كيف للفضول أن يحسِّن من أداء عقلك ويعزِّز من فرص نجاحك
يمكن للفضول أن يحسن من ذاكرتك وينمي إبداعك، مما يجعل تفكيرك أكثر دقة؛ لكن في الوقت نفسه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى التشتت والتسويف؛ السر هنا هو معرفة متى تستخدم الفضول وكيف
في العام 1626، وخلال شهر أبريل حيث تساقطت الثلوج، كان فرانسيس بيكون Francis Bacon، أحد الفلاسفة ورواد المنهج العلمي، يتجول على حصانه في شوارع لندن التي غمرتها الثلوج عندما خطر في باله سؤال غريب: هل يمكن للبرد أن يحفظ دجاجة ميتة؟ بعد أن اشترى دجاجة من منزل قريب، شرع في حشوها بالثلج. وفي هذه الأثناء أصابته الإنفلونزا وسرعانَ ما تبعه الالتهاب الرئوي ثم الموت.
هذه على الأرجح قصة مفبركة نشرها الفيلسوف توماس هوبز Thomas Hobbes، لكنه يشير من خلالها إلى وجهين للفضول: الفضيلة والرذيلة. يعد الفضول القوة الدافعة وراء العلم والاكتشاف. وبغض النظر عن أوجه الفضول، فقد كان له كثير من الفضل في نجاح نوعنا Species وتطوير ذكائنا. كما يمكن أن يصبح الفضول نعمة لبعضنا، حين يقودنا نحو حياة مفعمة بالشغف والسعي إلى تحقيق الأهداف. فكِّرْ في أشخاص شديدي الفضول مثل ليوناردو دافينشي Leonardo daVinci.
لكن «شهوة العقل» The lust of the mind، طبقاً لوصف هوبز للفضول، تتحول إلى رذيلة عندما تؤدي بنا إلى إضاعة الوقت في مشاهدة الأخبار المزيفة، أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، أو السعي وراء تجارب خطيرة، مثل القفز بالمظلة من فوق الأماكن العالية، لأننا ببساطة نريد تجربة ذلك الشعور. يمكن أن تنتهي هذه التجارب بنحو سيئ؛ فقط تذكر أن الفضول قتل القطة.
نظراً إلى أن عالمنا الحديث زاخر بكثير من هذه التصرفات الخطرة، سيكون من الجيد معرفة كيف نستفيد من فضولنا وكيف نتجنب عيوبه. وتسعى الأبحاث الأخيرة حول طبيعة الفضول ذات الحدين لإنقاذنا. لم يكتفِ البحث بتسليط الضوء على فوائد الفضول المتعددة في مجال التعلم والإبداع، بل يناقش البحث أيضاً الأسباب التي قد تؤدي بنا إلى الانجراف عن المسار الصحيح، ولم يتعين علينا أحياناً أن نسعى إلى كبح فضولنا.
على الرغم من أن الفضول حالة نفسية معقدة بلا شك، فإن معظم الباحثين يصفونه بصورة عامة بأنه الدافع إلى معرفة الأشياء وجمع المعلومات عن العالم، وهو أمر تفعله جميع الكائنات الحية. تقول عالمة الأعصاب المعرفية جاكلين غوتليب Jacqueline Gottlieb من جامعة كولومبيا Columbia University في نيويورك: «إن المعلومات أساسية للحياة مثل الطاقة تماماً. فالديدان الأسطوانية Nematode worm أو الأميبا Amoeba التي تحاول جمع معلومات عن بيئتها، مثل أماكن الطعام، تُظهر نوعاً من أنواع الفضول، حتى لو كان نوعاً محدوداً جداً وفورياً».
قد يصبح الفضول لدى بعض البشر، البارزين «الباحثين عن المعلومات» على كوكب الأرض، أكثر اتساعاً وانفتاحاً وقوة. ولكن حتى في أبسط مستويات الفضول وعند البحث عن المعلومات تقودنا رغبتنا في مجابهة عدم اليقين، وذلك من خلال البحث عن أنماط ذات مغزى في محيطنا.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أهمية ذلك بنحو خاص عند الأطفال الرضع والصغار الذين يبحرون بشجاعة في عالمهم الجديد. ابتكرت سيليست كيد Celeste Kidd، عالمة النفس بجامعة كاليفورنيا University of California، بيركلي، سلسلة من المشاهد المرئية التي يمكن التنبؤ بمحتواها بنسب متفاوتة. أظهرت هذه الفيديوهات قطعاً مختلفة، مثل لعبة سيارة الإطفاء، يُعمَد إلى إخفائها لحظات بواسطة شاشة تسقط وتُرفع أمامها على نحو متكرر. في كل مرة تُرفع فيها الشاشة، تكون القطع موجودة باحتمالات معينة. وفي بعض الحالات، كانت القطع موجودة دائماً تقريباً مما جعل سلسلة المشاهد قابلة للتنبؤ بنسبة كبيرة. لكن في أحيان أخرى، كانت فرصة ظهور القطع مرة أخرى أكثر عشوائية، مما جعل إمكانية التنبؤ منخفضة نسبياً. وفي حالات أخرى كانت نسبة احتمال ظهور القطع إلى عدم ظهورها 50:50.
أقدمت كيد لاحقاً على قياس معدل انتباه المشاركين باستخدام أدوات تتبع العين لمعرفة إلامَ ينظرون. في الأطفال الذين تبلغ أعمارهم نحو 7 أشهر، وجدت أن سلسلة المشاهد التي يمكن التنبؤ بها بصورة متوسطة أثارت الاستكشاف المرئي بصورة أكبر من التسلسلات العشوائية أو المربكة التي لا يمكن التنبؤ بها.
تصف كيد هذه المساحة اللطيفة بين القدرة على التنبؤ وعدم اليقين بـ«تأثير مبدأ الاعتدال» Goldilocks effect، وهو أمر منطقي، لأن المواقف التي لا يمكن التنبؤ بها نسبياً، ولكنها في الوقت نفسه ليست عشوائية تماماً، هي التي تمنحنا الفرص الأكثر نفعاً لنتعلم شيئاً ما عن العالم من حولنا. على سبيل المثال، الأعراف الاجتماعية للسلوك تميل إلى اتباع بعض القواعد العادية، ولكن بتباين كبير. كما أن الفضول حول تلك التسلسلات غير المنتظمة سيسهل البحث عند التعرض لمواقف مماثلة في المستقبل.
في يوليو هذا العام، لاحظت كيد الأنماط نفسها في نسانيس المكاك الريسوسي Rhesus macaque. تقول كيد: «يبدو أن لدينا بداخلنا هذه الآلية التي تبحث عن المعلومات التي تمتاز بالقدر المناسب من عدم اليقين حتى نتمكن من دمجها مع فهمنا الحالي للعالم».عندما نتقدم في العمر، ينصب اهتمامنا على ما هو أكثر بكثير من البيئة المحيطة بنا. قد نصبح بالطبع مفتونين بشدة بالموضوعات المجردة، مثل الرياضيات أو الفلسفة. لكن في كثير من الأحيان، قد يكون لما نحن فضوليون بشأنه القليل من الفائدة الحقيقية في حياتنا. تقول غوتليب: «إننا نقضي كثيراً من الوقت في الحصول على المعلومات التي لا نعرف قيمتها». عادةً ما تكون أفضل طريقة لقياس هذا الاهتمام هو سؤال الناس مباشرة عن مدى شعورهم بالفضول لتعلُّم حقيقة ما أو موضوع معين.
وفقاً لإحدى النظريات المهمة، نحن نشعر بالفضول بنحو خاص عندما نواجه «فجوة معلوماتية»، عند التعامل مع أمر غامض أو نواجه سؤالاً لم تتحقق الإجابة عنه. تماماً كما كان من الضروري أن يكون لدى الأطفال قدر معتدل من التنبؤ وعدم اليقين بداخلهم عند رؤية المشاهد كي تستطيع جذب انتباههم، فإن حجم الفجوة المعلوماتية مهم جداً. إذا كان حجم الفجوة المعلوماتية كبيراً جداً، فسيصبح السؤال أو الموضوع مستعصي الفهم ومرهقاً؛ وإن كانت الفجوة صغيرة جداً، سيكون من الأفضل تجاهل التفاصيل ذات الصلة بالموضوع. نحن أكثر فضولاً بشأن الأشياء التي تقع في المنتصف؛ شيء مفاجئ ومفيد، ولكنه ليس غريباً تماماً.
سيكون إيجاد هذا التوازن أمراً بالغ الأهمية للمتعلمين والمعلمين. أظهرت عديد من الدراسات أنه كلما زاد فضول الناس للحصول على إجابة عن سؤال تافه، تذكروا الإجابة بنحو أفضل. اكتشف ماثياس غروبر Matthias Gruber من جامعة كارديف Cardiff University بالمملكة المتحدة أسباب ذلك من خلال عرض حقائق مختلفة على بعض الأشخاص ثم سؤالهم عما أثار فضولهم حولها، وراقب النتائج من خلال ماسح للدماغ Brain scanner.
في نموذج غروبر يبدأ الفضول الإنساني بنوع من عدم اليقين أو فجوة معلوماتية مما ينشط الحُصين Hippocampus الذي يرصد المحفزات Stimuli الجديدة بجانب دوره في الذاكرة، كما تنشط القشرة الحزامية الأمامية Anterior cingulate cortex التي تراقب عدم التطابق المعلوماتي في الدماغ. ثم يُجري الدماغ تقييماً سريعاً: هل سيكون من المجدي أن يملأ هذا الفراغ المعلوماتي أو لا؟ تظهر تلك العملية كنشاط في قشرة الفص الجبهي Prefrontal cortex.
توضح هذه الخطوة الأخيرة الاختلاف الأكبر بين الأشخاص. يقول غروبر: «يمكن أن تثير المحفزات نفسها درجات مختلفة من الفضول، أولا تثيره على الإطلاق، وقد لا يشعر بعض الأشخاص بالقلق حتى بشأن عدم اليقين أو عند التعامل مع شيء جديد».
إذا كانت نتيجة هذا التقييم الذي يجريه الدماغ إيجابية، أي يجب ملءُ الفراغ المعلوماتي، فإننا ندخل في حالة من الفضول تعمل على تنشيط دائرة الدوبامين Dopaminergic circuit، المتعلق بمعالجة المكافآت Reward processing والذاكرة Memory في الدماغ. تعمل هذه العملية أيضاً على تمييز المعلومات التي تعاملت معها عندما كنت فضولياً بكونها مهمة بنحو ما، مما يساعد على تكوين ذكريات أقوى. طبقاً لغروبر: «يحفز الفضول فرز الدوبامين إضافة إلى تحفيز الحُصين مما يُعِد الدماغ للتعلم وخلق ذكريات طويلة المدى».
كما وجد من خلال بحثه ذلك أن هذه الفوائد تشمل المعلومات العرضية الأخرى التي تقدم في الوقت نفسه مع الأشياء التي أثارت فضولهم. فإذا عُرضت على المشاركين معلومة ما أثارت فضولهم، إضافة إلى صورة وجه، على سبيل المثال، ستزداد فرص تعرفهم على هذا الشخص لاحقاً، على الرغم من أنه لا علاقة له بالمعلومة التي أثارت اهتمامهم أولاً.
التسويف والأخبار الكاذبة
إضافةً إلى تحسين الذاكرة، قد يقودنا الفضول أيضاً إلى الإبداع؛ تشير دراسات مختلفة إلى أن السمتين مترابطتان بطريقة ما. لا يزال الرابط السببي محلاً للتساؤل، لكن قد يقودنا الفضول إلى الإبداع، وذلك من خلال تحفيزنا على جمع المعلومات واستكشاف أشياء جديدة؛ مما يجعلنا أكثر عرضة لمواجهة حقائق وأفكار وطرق مختلفة للتفكير قد تمنحنا رؤى أو حلولاً جديدة للمشكلات المزعجة.
قد تعتقد أنه مع احتمال وجود ذاكرة فائقة وجو مناسب للابتكار، سيصبح أمر تنمية فضولك سهلاً لا يحتاج إلى التفكير؛ لكن عديداً من التجارب أظهرت بعضاً من الجوانب السلبية.
الجانب الأكثر وضوحاً هو الإلهاء وإضاعة الوقت. العناوين المضللة مثل «لن تصدق ما حدث بعد ذلك!»، تستغل الفجوات المعلوماتية. وبالنسبة إلى عديد من الأشخاص، فإن الرغبة في سد هذه الفجوات قد تكون قوية جداً إلى درجة أنهم لا يستطيعون مقاومة النقر على تلك العناوين، حتى لو لم يكن الموضوع ذا أهمية فعلية أو يحوي معلومات غير جديرة بالثقة.
لاستكشاف هذه الظاهرة، طوَّر علماء النفس طرقاً لقياس رغباتنا في سد الفجوات المعلوماتية. إحدى الأدوات الشائعة هي عمل استبانة، حيث يُطلب إليك تقييم مجموعة من الجمل مثل «أصبح مهووساً عند مواجهة المشكلات التي أشعر بأنه يجب عليَّ حلها»، وهو شعور يحفزه الفضول حول الإجابة المحتملة على الأرجح.
قد تكون لهذه المشاعر دلالة خطرة؛ في دراسةٍ نُشرت في يونيو هذا العام من قِبل كلير زيديليوس Claire Zedelius – من جامعة كاليفورنيا University of California، في سانتا باربرا – وزملائها، وُجد أن الأشخاص الذين لديهم ميول أكبر لهذه المشاعر، أكثر عرضة لأن تصبح نسبة المعرفة العامة لديهم أسوأ. كما أظهروا تقبلاً أكبر للأخبار الكاذبة وغيرها من أشكال «الهراء». إضافة إلى ذلك، كانوا أكثر قابلية لتصديق قصص ملفقة مثل طائرة «اختفت وهبطت بعد 37 عاماً»، أو أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد اعتُقل بتهمة التجسس. علاوة على ذلك، كانوا أكثر ميلاً للقول بأنهم وجدوا معنى في العبارات شديدة الزيف مثل «الانتباه والنية هما آليات التجلي»، وهي عبارات بلا معنى منطقي على الإطلاق. بوجه عام فإن المشاركين الذين أظهروا رغبة كبيرة في حل الأسئلة التي لم تحدث الإجابة عنها، لم يكونوا انتقائيين بما يكفي بشأن المعلومات التي يرغبون في التعامل معها.
خمسة أبعاد للفضول
لقد دفعت مثلُ هذه التعقيدات بعض الباحثين إلى البحث عن نهج أكثر دقة، يأخذ في الاعتبار الطرق العديدة التي تتجلى من خلالها «شهوة العقل» لدى هوبز. استطاع تود كاشدان Todd Kashdan، عالم نفس في جامعة جورج ميسون George Mason University في فرجينيا، من تمهيد الطريق للآخرين من خلال تطوير نموذج يأخذ في الاعتبار خمسة «أبعاد» Dimensions تشكل فضولنا.
أول هذه الأبعاد هو «حساسية الحرمان» Deprivation sensitivity، وهي تلك الحالة الذهنية التي تشبه الحكة عندما نواجه فجوة معلوماتية، أي الحاجة الشديدة إلى معرفة إجابة قد تقودنا إلى حل المشكلات والألغاز. ثانياً، «الاستكشاف المبهج» Joyous exploration، وهو يصف الاهتمام على نطاق أوسع، أي تلك المتعة الحقيقية التي نشعر بها عند التعرف على مواضيع جديدة والتفكير في الأشياء بعمق.
يغطي هذان البعدان معاً الفضول المعرفي موضوع الدراسة النفسية التقليدية. لكن كاشدان يبحث فيما هو أبعد من ذلك. على سبيل المثال، هو يأخذ في الاعتبار أشياء مثل «تحمُّل الضغط» Stress tolerance أي قدرتك على «تحمل القلق الذي هو جزء طبيعي عند التعامل مع أشياء جديدة». مع مراعاة أن القلق قد يؤدي ببعض الأشخاص إلى الابتعاد عن المجهول، في حين يتعامل الآخرون مع هذه المشاعر بنحو أفضل. يقول: «في كثير من الأحيان، يرغب الناس في استكشاف شيء ما، لكنهم لا يشعرون بأنهم قادرون على التعامل مع ما ينطوي عليه ذلك».
يشير كاشدان أيضاً إلى أن «البحث عن الإثارة» Thrill-seeking يُعَد بعداً آخرَ في الفضول؛ سواء «كنت ستتعرض لمخاطر صحية أو مالية أو قانونية أو اجتماعية لاكتساب تجارب جديدة». فالشخص الذي يبحث بقوة عن الإثارة سيغتنم أي فرصة لفعل شيئ جديد. أما البعد الأخير فهو «الفضول الاجتماعي» Social curiosity والذي يتعلق باستعدادنا للتعلم من الآخرين.
يتضح الآن أن التمييز بين البعدين الأول والثاني هو أمر بالغ الأهمية لفهم التأثيرات الحقيقية للفضول، الجيدة منها والسيئة. أظهرت الدراسات حول الفضول والإبداع أن «الاستكشاف المبهج» يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإبداع بنسبة تتعدى ضعف نسبة «حساسية الحرمان». وفي الدراسات حول المعلومات المضللة التي أجرتها زيديليوس، كان الأشخاص ذوُو النسب الأعلى في حساسية الحرمان أكثر عرضة للوقوع في فخ الأخبار المزيفة والهراء، في حين أن أولئك الذين يتمتعون بالاستكشاف المبهج لم يكونوا عرضة لذلك.
يُظهر بحث كاشدان، الذي نُشر في العام 2020، أن هذه الأبعاد تؤثر بصور مختلفة في بيئة العمل. المستويات الأعلى من الاستكشاف المبهج وتحمل الضغط تظهر مؤشرات أفضل للابتكار في العمل، في حين أدى مزيج من تحمل الضغط والفضول الاجتماعي العالي إلى قدر كبير من المشاركة العامة في بيئة العمل والرضا الوظيفي. وقد أظهر البحث أيضاً أنه يمكن تقسيم الناس بصورة عامة إلى أربع مجموعات فرعية وَفقاً لنسبة الأبعاد المختلفة لديهم.
يقول كاشدان: «يعتمد جزء كبير من هذا الأمر على المزاج». لكن ذلك لا يعني أنه لا يمكنك محاولة تعزيز فضولك بصورة عامة، والاستكشاف المبهج على وجه الخصوص. نظراً إلى أنك تقرأ هذه المجلة، فأنت تضطلع بالفعل بأحد أهم الأشياء: تقرأ عن الأفكار الجديدة التي قد تحفزك على اكتشاف مزيد ومزيد؛ استمرْ في فعل ذلك، في حين توسع وتحسن من قدرات فضولك. يمكنك تجربة أطعمة جديدة أو الاستماع إلى موسيقى جديدة أو مشاهدة برنامج تلفزيوني جديد أو بودكاست أو زيارة مدينة جديدة. تحدث إلى الناس واطرح عليهم أسئلة.
وهكذا يمكنك اغتنام هذه الفرص لتصبح أكثر تسامحاً تجاه عدم اليقين المرتبط بطبيعته باستكشاف الموضوعات غير المألوفة وتجربة أشياء جديدة. قد تحاول أيضاً التغلب على الإحراج المصاحب لإظهار جهلك أمام الناس، كما يقترح كيد: «أنت في حاجة إلى أن تكون أكثر تسامحاً مع حقيقة جهلك ببعض الأشياء، خاصة في المجال الاجتماعي، وأن تشعر بالراحة عندما تقول: ’لا أفهم ما تقصده‘ أو ’لا أعرف كيف أفعل ذلك‘».
إذا كنتَ تشعر بالقلق حيال المجهول، ونتيجة لذلك تتحاشاه، فيمكنك أن تحاول إعادة صياغة تلك المشاعر على أنها تجربة مثيرة واعتبار جهلك فرصة للنمو. كما يشير غروبر، يمكن للنظرة الإيجابية أن تُحدث فرقاً كبيراً في الفضول الذي يشعر به الشخص ويعبِّر عنه.
ما دُمتَ على دراية باحتمال الإلهاء وواثق بأنك تغذي فضولك بمصادر غنية فكرياً ومحفِّزة، بدلاً من الأخبار المزيفة والعناوين المضللة، فستقودك تلك الخطوات إلى مزيد من السعادة والإنجاز. يقول كاشدان: «الحياة الجيدة، كما جادل معظم الفلاسفة، عليك أن تبدأ بمعرفة نفسك وفهم قيمك وميولك، وما يجعلك مميزاً بشخصك. يمهد الفضول طرقاً كثيرة قد تقودك فعلاً إلى فهم مصادرك الرئيسة عن المعنى والغرض من الحياة».
ثم إن للفضول قدرةً على أخذنا نحو طرق مظلمة ومسببة للاكتئاب؛ مما قد يكون ذا آثارٍ ضارة خاصة عند التعامل مع المواقف الصعبة مثل جائحة كوفيد 19.
لماذا نُقدِم على التصفح السلبي؟
إن رغبتنا في معرفة متى سنواجه حالة من عدم اليقين يمكن أن تتحول إلى حالة مرَضية، مما سيقودنا إلى أماكن مظلمة ومؤلمة.
في دراسة نُشرت في العام 2016، وُضعت أمام عدد من الأشخاص مجموعةٌ من الأقلام الملونة وأُخبروا أن بعض الألوان قد تسبب صدمة كهربائية عند النقر عليها، والبعض الآخر لن يسبب صدمة كهربائية وهناك مجموعة قد تسبب أو لا تسبب صدمة كهربائية. عند ترك الأشخاص وحدهم، نقر عدد كبير من الأشخاص فوق الألوان غير المؤكدة لاكتشاف الحقيقة. كانوا على استعداد التعرض لصدمة كهربائية لحل حالة عدم اليقين.
كما يكشف حبنا لأفلام الرعب وبرامج الجريمة المروعة عن فضولنا بشأن الأشياء غير السارة. وجدت سوزان أوسترويك Suzanne Oosterwijk من جامعة أمستردام University of Amsterdam في هولندا أن الناس عادة يفضلون النظر إلى الصور السلبية التي تصور الدماء أو الموت على الصور المحايدة، وأن عرض المحتوى السلبي قد يؤدي إلى تنشيط دوائر المكافآت Reward circuits في الدماغ.
قد يكون لهذه الرغبات غرض عند حد معتدل. تقول أوسترويك: «يمكن أن يساعدنا الفضول المرَضي على الاستعداد عقلياً للأشياء السيئة إذا حدثت لنا». ومع ذلك، في بعض الحالات المتطرفة، قد يقودنا الفضول إلى تصفح سلبي قهري ومن المحتمل أن يكون ضاراً، وسنتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بلا نهاية بحثاً عن القصص التي يمكن أن تتركنا قلقين ومكتئبين.
أصبحت هذه القضية مهمة بنحو خاص خلال العامين الأولين من جائحة كوفيد 19. كان الناس فضوليين جداً بشأن كوفيد 19، ووجدت الدراسات الاستقصائية أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة الأخبار المتعلقة بفيروس كورونا بقدر كبير يزيدان من الضغط النفسي. إن قضاء بضع دقائق فقط في تصفح الأخبار السلبية المتعلقة بفيروس كورونا، مثل تصفح الحسابات الخاصة بفيروس كورونا على تويتر، أو مشاهدة مقاطع الفيديو المرتبطة بالموضوع على اليوتيوب، يزيد من المشاعر السلبية ويضر بالصحة العامة، على الرغم من أنه يمكن تعويض هذه التأثيرات إلى حد ما عن طريق مشاهدة الأخبار الجيدة.
ما نوع الفضول الخاص بك؟
اقترح عالم النفس تود كاشدان من جامعة جورج ميسون في فيرجينيا أخيراً وجود خمسة أبعاد للفضول، يعكس كل منها طرقاً مختلفة نختبر بها اهتمامنا بالعالم: هي حساسية الحرمان (الحاجة إلى إيجاد إجابات لأسئلة محددة)، والاستكشاف المبهج (حب عام للتعلم)، وتحمل الضغط (القدرة على تحمل القلق الذي يثيره المجهول)، والبحث عن الإثارة (الرغبة في خوض المخاطر للحصول على تجارب جديدة) والفضول الاجتماعي (الاهتمام بالتعلم من الآخرين).
من خلال تطبيق هذا النموذج على 3000 مشارك في الاستطلاع، حدد كاشدان أربع فئات للفضول وفقاً لمعدل هذه الأبعاد. ما يقرب من %28 من الأشخاص يوصفون بأنهم «مفتونون»، فهم يتمتعون بدرجة عالية من الاستكشاف المبهج وتحمل الضغط، ويقرؤون معظم المجلات والمواقع الإلكترونية، ولديهم قدر كبير من المشاعر والأصدقاء، ويُدرُّون كثيراً من المال.
ونحو %28 آخرين، «يحلون المشكلات»، حيث يتمتعون بدرجات أعلى من غيرهم من الأشخاص فيما يتعلق بحساسية الحرمان، إضافةً إلى تحمل الضغط وانخفاض الفضول الاجتماعي. يفضل هذا النوع حل الكلمات المتقاطعة بدلاً من سؤال شخص ما عن حياته، لكن يمكنهم توجيه فضولهم إلى اهتمامات محددة بقوة كبيرة.
وهناك «المتعاطفون»، الذين يشكلون %25 من الناس، لديهم مستويات عالية من الفضول الاجتماعي، ولكن مستويات منخفضة من تحمل الضغط والبحث عن الإثارة. وهم الأكثر لطفاً من بين فئات الفضول، على الأرجح يكون المتعاطفون من النساء وعادة ما تكون لديهم شبكات اجتماعية كبيرة عبر الإنترنت.
وتعرف المجموعة الأصغر والتي تبلغ %19 فقط، باسم «المتجنبون»، نظراً إلى أن لديهم معدلات منخفضة جداً مقارنة ببقية الفئات في جميع الأبعاد (باستثناء الفضول الاجتماعي، الذي يوجد بصورة أقل في فئة من يحلون المشكلات). غالباً حصل المتجنبون على تعليم أقل، ولديهم عواطف ضحلة، ودوائر اجتماعية أصغر ويحققون أقل قدر من المال.
هل الأطفال فضوليون أكثر من البالغين؟
يتجلى الفضول البشري في تفاعلاتنا الأولى؛ يستكشف الأطفال العالم من حولهم باهتمام، وبمجرد أن يتمكنوا من إمساك الأشياء أو الزحف أو المشي، سوف يبحثون بنهمٍ عن معلومات جديدة بأي وسيلة ممكنة. تقول عالمة النفس تانيا لومبروزو Tania Lombrozoمن جامعة برينستون Princeton University، والتي تدرس الفضول في مرحلة الطفولة أن هذا الاستكشاف الذي يحفزه الفضول موجَّه نحو اكتشاف كيفية عمل الأشياء أو الغرض منها. ثم لا يكاد الأطفال يتمكنون من التحدث، حتى يصبح في إمكانهم البدء في الاستفادة من معرفة الآخرين. تقول لومبروزو: «يبدأ الأطفال في طرح أسئلة ’لماذا؟‘ بمجرد أن يتعلموا اللغة اللازمة لذلك».
تقول الحكمة التقليدية إن فضولنا الفطري يُقتَل بسبب ملل المدرسة، ثم المتطلبات العملية لحياة البالغين. تقول لومبروزو إنه لا توجد أدلة كافية على ذلك؛ لكن يبدو أننا نُعبر عن فضولنا بنحو مختلف في حين نتقدم في العمر.
تقول لومبروز إنه مع تقدمنا في العمر، يتحول فضولنا الاستكشافي الواسع إلى نوع أكثر تحديداً موجهاً نحو اكتساب المعلومات حول هدف معين. وتقول: «بصفتنا بالغين، عندما يتعين علينا تحقيق أنواع معينة من الأهداف، فإننا نصب اهتمامنا كله عليها على الفور».
أحد الجوانب السلبية لذلك هو أن أفكارنا تصبح جامدة وثابتة جداً في بعض الأحيان، مما يحد من إبداعنا. تقول لومبروزو: «يميل البالغون إلى النظر إلى بعض الأشياء، كالصندوق على سبيل المثال، بحسب وظيفتها الأساسية فقط، مثل تخزين الأشياء، ويميلون إلى التفكير في استخدامه بطرق اعتيادية. لكن في بعض الأحيان قد يلزم استخدام الأشياء بطريقة غير اعتيادية لحل مشكلة ما. واتضح أن الأطفال يتفوقون على البالغين في هذه الأنواع من الألغاز أحياناً».
السر إذن، هو أن تظل مرحاً ومبدعاً بفضول.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.