. إن استعادة التناظر المرآتي- الذي اختل في النموذج القياسي- يتيح أيضاً لفيرميونات الأكتونيون أن تتناسب ضمن نموذج تناظر اليسار-اليمين، وهذه خطوة أخرى نحو إيجاد النظرية الموحدة العظمى.
ما بعد الانفجار الكبير
ربما تتجاوز طريقة التفكير هذه نطاق النظرية الموحدة العظمى، وتقودنا إلى إيجاد تفسير لنشأة الكون. وقد عكف بويل على البحث مع نيل توروك Neil Turok، زميله في معهد بيريميتر، فيما يدعونه «كوناً من طبقتين» Two-sheeted universe ينطوي على مجموعة من التناظرات المعروفة بالشحنة والتكافؤ والزمن، أو ما يدعى اختصاراً بالتناظر CPT. يقول بويل: «إن الانفجار الكبير في هذه الفرضية أشبه ما يكون بمرآة تفصل نصف كوننا عن صورته المعكوسة وفق التناظر CPT في الجهة الآخرى من الانفجار». وقد تبيَّن أن خصائص الأكتونيون للفرميونات في نموذج تناظر اليسار-اليمين مهمة جداً في صياغة وتطوير نظرية متماسكة عن الكون، يقول بويل: «إنني أظن أن الجمع بين صورة الأكتونيون وبين صورة الكون ذي الطبقتين خطوة متقدمة في مسارنا نحو إيجاد الإطار الرياضياتي الصحيح لوصف الطبيعة».
وعلى غرار معظم الاكتشافات التي تربط الأكتونيونات بالنظريات الفيزيائية، فإن أبحاث بويل ليست إلّا محض أفكار ملهِمة! فما من أحدٍ استطاع حتى الآن أن يضع نظرية فيزيائية متكاملة الأركان أساسها الأكتونيونات، وتأتي بتنبؤات جديدة يسعنا اختبارها، مثلاً، بمصادم الجسيمات. يقول داف: «لا نتائج ملموسة حتى الساعة، فليس لدينا ما يدفعنا إلى إعلام العلماء التجربيين بالبحث عنه». وتقرّ فيوري كلامه: «حريّ بنا القول إنّ أبحاثنا لا تزال بعيدة عن الانتهاء كل البعد».
لا يزال بويل وفيوري وهيوز وعلماء آخرون منهمكين في دراسة الاحتمال بأن تكون هذه الرياضيات الغريبة هي أفضل وسائلنا لفهم أصل ونشأة قوى الطبيعة. ويرى بويل أنّ هذا النهج القائم على الأكتونيونات شبيهة قد يكون مثمرا مثل التجارب الجديدة لاكتشاف جسميات جديدة. يقول بويل: «يتخيل معظم النّاس أن أساس التقدم مستقبلاً هو اكتشاف قطع جديدة من الأحجية ووضعها أمام طاولة البحث؛ سيكون هذا الأمر عظيماً إن حصل، إلا أنّنا لم ننتهِ بعد من تجميع القطع التي بحوزتنا فعليا».
بقلم مايكل بروكس
ترجمة سومر عادلة
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.