أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
غير مصنف

تحديد الوقت

العلامات الزمنية الكربونية المشعة المطبوعة في حلقات الأشجار القديمة بفعل قصف الأشعة الكونية قد تستخدم في تأريخ الأحداث التاريخية بدقة غير مسبوقة

بقلم مايكل برايس

منذ ألف عام، وفقاً لملحمات الفايكنغ، أبحر البحارة الجريئون غرباً من غرينلاند إلى ساحل أطلقوا عليه اسم فينلاند. فهناك أقاموا المعسكرات وحصدوا العنب البري واشتبكوا مع السكان المحليين. وفي موقع آركيولوجي في مدينة ساحلية في نيوفاوندلاند يُدعى لانس أو ميدوز L’Anse aux Meadows، توجد بقايا هياكل متناثرة تشبه منازل الفايكنغ الطويلة Longhouses والقطع الأثرية مثل الدبابيس البرونزية والمسامير الحديدية توثق وجودهم في هذه المنطقة – ومن المحتمل أيضا أنهم كانوا أول أوروبيين تطأ أقدامهم أمريكا الشمالية. ومع ذلك، كان من المستحيل تحديد موعد وصول الفايكنغ إلى فينلاند بالضبط، إلى أن اكتشف الباحثون نوعاً من الطابع الزمني الكوني Cosmic timestamp يسبق وصولهم إليها.

في عام 2021، جمع كل من مارغوت كويتمس Margot Kuitems ومايكل دي Michael Dee من جامعة غرونينغن University of Groningen عينات من قطع من الأخشاب من منزل طويل بها حلقات شجرة واضحة ويغطيها لحاء سليم. كانت الآركيولوجية كويتمس وخبير الكربون المشع دي يأملان بالعثور على حلقة شجرة تحتوي كمية كبيرة بشكل غير عادي من الكربون 14 (14C): أي بمثابة توقيع (علامة) Signature لوابل من الجسيمات عالية الطاقة High-energy particles من الفضاء الخارجي المعروف أنها حدثت في نحو 993-94 م، وقد «كان ذلك تخميناً شديد الافتراضية»، كما يقول كويتمس. ولكن بعد تحليل 28 حلقة من اللحاء، وجدوا ارتفاع قمة في الشكل البياني Spike تشير إلى ارتفاع في كمية 14C: دليل مقنع على أن الفايكنغ قطعوا أشجار التنوب Fir والعرعر Juniper واستخدموها لبناء منازلهم التقليدية الطويلة في عام 1021م. وتقنية توقيت موطئ قدم الفايكنغ في لانس أو ميدوز تُبشِّر بثورة في الآركيولوجيا: قدرة اكتشفت حديثاً لتقليص تأريخ عمر القطع الأثرية الخشبية من عقود من الزمن إلى بضع سنوات لا أكثر. فقد تحقق الإنجاز الخارق الذي مهّـد الطريق لمثل هذه الدقة في عام 2012، عندما كشفت الفيزيائية اليابانية فوسا مياكي Fusa Miyake أن التدفق الهائل للأشعة الكونية تسبب في ارتفاع كبير في كمية الكربون 14C في حلقة شجرة تعود إلى 774-75 م. ومنذ ذلك الحين، عثر العلماء على ما لا يقل عن سبعة ارتفاعات مؤكدة أخرى، والمعروفة بأحداث مياكي Miyake events. ويعود أقدم ارتفاع مدعوم جيداً إلى عام 7176 ق.م.

والآن، توجِّه هذه المنارات الزمنية أعدادا متزايدة من العلماء أثناء عملهم على تحديد تاريخ المباني الأثرية القديمة والكوارث الطبيعية ونقاط التحول التاريخية الأخرى. يقول دي: «إذا تمكنا من تحديد التاريخ بعام محدّد بعينه، فيمكننا البدء بتحليل التاريخ المبكر، وربما حتى عصور ما قبل التاريخ، بنوع من الصرامة التي لم نتمكن في السابق من تطبيقها إلا على التاريخ الحديث».

تقول شارلوت بيرسون Charlotte Pearson، اختصاصية التأريخ الشجري Dendrochronologist وعالمة الكربون المشع Radiocarbon scientist في مختبر أبحاث حلقات الشجر Laboratory of Tree-Ring Research التابع لجامعة أريزونا University of Arizona، إن هذه التقنية «رائعة بشكل استثنائي… هذه لحظات ’يوريكا‘، ونحن على وشك الحصول على الكثير منها».

حتى الكُتّاب في أوائل العصور الوسطى وثّقوا الإشعاعات الكونية التي أنتجت أول حدث من أحداث مياكي. في عام 774 م، وثقّ السجل الأنجلوساكسوني Anglo-Saxon Chronicle – وهو عبارة عن مجموعة من المخطوطات التي تروي لحظات مهمة في التاريخ الأنجلوساكسوني – ظهور «صليب أحمر» Red crucifix في السماء بعد غروب الشمس. تكهن علماء الفلك بأن هذه المشاهدة ربما كانت عبارة عن غبار جوي ينثر الضوء من سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova قريب، أو ضوء من أضواء شفق قطبي Aurora borealis متلألأ بشكل خاص بفعل توهج شمسي Solar fl are ضخم.

في العام نفسه، على بعد آلاف الكيلومترات إلى الشرق، حيث كان الإمبراطور الياباني كونين Kōnin يصارع على خلافة العرش، كان شجر الأَرز الياباني Japanese cedar في جزيرة ياكو قبالة الساحل الجنوبي للبلاد يمتص ثاني أكسيد الكربون (CO2) عبر إبره القصيرة ذات الشعر الخشن. فقد حولت الشجرة بعض ثاني أكسيد الكربون إلى سكر وأودعته في الطبقة الخارجية من خشبها. مع قيام الإمبراطوريات وسقوطها، أضاف أشجار الأرز حلقة تلو أخرى من النمو السنوي – واستسلمت فقط في عام 1956 – بعمر جليل يقارب 1900عام أو نحو ذلك – لمجزات مديري غابات ياكو. وبعد نصف قرن، قطعت مياكي – التي كانت وقتها طالبة دراسات عليا في جامعة ناغويا Nagoya University – مقطعا عرضيا في جذع إحدى شجرات الأرز هذه.

وكانت كل حلقة من حلقاتها تحمل أثرا من الكربون 14C. إذ يتشكل النظير المشع Radioactive isotope باستمرار في الغلاف الجوي العلوي بفعل اصطدام الأشعة الكونية – جسيمات عالية الطاقة من الفضاء – مع جزيئات الغاز، مما يؤدي إلى إنتاج النيوترونات. عندما يطرد أحد هذه النيوترونات بروتوناً من ذرة نتروجين، ويتحول هذا النتروجين إلى الكربون 14C. ومع امتصاص النبات لثاني أكسيد الكربون أثناء التنفس، فإن شجر الأرز دمج الكربون 14C في خشبه.

تمتص جميع النباتات الخضراء الكربون 14C وتمررها إلى الحيوانات التي تقتات بها؛ ويمكن اكتشافه في الأحافير Fossils والأنسجة المحفوظة الأخرى التي تعود إلى عشرات الآلاف من السنين. ومعدل الاضمحلال Decay rate الذي يمكن التنبؤ به في الغالب هو أساس التأريخ القياسي للكربون المشع. باستخدام طرق مثل قياس الطيف الكتلي Mass spectrometry، يمكن للعلماء تحليل البقايا العضوية لتحديد مدى اضمحلال الكربون 14C منذ أن مات شكل الحياة الذي امتصه. بعد ذلك، يقارن العلماء هذه القيمة بقيم الكربون 14C في العناصر ذات العمر المعروف – والتي تؤرخ عادةً بناء على عدد حلقات الأشجار – مما يعطي عمرا تقريبيا للعينة يتراوح – في الظروف المثالية – بين بضعة عقود. (نظراً لأن عمر النصف للنظير Isotope half-life هو نحو 5,700 عام، فإن العينات التي تعود إلى ما قبل نحو 50 ألف عام تحتوي على كمية قليلة جداً لا تسمح بالتأريخ).

لكن مياكي لم تكن تحاول تحديد تأريخ عمر الشجرة. بل كانت تبحث عن ارتفاعات غير عادية (شاذة) في قيم الكربون 14C خلفتها أحداث طقس الفضاء العنيفة – التوهجات الشمسية، والانفجارات الأخرى من الشمس، والنجوم المتفجرة – التي تطلق زخات قصيرة ومكثفة بشكل استثنائي من الجسيمات عالية الطاقة.

وباستخدام التقنيات التي طورها جزئياً لوكاس واكر Lukas Wacker، الفيزيائي من جامعة زيورخ ETH Zürich، ركزت مياكي على فترة قرب نهاية القرن الثامن الميلادي، حيث اكتشف علماء الكربون المشع سابقاً ارتفاعا غير عادي. فعملت على حلقة تلو أخرى، وقطعت شرائح خشبية صغيرة من خشب الأرز وحلَّلتها باستخدام مطياف مُعجِّل (مُسرِّع) كتلة Accelerator mass spectrometer لتحديد نسبة الكربون 14C إلى نظائر الكربون المستقرة. في الحلقة المُعادلة للفترة 774-75 م، شهدت قفزة بنسبة 12% في الكربون 14C: أي بزيادة تعادل 20 ضعفا من تذبذبات الأشعة الكونية العادية. وأكدت فرق أخرى ارتفاعا مشابها في عينات من شجر بلوط ألماني German oak وشجر كوري Kauri tree النيوزيلندي.

في وقت لاحق من ذلك العام، نشرت مياكي وزملاؤها ورقة في دورية نيتشر Nature تعزو ارتفاع الكربون 14C إلى قصف هائل من الأشعة الكونية، ربما من الشمس أو من انفجار أشعة غاما Gamma ray burst من نجم بعيد. في عام 2013، اكتشفوا ارتفاعاً ثانياً حتى وإن كان أدنى قليلاً في مستويات الكربون 14C، في خشب أرز ياكو نفسه في الفترة الممتدة ما بين 993-94 م. وعندئذ أطلق علماء آخرون على هذه الظاهرة مصطلح أحداث مياكي.

عندما قرأ واكر عن ارتفاعات مياكي 774-75 م و993-94 م، تعرف على الإمكانات غير المستغلة لمنارات الكربون المشع Radiocarbon beacons. تدرب عليها أثناء إجراء أبحاث على كنيسة صغيرة في موستير بسويسرا، من المفترض أن بانيها هو الإمبراطور الروماني الأول شارلمان، في موقع نجا فيه هو وأتباعه من عاصفة ثلجية مروعة. وكان فريق آخر من العلماء قد أرّخ الكنيسة بالعام 785 م، وذلك باستخدام التحليل الدقيق لعرض Width حلقات الأشجار في عارضة خشبية – تشير الحلقات الأوسع غالباً إلى سنوات أكثر رطوبة – ثم مطابقة الأنماط بأخشاب أحدث من المنطقة حتى حصلوا على سجل غير منقطع يمتد من الحاضر ويعود وصلا إلى حقبة العارضة الخشبية.

كان واكر يعلم أنه إذا تمكن فريقه من العثور على ارتفاع في نسبة الكربون 14C من حدث 774-75 م مياكي في المقطع العرضي للخشب، فيمكنهم ببساطة عدّ الحلقات وصولا إلى الحافة الخارجية للحصول على تاريخ محدد. فقد فعلوا ذلك بالضبط، وأكدوا في عام 2014 تاريخ 785 م. تقول مياكي: «كان هذا عملاً رائداً… كنت سعيدة حقاً برؤية هذا النوع من التطبيقات أصبح ممكناً بسبب النتائج التي توصلنا إليها».

وبينما كان واكر يدرس كنيسة الصليب المقدس Holy Cross Chapel، بدأ دي وزملاؤه باستكشاف طرق أخرى قد تسلط بها أحداث مياكي الضوء على المسارات الزمنية التاريخية Historical timelines المشوشة أو التي غدت غامضة بفعل مرور الوقت. ويقول دي إن السجلات المكتوبة الموثوق بها – التي تسرد السنوات الدقيقة للإمبراطوريات والحروب، وسجلات المعاملات اليومية مثل سجلات للضرائب وإيصالات التجارة وسجلات المواليد والوفيات – تعود إلى نحو 2500 عام فقط، وفقط في المجتمعات التي احتفظت بسجلات مكتوبة. قد تساعد تواريخ الكربون المشع، بعدم اليقين المحيط بها والذي قد يمتد إلى عقود أو قرون، على إعادة بناء التاريخ في خطوط عريضة، لكن اللحظات التاريخية الحاسمة غالباً ما تحدث على فترات زمنية أقصر. يقول دي: «لا يمكن للمرء أن يفحص الأحداث السياسية في القرن العشرين إذا كنت قادرا على تمييز عقود من الزمن فقط… لو كانت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية قد وقعتها في عام 1914 قبل الميلاد. و1939 قبل الميلاد، لما كنا لنتمكن من التمييز بين هذين الأمرين».

في عام 2020، استخدمت كويتمس ودي هذه التقنية لتوضيح لغز قديم يحيط بالآثار المستطيلة في جزيرة ببحيرة في جنوب سيبيريا. فعلى الرغم من عقود من العمل الآركيولوجي، لم يعرف أحد على وجه اليقين كم عمر موقع بور-بازين Por-Bazhyn، أو من الذي بناه، أو ما هو الغرض منه. وكان بور-بازين يفتقر إلى أي علامة على وجود مستوطنة بشرية مثل أكوام القمامة أو الفحم من المواقد، مما يشير إلى أنه تم التخلي عنه بعد وقت قصير من البناء. ولكن ارتفاع نسبة الكربون للفترة 774-75 م كان موجوداً في حلقة خارجية من عارضة خشبية، مما يشير إلى أن شجرة المصدر قد قُطعت في عام 777 م، كان ذلك في عهد تنغري بوغو قاغان Bögü Qaghan، أحد ملوك الأويغور الذي تحول إلى المانوية، وهي ديانة تنظر إلى الوجود كصراع ملحمي بين الخير والشر. على الأرجح، كما يقول كويتمس، بنى بوغو قاغان بور-بازين كدير مانوي.

يشير العمر الدقيق لبور- بازين إلى السبب الواضح أنه لم يستوطن مطلقاً. في عام 779 م، قتل المتمردون المعارضون للمانوية بوغو قاغان. يقول كويتمس: «في اللحظة التي تم فيها الانتهاء من هذا المبنى بكامله، صار على الفور عديم الفائدة». وأسهم دي أيضاً في عمل زملائه الألمان الذين استخدموا ارتفاع مياكي نفسه لتاريخ قلعة قديمة أخرى، على جزيرة في بحيرة أرايشا Āraiši في وسط لاتفيا. يقول كويتمس: «لعقود لم يتمكن الناس من الإجابة عن هذه الأسئلة، والآن يمكننا ذلك باستخدام هذا المنهج».

في أعقاب نجاح تأريخ موقع فينلاند الذي استحوذ على العناوين الرئيسية، انطلق فريق غرونينغن ليعالج مجموعة أخرى جذابة من الألغاز التاريخية: التسلسل الزمني «العائم» Floating، أو الجداول الزمنية القديمة المتسقة داخلياً وغير المقيدة بتواريخ محددة. فعلى سبيل المثال، كان دي يأمل منذ فترة طويلة بربط الجداول الزمنية العائمة لفراعنة مصر القديمة بتقويمنا الحديث. حدّد التأريخ بالكربون المشع التسلسل الزمني المصري بمدة تتراوح بين مئتي عام زيادة أو نقصانا. وحاول العلماء استخدام الملاحظات القديمة للأحداث الفلكية المعروفة، مثل محاذاة النجوم والكواكب، لتضييق المدى أكثر فأكثر. ولكن الجداول الزمنية لا تزال ضبابية. مثلا، عصر الدولة القديمة في مصر يشمل العشرات من الفراعنة الذين حكموا من نحو 2700 إلى 2200 ق.ك. ويقول دي: «التواريخ التقويمية ليست معروفة حقاً، بل لا نستطيع أن نحددها بقرن واحد من الزمن».

لا تنتج العديد من أنواع الأشجار المصرية الفطرية Native حلقات نمو سنوية، مما يعقد البحث عن أحداث مياكي هناك. لكن المصريين استوردوا الصنوبريات – التي يفضلها البناؤون غالباً لاستقامتها وقوتها – من لبنان وسوريا. ويقول دي إن الجائمة والقوانين التي تقيد تصدير القطع الأثرية المصرية أدت إلى إبطاء عمل فريقه. ولكنه وضع نصب عينيه اكتشاف تاريخ محدد لبناء الهرم الأكبر، الذي بناه فرعون المملكة القديمة خوفو. ويستطرد دي قائلا: «هناك مثل عربي قديم يقول’ كل شيء يخشى الزمن لكن الزمن يخشى الأهرامات‘. إذا كان من الممكن تأريخ هذا الهيكل وعهده بدقة، فسيحل هذا اللغز الذي استمر منذ العصور القديمة نفسها».

يأمل فريق دي بترسيخ التسلسل الزمني العائم الآخر وهو نظام تقويم العد الطويل Long Count timekeeping من أمريكا الوسطى. استخدم هذا النظام من قبل حضارات المايا والأزتيك وحضارات أمريكا الوسطى الأخرى، وفيه تُحسب الأيام خطياً من اليوم المفترض لنشوء العالم. في حين كانت هناك عدة محاولات لربط تقويم العد الطويل بالتقويم الغريغوري، لا يزال الأكاديميون يناقشون تاريخ نشوء العالَم الدقيق. والعثور على حدث مياكي في خشب من هيكل بأمريكا الوسطى، مثلا عتبة في معبد المايا تيكال في غواتيمالا، والذي تم تسجيل بنائه في تقويم العد الطويل قد يحسم الأمر.

أحداث مياكي تعدنا أيضاً بتأريخ مواعيد الكوارث الطبيعية التي غيّرت مجرى تاريخ البشرية. تقول بيرسون: «يمكن أن تساعد هذه التقنية على الإجابة عن أسئلة حول بزوغ الحضارات واندثارها».

في عام 2017، تعاون كلايف أوبنهايمر Clive Oppenheimer، عالم البراكين من جامعة كيمبريدج University of Cambridge، مع واكر وآخرين لاستخدام حدث مياكي لتحديد تأريخ شجرة الصنوبر المدفونة في الرماد بسبب ما يسمى بثوران الألفية لجبل بايكتو Mount Paektu، وهو بركان يقع بمحاذاة الحدود بين الصين وكوريا الشمالية. حدّد التأريخ بالكربون المشع وقت الانفجار، وهو واحد من أكبر الثورانات خلال 10 آلاف سنة الماضية، في مدة تتراوح ما بين القرنين التاسع والحادي عشر. وافترض بعض المؤرخين أن الانفجار أدى إلى سقوط مملكة بوهاي Bohai عام 926 م، والتي شملت أجزاء من شبه الجزيرة الكورية وشمال شرق الصين والشرق الأقصى لروسيا. استخدم أوبنهايمر وزملاؤه حدث مياكي 774-75 م لتأريخ كارثة شجرة الصنوبر المدفونة بالعام 946 م، مما أدى إلى تبرئة ثوران البركان من انهيار المملكة. يقول أوبنهايمر: «بفضل حدث مياكي، تمكننا من تحديد الموعد بدقة… مع أي شيء يقتل الأشجار – الزلازل والحرائق والآفات البيولوجية – هناك الآن إمكانية للتأريخ بدقة شديدة».

تأمل بيرسون في مثل هذا النجاح بتأريخ شجرة كانت في اتجاه الريح من بركان ثيرا Thera عندما اندلع قبل نحو 3500 عام في جزيرة سانتوريني، والذي ربما أسهم في سقوط الحضارة المينوية. وكان من الممكن أن يؤدي الدمار الواسع النطاق إلى تعطيل التجارة في معظم أنحاء البحر الأبيض المتوسط ويدفع باللاجئين إلى البحث عن منازل جديدة. ويؤكد ارتفاع نسبة الكربون C14 المتمركز حول العام 1528 ق.م. – لم يتم تأكيده حتى الآن على أنه حدث مياكي – أنه في عام 1562 ق.م.، زائد أو ناقص سنة، تظهر إشارة كيميائية مفاجئة في حلقات الشجرة، ربما بسبب كبريتات من ثوران البركان.

كما قد تسلط أحداث مياكي الضوء على الكوارث المستقبلية المحتملة. مؤخراً استخدم عالم التأريخ الشجري براين بلاك Bryan Black – الذي يعمل أيضاً في مختبر أبحاث حلقات الأشجار في أريزونا- حدث مياكي 774-75 م لتأريخ حدثي اندثار جماعي لأشجار يفصل بينها أكثر من 80 كيلومتراً في منطقة بوغيت ساوند Puget Sound في شمال غرب المحيط الهادي بالولايات المتحدة. نمت الغابات على طول صدعين ضحلين منفصلين بالقرب من مدينة سياتل الحالية، وتشير الأدلة الجيولوجية إلى أنها ماتت منذ أكثر من ألف عام. إذ تسجل الرواسب الاضطرابات، كما وثِّقت تقاليد التراث الشفوي لشعب ساليش Salish people الأصلي ذلك أيضا. وقد تساءل علماء الأرض عما إذا كان كلا الصدعين قد انشق بشكل منفصل، أو في وقت واحد في زلزال واحد هائل. وجد بلاك أن هذه الأشجار ماتت جميعها خلال الموسم نفسه بين 923 و924 م، مما يشير إلى أن الصدعين ربما اشتركا معا في أحداث زلزال هائل. إذ يقول مؤكدا رأية: «هذا التفسير يأخذ سيناريو “أسوأ حالة” المُقدَّم لتفسير هذين الصدعين الضحلين ويرتقي به إلى المستوى التالي».

والآن، يفتش علماء الكربون المشع في أرشيفات حلقات الأشجار بحثا عن المزيد من أحداث مياكي. وتأمل كويتمس بالعثور على حدث مياكي في موقع من الألفية السادسة قبل الميلاد، مما قد يسمح لها بتحديد تاريخ موقع – غير مصرح به بعد – من العصر الحجري الحديث Neolithic في أوروبا. اكتشف باحثون آخرون مجموعة أحداث مياكي محتملة في عام 1261 م، و1268 م، و1279 م.

يقول دي: «إنه يشبه أحجية الصور المقطعة Jigsaw puzzle… في النهاية، إذا كان لدينا ما يكفي من الارتفاعات في نسبة الكربون، فسنكون قادرين على تحديد الأوقات المحدّدة للكثير من أحداث الهولوسين».

يمكن أن تؤكد بيانات عينات نوى الجليد Ice core أيضاً أحداث مياكي. فالأشعة الكونية تولّد نظيرين مشعين آخرين – البريليوم10- والكلور36- في الغلاف الجوي العلوي. بدلاً من الاستقرار في الأنسجة الحية، تُغسل هذه النظائر من على الأسطح بفعل المطر والثلج، ويمكن أن ينتهي بها الأمر في الطبقات السنوية للصفائح الجليدية القطبية. مثل نسبة الكربون 14C في حلقات الأشجار، تم ربط الارتفاعات الحادة للبريليوم-10 والكلور-36 في الجليد بأحداث مياكي معروفة. في مؤتمر للكربون المشع في زيورخ العام الماضي، أبلغ الفيزيائيان أندرو سميث Andrew Smith وديفيد فينك David Fink من منظمة العلوم والتكنولوجيا النووية الأسترالية Australian Nuclear Science and Technology Organisation عن ارتفاعات في النظائر في الفترة ما بين 774-75 م و993-94م في عينات الجليد من القطب الجنوبي (أنتاركتيكا). يمكن أن يكشف التحليل المستمر للنوى عن أحداث مياكي أخرى غير معروفة سابقاً والتي يمكن لاختصاصيي التأريخ الشجري متابعتها.

تواصل مياكي أيضاً سعيها إلى العثور على المزيد من الأحداث التي تحمل اسمها. وقد انضمت إلى مختبر أبحاث حلقات الأشجار Laboratory of Tree Ring Research في أريزونا، الذي يحتفظ بـ 700 ألف عينة من حلقات الأشجار – وهي أكبر مجموعة في العالم – تقدم سجلاً لا مثيل له من الأحداث المناخية والكونية الماضية. هناك، تهدف مياكي وزملاؤها في أريزونا، جنباً إلى جنب مع زملائها في معظم أنحاء العالم، إلى وضع سجل كامل من الكربون المشع يعود إلى 12 ألف عام من الأشجار النافقة حديثاً وتلك النافقة منذ فترة طويلة. تقول بيرسون إن سد الفجوات بين أحداث مياكي أمر مهم أيضاً، لأنها تحتوي على أنماط شمسية يمكن مطابقتها مع سجلات حلقات الأشجار والجليد لتحسين التأريخ بالكربون المشع. هذا، وتستعد بيرسون وواكر لتقديم بيانات – تمتد على 1100 عام من بيانات من أشجار الصنوبر في كاليفورنيا، والتي يمكن أن تعيش إلى أكثر من 4 آلاف عام – إلى مستودع Repository لمعايرة الكربون المشع الدولي. كما تتطلع مياكي إلى الحصول على عينات من أشجار أخرى طويلة العمر من روسيا وفنلندا واليابان، وقد رصدت بالفعل العديد من أحداث مياكي التي لم تُنشر بعد.

ويشير زملاء مياكي إلى أن تحليل مياكي الرائد لشجر الأرز يستمر في تحفيز دراسات الماضي. فيقول دي: «لقد وثقت في غرائزها وكانت واثقة جداً بما لديها لدرجة أنها كانت قادرة على إقناعنا جميعاً بأن هناك تأثيراً حقيقياً… والبقية كما يقولون هو تاريخ».

نعمة الماضي، خطر المستقبل
أحداث مياكي، الانفجارات الشمسية أو النجمية الأخرى التي تودع الكربون المشع في حلقات الأشجار، تسلط الضوء على الماضي. لكن مثل هذا الانفجار يمكن أن يزعزع الحاضر زعزعة خطيرة.

كانت أكبر عاصفة شمسية تضرب كوكبنا في التاريخ المسجل هي حدث كارينغتون Carrington Event، في الفترة من 1 إلى 2 سبتمبر 1859، والذي سمي على اسم عالم فلك بريطاني ربط التوهج الشمسي الهائل الذي اكتشفه الآخرون بالظواهر الغريبة التي تلت ذلك قريباً. في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، شوهدت عروض أضواء الشفق في أقصى الجنوب مثل منطقة البحر الكاريبي وكانت ساطعة جداً في شمال شرق الولايات المتحدة بحيث كان بإمكان الناس قراءة الصحف ليلاً. اشتعلت النيران في محطات التلغراف حيث أزّت أسلاك النقل تحت وابل من الإلكترونات أزيزا. وذكرت الصحف أن الطيور بدأت بالنقيق طوال الليل، واستيقظ عمال مناجم الذهب في كاليفورنيا في الساعات الأولى من الصباح لإعداد وجبة الإفطار، معتقدين أن الشفق القطبي المشرق هو نور الفجر.

ومع ذلك، مقارنة بحدث مياكي، فإن هذين اليومين المتلألئين في عام 1859 هما «بالكاد مجرد صورة عابرة»، كما تقول شارلوت بيرسون، عالمة التأريخ الشجري وعالمة الكربون المشع من جامعة أريزونا. إذ تظهر سجلات نسبة الكربون C14 في حلقات الأشجار من عام 1859 عدم وجود ارتفاعات تقريباً – لا شيء يقترب من الارتفاع الهائل الناجم عن أحداث مياكي.

فعاصفة شمسية أو وابل أشعة غاما بمقياس 774-75م من شأنه أن يحول سماء الليل – بالمثل – إلى دوامة تثير الرهبة من الضوء المتلألئ. كما ستلحق أضراراً كارثية بالتقنيات والبنية التحتية. تقول بيرسون: «نحن معرضون للخطر بشكل كبير». إن اندفاع الجسيمات عالية الطاقة ستحرق إلكترونيات الأقمار الاصطناعية، ومن المحتمل أن يتعرض رواد الفضاء في المدار لجرعات مميتة من الإشعاع؛ حتى ركاب الطائرة قد يتعرضون لمستويات خطيرة، كما تقول مياكي. ومع تضعضع المجال المغناطيسي للأرض تحت القصف، فإن التدفقات الكبيرة في التيار ستدمر شبكات الطاقة. تقريبا أي شيء يعمل بالكهرباء – من السيارات الكهربائية إلى الهواتف المحمولة إلى أجهزة التهوية – ستتعرض للعطل. فعلى أقل تقدير، سنواجه إخفاقات واسعة في الاتصالات، كما تقول.

والعواقب الوخيمة تدفع العلماء لمحاولة التمييز بين ما إذا كانت أحداث مياكي الماضية تتبع نمطاً أو دورة معينة، أو ما إذا كان حدثاً مستقبلياً غير متنبأ به سيصيبنا بالعمى. ويقول الفيزيائي أندرو سميث Andrew Smith من منظمة العلوم والتكنولوجيا النووية الأسترالية: «الهدف هو محاولة فهم وتيرة وشدة هذه الأحداث بهدف القيام في الواقع بنوع من تقييم المخاطر». يتضمن ذلك العمل على كيفية حماية الأشخاص والمعدات على الأرض وفي الفضاء بشكل أفضل. ويستطرد سميث قائلا: «من الواضح أن حدث مياكي كبير اليوم سيكون بمثابة كارثة… ستتبخر كل تقنياتنا في نفخة من دخان بين عشية وضحاها».

© 2023, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى