أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجيا

الوعد الفريد بـ «حواسيب حيويّةٍ» مصنوعةٍ من الكائنات الحية

بدأ علماء الأحياء أخيراً يجمعون الجزيئات والخلايا وكائناتٍ حيّةً كاملةً لإجراء عملياتٍ حسابيةٍ معقدةٍ. يمكن استخدام هذه المُعَالِجَاتِ الحيّة في كل شيءٍ بدءاً من المواد الذكية وحتى أنواعٍ جديدةٍ من الذكاء الاصطناعي

بقلم إد غينت

ما هو الفرق بين شذرة من البكتيريا وحاسوبٍ فائقٍ Supercomputer؟ صدّق أو لا تصدّق، تحتوي البكتيريا على داراتٍ أكثر وقدرةِ مُعَالَجَةٍ أعلى. ربما لن يكون هذا مفاجئاً حين تضع في الاعتبار أن جميع أشكال الحياة تَحْسِبُ: من الخلايا الفردية التي تستجيب للإشارات الكيميائية إلى الكائنات الحية المُعَقَدَة التي تتنقل في بيئتها، إنّ مُعالجةَ المعلوماتِ أمرٌ أساسيٌ للأنظمة الحيّة. لكنّ الأمر الأكثر إثارةً للاهتمام هو أنّه بعد عقودٍ من المحاولة، بدأنا أخيراً تجميع الخلايا والجزيئات وحتى كائناتٍ حيّةً كاملةً لتنفيذ مهماتٍ حاسوبيةٍ لتحقيق أهدافنا.

هذا لا يعني أن أجهزة الحواسيب الحيويّة ستحلّ محلّ الشرائح الدقيقة Microchip التي تجدها في هاتفك الذكي أو حاسوبك المحمول، ناهيك عن أجهزة الحواسيب الفائقة. لكن بتعامل المهندسين الحيويين مع المكونات الرطبة والإسفنجية التي توفّرها الطبيعة، بدأوا يعرفون كيف يمكن أن تكون أجهزة الحاسوب الحيويّة مفيدةً في نهاية المطاف – من المواد الذكية والحلول اللوجستيّة إلى الآلات الذكية التي تعمل بمقادير ضئيلةٍ من الطاقة.

إن بدَتْ التطبيقاتُ غير عاديةٍ وتركيبيةً، فهذا هو المطلوب. يقول أنجيل غوني-مورينو Angel Goñi-Moreno من الجامعة التقنية في مدريد Technical University of Madrid في إسبانيا: «الحوسبة الحيوية لا تتنافس مع أجهزة الحاسوب التقليدية. إنها زاوية رؤيةٍ مختلفةٌ تماماً يمكن أن تساعدنا على معالجة مشكلاتٍ في مجالاتٍ لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل». قد يجبرنا ذلك على إعادة التفكير في افتراضاتنا عن ماهية الحوسبة، وما يمكن أن تفعله لنا.

لعقودٍ من الزمن، هيمنَت شرائح السيليكون على الحوسبة. تتكون هذه الشرائح من بلايين من القواطع الصغيرة التي تُسمى الترانزستورات Transistor التي تُرمِّزُ البيانات في وحدات بِتٍّ Bit، أي أرقامٍ ثنائيةٍ Binary digit. إن كان القاطع مفتوحاً وسمح للتيار الكهربائي بالتدفق، فإن هذا يمثل 1. إذا أُغْلِقَ وحُجِبَ التيارُ فإنه يمثّل 0. ما يجعل الشرائح شديدة القوّة هو طريقة توصيل الأسلاك فيها. تُرَتَبُ الترانزستوراتُ في بواباتٍ منطقيةٍ Logic gate، والتي تأخذ بتّاً واحداً أو أكثر مُدْخَلاً ثم تُخْرِجُ بتّاً واحداً بناءً على قواعد بسيطةٍ. بتكديس الملايين من هذه العمليات البسيطة فوق بعضها بعضا، يصير من الممكن إجراء عملياتٍ حسابيةٍ معقدةٍ تعقيداً لا يُصَدَقُ.

تعتمد كل مآثر الحياة المذهلة على قدرة الحمض النووي DNA على تخزين ونسخ ونقل التعليمات الجينية

لقد قطعنا بفضلها شوطاً طويلاً، ومع ذلك فهي ليسَتْ الطريقة الوحيدة. أجهزة الحواسيب في جوهرها مجرد معالجاتٍ للمعلومات، وهناك إدراكٌ متزايدٌ بأن الطبيعة غنيةٌ بهذه القدرات. المثال الأكثر وضوحاً يكمن في الأنظمة العصبية للكائنات الحية المعقدة، التي تعالج البياناتِ من البيئة لتوجيه جميع أنواع السلوك الحيواني المعقد. لكن حتى أصغر الخلايا ممتلئةٌ بمساراتٍ جزيئيةٍ حيويةٍ معقدةٍ تستجيب للإشارات الواردة بتفعيل الجينات وإيقافها، أو بإنتاج مواد كيميائيةٍ أو بالانتظام ذاتياً لتشكيل أنسجةٍ معقدةٍ. ففي النهاية، تعتمد كل مآثر الحياة المذهلة على قدرة الحمض النووي DNA على تخزين وانتساخ ونقل التعليمات الجينية التي تجعل هذه المآثر ممكنةً.

رسوم: NANETTE HOOGSLAG / IKON IMAGES / SCIENCE PHOTO LIBRARY

بناء الحواسيب الحيويّة
تتفوق الأنظمة الحيوية على التكنولوجيا الموجودة بتمتعها ببضع المزايا الخاصة. إذ يغلب أن تكون أكثر كفاءةً في استخدام الطاقة، وتحافظ على نفسها وتصلحها، وتتكيف تكيفاً فريداً مع معالجة الإشارات من العالم الطبيعي. وهي بالطبع أيضاً مضغوطةٌ ضغطاً مذهلاً. يقول عالم الأحياء التخليقية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Technology Massachusetts Institute of كريس فويغت Chris Voigt: «الشيء المذهل في البيولوجيا هو أنك إن أخذْتَ كل الحمض النووي DNA الموجود في 1 ملم من البكتيريا، فإن فيها مخزوناً كافياً للمعلومات لشبكة الإنترنت كلها، وفيها من الدارات ما يساوي بلايين معالجات السيليكون».

كنا نحاول الاستفادة من هذه القدرات منذ تسعينات القرن العشرين. وفي العشرين عاماً الماضية، استطاع الباحثون مُتسلحين بأدواتٍ جديدةٍ وأكثر قوةً لهندسة الخلايا والجزيئات البَدْءَ أخيراً في إثبات إمكانية استخدام المواد الحيوية لبناء أجهزةٍ حاسوبيةٍ تعمل فعلاً.

يقول فويغت إنّ جوهر هذه الطريقة يكمن في فكرة أن العمليات الخلوية يمكن اعتبارها «داراتٍ حيويةً» – على غرار الدارات الكهربائية الموجودة في أجهزة الحاسوب. تتضمن هذه الدارات جزيئاتٍ حيويةً متنوعةً تتفاعل فتأخذ مُدْخَلَاتٍ وتُعالجها لتولّدَ مخرجاتٍ مختلفةً، مثل نظيراتها السيليكونيّة. بتعديل التعليمات الجينية التي تقوم عليها هذه العمليات، يمكننا الآن إعادة تشكيل وصلات هذه الدارات لتنجز وظائف لم تَبْتَغِها الطبيعةُ أبداً.

في عام 2019، صنعَتْ مجموعةٌ في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا Swiss Federal Institute of Technology في زيورخ المكافئ الحيوي لوحدة المعالجة المركزية Central processing unit (اختصاراً: الوحدة CPU) للحاسوب من نسخةٍ معدلةٍ من بروتينٍ مُسْتَخْدَمٍ في تعديل الجينات بتقنية كريسبر CRISPR. أُدخِلَتْ الوحدة CPU هذه في خليّةٍ نظَّمَتْ فيها نشاط الجينات المختلفة استجابةً لتسلسلاتٍ من الحمض النووي الريبي RNA – وهذا الحمضُ شكلٌ من أشكال المواد الجينية – مُصَمَمٍ تصميماً خاصاً، مما سمح للباحثين بدفع الخلية إلى استخدام بواباتٍ منطقيةٍ مماثلةٍ لتلك الموجودة في أجهزة الحاسوب المصنوعة من السيليكون.

نقلَتْ مجموعةٌ من معهد ساها للفيزياء النووية Saha Institute of Nuclear Physics في الهند الأمور خطوةً إلى الأمام في عام 2021، إذ دفعوا مستعمرةً من بكتيريا الإيشيريشيا كولاي (الإشريكية القولونية) Escherichia coli لاستنتاج حلولٍ لمتاهاتٍ بسيطةٍ. وزِّعَتْ الدارات بين عدة سلالاتٍ من إي. كولاي، إذ كانتْ كل سلالةٍ منها مُصَمَمَةً لحلّ جزءٍ من المشكلة. بمشاركة المعلومات، نجحَتْ المستعمرةُ في معرفة كيفية التنقل في متاهاتٍ متعددةٍ.

لكي نكون واضحين، تعمل هذه الدارات أبطأ من الدارات الإلكترونية بأضعاف مضاعفة، وهي بدائيةٌ مقارنةً بها. يقول فويغت إن قوّتها تكمن في الفرصة التي تتيحها لتنفيذ البرامج التي تتفاعل مباشرةً مع الأنظمة الحيّة. ويقول إنّه يمكن استخدامها لإنشاء كل شيءٍ بدءاً من الروبوتات الصغيرة التي تعالج الأمراض داخل الجسم إلى عمليات التصنيع الحيوي المعقدة ومتعددة الخطوات. يقول فويغت: «ليس عليك أن تتفوق على أجهزة الحاسوب لتكون مفيداً. ما يفيد فعلاً في المراحل الأولى هو مجرد تحكّمٍ بسيطٍ في المادة الحية».

لكن غوني-مورينو يقول إنّ التفكّر في العمليات الخلوية من منظور الدارات يمكن أن يجعلنا ضيقي الأفق: «نحن نحاول فرض عقلية الهندسة الكهربائية على الأنظمة الحيّة، وهذه ليست بالضرورة طريقة عملها». النقطة الجديرة بالاهتمام هنا هي أنّ معظم الأنظمة الحيوية لا تقتصر على المنطق الثنائي لأجهزة الحاسوب الكلاسيّة. كما أنها لا تعمل على حل المشكلات خطوةً بخطوةً، أي أنّها على غير ما تفعله شرائح الحاسوب. إنها ممتلئةٌ بالنسخ المكررة، وحلقات التغذية الراجعة Feedback loops الغريبة، وعملياتٍ مختلفةٍ تماماً تعمل جنباً إلى جنب بسرعاتٍ مختلفةٍ.

يقول غوني-مورينو إن التقصير بعدم وضع هذا التعقيد في الاعتبار يؤدي غالباً إلى عدم أداء الدارات الحيويّة كما هو متوقع، وهذا يعني عدم استغلال إمكانات الخلايا الوظيفية الكاملة. ويقول إنّ إيجاد طرقٍ لنمذجة وإعادة توصيل التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الخلايا الحية وبينها يمكن أن يحقق في المقابل أهدافاً أعلى طموحاً. تحقيقاً لهذا الهدف، يحاول غوني-مورينو إنشاء مجتمعاتٍ متعددة الخلايا من بكتيريا التربة يمكنها تغيير المُلوثَاتِ المُخْتَلِفَة التي تزيلها اعتماداً على أيّها أكثر انتشاراً.

يمكن أيضاً استغلال الكائنات الحيّة في الحوسبة بطرقٍ منفصلةٍ تماماً عن سياقها الطبيعي. يجري هاينز لينكه Heiner Linke من جامعة لوند Lund University في السويد تجاربَ بنهج حوسبةٍ حيويةٍ مختلفةٍ جذرياً باستخدام خيوطٍ بروتينيةٍ دقيقةٍ تدفعها في متاهةً محركاتٌ جزيئيةٌ. تهدفُ هذه الطريقة المُقْتَرَحَة إلى حلّ فئةٍ من التحديات الحوسبية الصعبة تُسمى مسألة كثيرة حدود غير قطعية كاملة NP-complete، وهي مسألةٌ تتمثل الطريقة الوحيدة المعروفة للعثور على إجابةٍ عنها في تجربة كل حلٍ ممكنٍ.

تطرأ هذه المسائل في كل شيءٍ من تخطيط شبكة الخدمات اللوجستية إلى تصميم شرائح الحاسوب. لكنها تمثّل تحدياً لأجهزة الحاسوب التقليدية لأنّ الطريقة المُتَسَلْسِلَةَ التي تعمل بها تعني أنه بزيادة حجم المشكلة، يزداد الوقت المُسْتَغْرَقُ للتحقق من كلّ حلٍّ زيادة أسيّةٍ. 

يُقَدِّمُ نهج لينكه حلّاً بديلاً. صُمِمَ هيكلُ المتاهة بعنايةٍ ليُرَمِّزَ المشكلة التي يجب حلّها، وكلّ مسارٍ ممكنٍ فيها يتوافقُ مع حلٍّ مُحْتَمَلٍ. على سبيل المثال، قد يتضمن ذلك استجلاء أسرع طريقٍ يمكن أن تسلكه شاحنةٌ بين محطات توقفٍ متعددةٍ. تستكشفُ الخيوط التي تنطلق مسرعةً في المتاهة كلّ خيارٍ، وبحساب عدد الخيوط التي تخرج من المخارج المُحَدَدَةِ مُسبقاً، يمكنك تحديد المسار الذي يمثل الإجابة الصحيحة.

يقول لينكه إنّ جمال هذا النهج هو أن الخيوط تستكشف جميع المسارات في الوقت نفسه. هذا يعني أن حل مشكلةٍ أكبر لا يتطلب مزيدٍ من الوقت بل مزيدٍ من الخيوط. ونظراً لأنها تستخدم طاقةً أقل من الترانزستورات الإلكترونية بنحو عشرة آلاف ضعف لكل عمليةٍ، فإنّ توسيع نطاقها يكون أكثر جدوى بكثيرٍ من أجهزة الحاسوب التقليدية.

إعادة هندسة الأنظمة الحيوية
لكن مايكل ليفين Michael Levin من جامعة تافتس Tufts University في ماساتشوستس يعتقد أنّ هناك إمكاناتٍ لم نستغلّها لأننا نبني الحواسيب الحيويّة من الأسفل إلى الأعلى. ويقول إنّ الأنظمة الحية تحقق إنجازاتٍ حوسبيةً تذهل العقل على كل مستوى من المستويات الحيوية، وأكبر ما يعوقنا ليستْ المشقّة في إنشاء داراتٍ حيويةٍ والتحكم فيها، بل بالأحرى عدم قدرتنا على تسخير ما هو موجودٌ أصلاً في الطبيعة. ويقول: «الأشياء التي سننشئها من الصفر ستكون، لفترةً طويلةٍ جداً، هزيلةً مقارنةً بما هو موجودٌ أصلاً».

يعتقد ليفين أننا بحاجةٍ إلى تحويل التركيز من محاولة إعادة هندسة الأنظمة الحيوية إلى إيجاد طرقٍ للتفاعل مع ما هو موجودٌ. ويقول إنّ هذا يعني عدم اعتبارها لبنات بناءٍ، بل «مواد لها مخططاتٌ» يمكننا إعادة توجيه سلوكها الطبيعي لتحقيق أهدافنا.

خذ الدارات الجينية التي تستخدمها بعض الكائنات الحيّة لإعادة إنماء أطرافها. مازالتْ أمامنا عقودٌ حتى نتمكن من فعل الشي نفسه. لكن مختبر ليفين أظهر أن بإمكانهم معالجة الاتصالات الكهربائية بين الخلايا التي تساعد على تحديد كيف تنمو وإلى أين. سمح لهم هذا بتحفيز الدارات الفطرية التي تتحكم في كيفية تنظيم مجموعاتٍ من الخلايا لنفسها كي تصير أطرافاً، مما جعل لشراغيف الضفادع Tadpoles عيوناً تنمو على أمعائها، ونمتْ أرجلٌ إضافيةٌ في الضفادع.

صحيحٌ أن هذا لا يرقى إلى مستوى الحوسبة في حد ذاته، لكن ليفين يشير إلى أنّه يوضح كيف يمكننا تحويل الدارات الموجودة أصلاً في الطبيعة إلى أهدافٍ جديدةٍ. مع بعض الخيال، يمكن استخدام أساليب مماثلةٍ لحلّ مجموعةٍ واسعة من المهمات الحوسبية. يقول: «يمكنك جعل [الأنظمة الحيوية] تفعل أشياء جديدةً، لكن ليس بالضرورة بإعادة تشكيل الوصلات بالكامل من الصفر، بل عليك تشكيل الإمكانات الموجودة أصلاً».

يُظْهِرُ مجال الحوسبة الفطرية Fungal computing الغامض إمكاناتٍ واعدةً. يقول أندرو أداماتسكي Andrew Adamatzky من جامعة غرب إنجلترا University of the West of England في بريستول بالمملكة المتحدة إنّ الفطريات تتمتع بقدرةٍ مذهلةٍ على الإحساس بأشياء مثل الرقم الهيدروجيني pH والمواد الكيميائية والضوء والجاذبية والضغط الميكانيكي. يبدو أنها تستخدم نبضاتٍ كهربائيةً لتتواصل، مما يفتح إمكانية ربطها بالإلكترونيات التقليدية.

يقول أداماتسكي إنّ الفطريات تجذب الانتباه في الصناعات، بما في ذلك البناء والأزياء، كونها مواد خفيفة الوزن وصديقةً للبيئة، مما يشير إلى أنّه يمكن استخدامها في نهاية المطاف لإنشاء أجهزةٍ ذكيةٍ قابلةٍ للارتداء أو حتى مبانٍ ذكيةٍ تستشعر الظروف البيئية وتستجيب لها.

هناك مكانٌ أكثر وضوحاً للبحث عن الحوسبة الحيوية، وهو داخل أقوى حاسوبٍ نعرفه: الدماغ. يعني التقدم في هندسة الأنسجة أن العلماء يمكن أن يُنَمّوا، من الخلايا الجذعية Stem cell، مجموعاتٍ معقدةً من العصبونات (الخلايا العصبية) Neuron تكافئ أدمغةً مُصغرةً، تُعْرَفُ بالعضيّات الدماغيّة Brain organoid. وفي الوقت نفسه، فإن الاختراقات العلمية في مجال الأقطاب الكهربائية المُصَغَرَةِ التي تنقل الإشارات إلى خلايا الدماغ وتفكّ رموز استجابتها تعني أننا بدأنا نختبرُ ذاكرتها وقدراتها التعليميّة.

في وقت سابقٍ في هذا العام، وضع فريقٌ بقيادة توماس هارتونغ Thomas Hartung من جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins في ماريلاند رؤيته عن مجالٍ جديدٍ يُطْلِقُ عليه الباحثون «الذكاء العضوي» Organoid intelligence. الهدف هو عَكْسُ الذكاءِ AI: بدلاً من جعل أجهزة الحاسوب أكثر شبهاً بالدماغ، سيحاولون جعل خلايا الدماغ أكثر شبهاً بالحاسوب. يقول هارتونغ: «لم يعد الأمر خيالاً علمياً». 

في عام 2021، أظهر باحثون في شركة كورتيكال لابس Cortical Labs الناشئة ومقرها ملبورن أنّ بإمكانهم تدريب خلايا الدماغ البشرية المزروعة فوق شريحة سيليكون على لعب لعبة الفيديو بونغ Pong. إذ تَرْجَموا بيانات اللعبة، مثل مواضع الكرة والمجداف، إلى نبضاتٍ من النشاط الكهربائي غُذِّيتْ بها كتلة الخلايا عبر أقطابٍ كهربائيةٍ. ثم سُجِلَتْ الاستجابات الكهربائية للعصبونات واستُخْدِمَتْ للتحكّم في حركة المجداف.

يقول بريت كاغان Brett Kagan كبيرُ المسؤولين العلميين في كورتيكال إنّ خلايا الدماغ تتمتعُ بقدراتٍ فريدةٍ تجعلها لَبِنَاتِ بناءٍ واعدةً للآلات الذكية. إنّها تتعلم بسرعةٍ على عكس الذكاء AI الحالي الذي يجب تدريبه على عددٍ هائلٍ من الأمثلة. كما أنها تَنْهَلُ بسهولةٍ أنواعاً مختلفةً من البيانات وتستهلك كمياتٍ ضئيلةً من الطاقة. يقول كاغان إنّ هناك علامات استفهامٍ حول ما إذا كان بإمكاننا إنشاء ذكاءٍ شبيهٍ بذكاء البشر في السيليكون، لكننا نَعْلَمُ أنّه يمكننا فعل ذلك باستخدام العصبونات. يقول: «كيفيّة تحقيق ذلك هي أمرٌ شديد التعقيد، لكنها مكانٌ مختلفٌ يمكن أن ننطلق منه». 

يقول كاغان إنّ أحد التطبيقات على المدى القريب يمكن أن تكون استغلال مهارات التعرّف إلى الأنماط الاستثنائية التي تتمتع بها العصبونات في تطبيقات الأمن السيبراني Cybersecurity، مثل مراقبة حركة الإنترنت بحثاً عن نشاطٍ غير اعتيادي قد يشير إلى اختراقٍ. على المدى الطويل، يَعتَقِدُ أن بإمكانها المساعدة على قيادة الآلات التي تعمل في العالم الواقعي، مثل الروبوتات أو أجهزة الاستشعار الذكية. يتساءل: «ما الذي تجيد الأدمغة فعله بصورةٍ أفضل من الآلات؟ الاستشعارُ والاستجابة للبيئات المُتغيرة بسرعةٍ هو بالتأكيد أحد هذه الأمور».

ذكاءٌ عُضَوي
تعمل كورتيكال لابس الآن على تطوير برنامجٍ يُسَمى بيوس biOS، أي نظام تشغيل الذكاء الحيوي Biological Intelligence Operating System، وهو بيئةٌ برمجيةٌ يستطيع فيها أي شخصٍ لديه مهاراتُ ترميزٍ أساسيةٌ بَرْمَجَةَ المهمات لما تسميه الأطباق الدماغية «DishBrains».

لكن مادلين لانكستر Madeline Lancaster من جامعة كيمبريدج University of Cambridge، والتي كانت رائدةً في صناعة عضيّات الدماغ، تعتقد أن إعادة توجيه وظيفتها لمهماتٍ حوسبيةٍ لا يزال بعيد المنال. وتقول إن إبقائها حيّةً لفتراتٍ طويلةٍ لا يزال أمراً شاقاً، ومَرَدُّ قسمٍ كبيرٍ من قوة الأدمغة الحوسبية إلى البنى الهرمية المُعَقَدَةِ التي تُشَكِلُها العصبونات، وهو شيءٌ ما زلنا بعيدين عن محاكاته. تقول: «مازال الوقت مبكراً على ذلك. في الوقت الحالي، إنها مجرد مجموعةٍ من العصبونات متصلةٌ ببعضها بعضا اتصالاً عشوائياً إلى حدٍ ما».

الواقع أنّ كل هذه النُهجَ في الحوسبة الحيويّة بعيدةٌ كل البعد عن أن تصير اتجاهاً سائداً. يقول روب كارلسون Rob Carlson، الرئيس التنفيذي في شركة رأس المال المُجازف بيو إيكونومي كابيتال Bioeconomy Capital: «لم نتعلم بعد كيفية تسخير أجهزة الحاسوب العضوية لأي شيءٍ مفيدٍ بصورةٍ خاصةٍ، عدا عن مشروعاتٍ إيضاحيةٍ تُفْضي إلى نشر الأوراق الأكاديمية». ويقول إنّ قدرتنا على معالجة المواد الحيّة لا تزال بدائيةً مقارنةً بقدرتنا على تصميم وبناء شرائح السيليكون.

ومع ذلك، يعتقد كارلسون أنّ الإمكانات الهائلة للحوسبة الحيويّة والبلايين التي تُضَخُّ في التكنولوجيا الحيوية ستحقق تقدماً سريعاً في الأعوام القليلة المقبلة. فهناك شيءٌ واحدٌ مؤكد: نحن على أعتاب منجمٍ. يقول ليفين: «توجد أجهزة حاسوبٍ حيويّةٍ داخلنا وحولنا في كل مكانٍ. هناك الكثير من الثروات فعلاً».

© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى