أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
ملف خاص

الرياضيات أفضل أداة لدينا لوصف الكون …لكنها قد تكون عرضة للخطأ

قوانين الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات. لكن الرياضيات نفسها يمكن الاعتماد عليها فقط بمقدار ما يمكن الاعتماد على البديهيات التي بنيت عليها، وعلينا أن نفترض أن تلك البديهيات صحيحة

بقلم مايكل بروكس 

قد تعتقد أن الرياضيات هي الشيء الأكثر موثوقية مما توصل إليه البشر على الإطلاق. فهي أساس الصرامة العلمية وأساس الكثير من معارفنا الأخرى أيضاً. وقد تكون محقاً بهذا. ولكن كُـنْ حذرا: فالرياضيات ليست كما تبدو تماماً. «إن مصداقية الرياضيات محدودة». كما تقول بينيلوبي مادي Penelope Maddy فيلسوفة الرياضيات من جامعة كاليفورنيا University of California، في إرفاين Irvine. 

وليست مادي من أنصار نظرية المؤامرة. كما أن معظم علماء الرياضيات يعرفون أن كلامها صحيح لأن مجال الرياضيات مبني على بديهيات Axioms. ومهما يحاولوا، لن يتمكنوا أبداً من إثبات صحة هذه البديهيات. 

البديهيات في الأساس افتراضٌ مبني على ملاحظات رصدية حول طبيعة الأشياء. يلاحظ العلماء ظاهرة ما، ويصفونها في معادلات، وبناء على ذلك يكتبون قانوناً للطبيعة. بطريقة مماثلة، يستخدم علماء الرياضيات ملاحظاتهم لإنشاء البديهيات. أحد الأمثلة على ذلك هو ملاحظة أنه يبدو دائماً أن هناك خطاً مستقيماً فريداً يمكن رسمه بين نقطتين. إن افترضت أن هذا صحيح عالمياً، يمكنك وضع قواعد الهندسة الإقليدية Euclidean geometry. ومثال آخر هو أن 1 + 2 هو نفس 2 + 1، وهو افتراض يسمح لنا بإجراء العمليات الحسابية. تقول عالمة الرياضيات فيرا فيشر Vera Fischer من جامعة فيينا University of Vienna في النمسا: «حقيقة أن الرياضيات مبنية على بديهيات لا يمكن إثباتها هي في الواقع أمر غير مفاجئ».

قد تبدو هذه البديهيات أنها واضحة ضمنيا، لكن الرياضيات تذهب إلى أبعد بكثير من مجرد الحساب Arithmetic. إذ يهدف علماء الرياضيات إلى الكشف عن أشياء مثل خصائص الأعداد Properties of numbers، والطرق التي ترتبط بها جميع الأعداد بعضها ببعض، وكيف يمكن استخدامها لنمذجة العالم الحقيقي. ولا يزال العلماء يحاولون تحقيق هذه المهام الأكثر تعقيداً من خلال النظريات والبراهين المبنية على البديهيات، لكنه قد ينبغي تغيير هذه البديهيات المعنية. مثلا، الخطوط التي تصل بين النقاط لها خصائص مختلفة على الأسطح المنحنية مقارنة بالأسطح المسطحة، مما يعني أن البديهيات الأساسية يجب أن تكون مختلفة باختلاف الشكل الهندسي. يجب علينا دائماً أن ننتبه لأن تكون بديهياتنا موثوقاً بها وتعكس العالَم الذي نحاول أن ننمذجه باستخدام الرياضيات.

نظرية المجموعات
المعيار الذهبي للموثوقية الرياضياتية هو نظرية المجموعة Set theory، والتي تصف خصائص مجموعات الأشياء، بما في ذلك الأعداد نفسها. ابتداءً من أوائل القرن العشرين، طور علماء الرياضيات مجموعة من البديهيات الأساسية لنظرية المجموعة المعروفة اختصارا نظرية ZFC (وهي اختصار لتسيرميلو- فرانكل Zermelo – Fraenkel، والمشتق من اسمي اثنين ممن بدؤوا تطويرها، وهما إيرنست تسيرميلو Ernst Zermelo وأبراهام فرانكل Abraham Fraenkel، إضافة إلى شيء يسمى «بديهية الاختيار» Axiom of choice).

وتوفر نظرية مجموعات ZFC أساساً قوياً. إذ تقول مادي: «إذا كان من الممكن ضمان أن النظرية ZFC نظرية متسقة Consistent، فيمكن تبديد كل الشكوك التي تدور حول الرياضيات». ولكن هذا مستحيل. وتقول: «للأسف، سرعان ما صار من الواضح أن اتساق تلك البديهيات أمر لا يمكن إثباته إلا من خلال افتراض بديهيات أقوى. وهو أمر يناقض الهدف الرئيسي أصلاً».

غير أن مادي غير منزعجة من الحدود، وتقول: «منذ مئة عام والعلماء النظريون يطورون نظريات مبنية على نظرية المجموعة دون أي أثر يشير إلى وجود ما يتناقض معها». وتستطرد قائلة إن نظرية المجموعات كانت مفيدة جدا، مما سمح لعلماء الرياضيات بإنتاج الكثير من النتائج المثيرة للاهتمام، بل تمكنوا حتى من تطوير مقاييس دقيقة رياضاتياً لمدى الثقة التي يمكننا وضعها في النظريات المستمدة من النظرية ZFC.

في المحصلة، قد يوفر علماء الرياضيات الأساس الذي يبنى عليه جزء كبير من المعرفة العلمية، لكنهم لا يستطيعون تقديم ضمانات قطعية بأنها ثابتة ولن تتحول أو تتغير أبداً. عموما، لا يقلق علماء الرياضيات من ذلك، فهم يهزّون أكتافهم بلا مبالاة ويعودون إلى العمل مثل أي شخص آخر. تقول فيشر: «إن احتمال الوصول إلى نظام بديهيات مثالي هو احتمال الوصول نفسه إلى فهم مثالي لكوننا المادي».

على الأقل، يدرك علماء الرياضيات تماما عدم جدوى السعي إلى الكمال، وذلك بفضل نظريات «عدم الاكتمال» Incompleteness التي وضعها كورت غودل Kurt Gödel في ثلاثينات القرن العشرين. وتُظهر هذه النظريات أنه في أي مجال من مجالات الرياضيات، ستولِّد النظرية المفيدة عبارات حول هذا المجال لا يمكن إثبات صحتها أو خطئها. لذلك لا مفر من وجود حد Limit للمعرفة الموثوق بها Reliable knowledge. «هذه حقيقة من حقائق الحياة التي تعلم علماء الرياضيات التعايش معها»، كما يقول ديفيد أسبيرو David Aspero من جامعة إيست أنجليا University of East Anglia في المملكة المتحدة.

عموما، لاتزال الرياضيات في وضعية جيدة على الرغم من ذلك – ولا أحد منزعج من هذا الأمر كثيراً. مثلا، تقول فيشر: «اذهب إلى أي قسم رياضيات وتحدث إلى أي شخص عدا علماء المنطق Logician، وسيخبرك: ’أوه، البديهيات موجودة ولا حاجة إلى الإكثار من التفكير‘. هذا كل ما في الأمر. وهذا ما يجب أن يكون عليه الأمر. وهذا نهج صحي جداً». في الواقع، الحدود هي ما يجعلها  أمراً ممتعاً بشكل أو بآخر، كما تقول. «إن إمكانية التطور، والتحسن، هي بالضبط ما يجعل الرياضيات موضوعاً رائعاً».

ما حجم اللانهاية؟
اللانهاية Infinity كبيرة بشكل لا نهائي، أليس كذلك؟ للأسف، الأمر ليس بهذه البساطة. فقد عرفنا منذ فترة طويلة أن هناك أحجاماً مختلفة من اللانهاية. في القرن التاسع عشر، أثبت عالم الرياضيات جورج كانتور Georg Cantor أن هناك نوعين من اللانهاية. «الأعداد الطبيعية» Natural numbers (1 و2 و3 إلى ما لا نهاية) هي لا نهاية قابلة للعد. ولكن بين كل عددين طبيعيين، هناك سلسلة متصلة من «الأعداد الحقيقية» Real numbers (مثل 1.234567… بأرقام تمتد إلى ما لا نهاية). وتبين أن لانهايات الأعداد الحقيقية هي لانهايات لا يمكن عدها. ومن ثم، بشكل عام، خلص كانتور إلى أن هناك نوعين من اللانهاية، يختلفان في الحجم.

في الحياة اليومية، لا نواجه أي شيء غير محدود أبداً. فعلينا أن نكتفي بالقول إن اللانهائي «يستمر إلى الأبد» دون أن ندرك حقاً ما يعنيه ذلك كمفهوم. فهذا مهم بالطبع لأن اللانهايات تظهر طوال الوقت في معادلات الفيزياء، وعلى الأخص في تلك التي تصف الانفجار الكبير Big bang والثقوب السوداء Black holes. ربما تكون قد توقعت أن يكون لدى علماء الرياضيات فهم أفضل لهذا المفهوم – لكنه لا يزال يصعب على الفهم.

هذا صحيح بشكل خاص عندما تعلم أن كانتور اقترح أنه قد يكون هناك حجم آخر من اللانهاية يقع بين النوعين اللذين حددهما، وهي فكرة تعرف بفرضية الاستمرارية Continuum hypothesis. تقليديا، ظن علماء الرياضيات أنه سيكون من المستحيل تحديد ما إذا كان هذا صحيحاً، لكن هناك أبحاثاً حديثة مبنية على أسس معادلات الرياضيات أظهرت أنه قد يكون هناك أمل في معرفة ما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا. 

© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى