أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أخبار العلوم

الأنظمة الغذائية تفسر الهجرة المتوقعة للعواشب في سيرينغيتي

عادات تناول الطعام لكل نوع تحدد المائدة المتاحة للموجة التالية

في شهر أبريل من كل عام، يباشر ما يقرب من 200 ألف حمار وحشي  Zebra رحلتهم البالغ طولها 800 كيلومتر باتجاه الشمال ليعبروا سيرينغيتي Serengeti في تنزانيا متجهين نحو كينيا. وينضم نحو 1.3 مليون من حيوانات النوّ Wildebeests بهذا السرب الغفير، ويلتحق بهم 400 ألف من غزلان طومسون Thomson’s gazelles بعد قرابة شهر من ذلك. إن هذا الرَكْب «مبهرٌ» كما وصفه تي. مايكل أندرسون T. Michael Anderson، اختصاصي إيكولوجيا السافانا في جامعة ويك فورست Wake Forest University.

في الأسبوع الثاني من فبراير 2024، وضّح هو وزملاؤه في مجلة ساينس Sciece توقيت هذه الهجرة الأيقونية وغير ذلك من تفاصيل أخرى، حيث كشفوا النقاب عن القوى المعقدة المنظمة لحركة كل نوع Species، مستعرضين كيف يمكن للحرائق والظروف الجوية غير المعتادة أن تعرقل هذه الحيوانات. ومن خلال رصد القطعان باستخدام الكاميرات المُفعَّلة بالحركة لمدة 8 سنوات، وتتبعها بواسطة أجهزة GPS، وجمع روثها لفهم نظامها الغذائي، استطاعت المجموعة البحثية «كشف خفايا أحد أروع المشاهد الطبيعية في العالم» كما قال دانكن كيمويو Duncan Kimuyu، الإيكولوجي من جامعة كاراتينا Karatina University.

لقد خلص مؤلفو الدراسة إلى أن النظام الغذائي يمثل واحدًا من العوامل الرئيسية المشكِّلة للهجرة. «يؤثر كل نوع في توفر الأعلاف بالنسبة إلى الأنواع الأخرى» كما تقول إيميلي بينيت Emily Bennitt، اختصاصية إيكولوجيا الحياة البرية من جامعة بوتسوانا University of Botswana.

قبل أن يهيمن البشر على جزء كبير من المشهد الطبيعي، كانت الثدييات العاشبة كبيرة الحجم -من جاموس البفالو Buffalo إلى ذات الحوافر (الحافريات) Antelopes -تذهب في هجرات موسمية عبر أنحاء العالم متقفيةً نمو النباتات الجديدة. غير أن «مجموع  العديد من الأنواع المهاجرة شهد تراجعًا متسارعًا» في يومنا هذا بحسب ما قاله كيمويو.

واحدة من هجرات الثدييات كبيرة الحجم  القليلة الباقية دون عوائق تتم في سيرينغيتي، يُذكر، حيث يُعتقد أن ثلاثة أنواع من هذه الثدييات ترتحل في ترتيبٍ معاكسٍ لحجمها. كان يُظن أن الحمير الوحشية البالغ وزنها ناهز 230 كيلوغرامًا، هي أولى المنطلقين، ويليها حيوانات النوّ البالغ وزنها 150 كيلوغرامًا، ويتبعها غزلان طومسون Thomson’s gazelles في النهاية، والتي يبلغ وزنها 20 كيلوغرامًا. وكان السبب وراء هذه الظاهرة مدعاةً للجدل. «افترضنا أنها كانت تشبه لعبة اتبع خطا القائد» كما يقول أندرسون. أتى هو ، وبعض العلماء الآخرين، بنظرية مفادها أن الحيوانات الأكبر حجمًا الموجودة في المقدمة تحصد النباتات الطويلة، وهو ما يُمكِّن الأنواع الأصغر من الوصول إلى النباتات الأدنى ارتفاعًا – وهي عملية تُعرف بالتيسير Facilitation. في حين يعتقد آخرون أن الخوف من الحيوانات المفترسة (مثل الأسُود) يؤدي دورًا في ذلك. ويرى بضعة إيكولوجيين أن هذا النمط متعاقب الترتيب Staggered pattern يمثِّل طريقةً للحد من التنافس على الغذاء على طول الطريق.

تحقيقًا لفهمٍ أفضل حول هذه الهجرة، نشر أندرسون وزملاؤه، بدءًا من عام 2012، نحو 200 كاميرا المُفعَّلة بالحركة على امتداد مساحة قدرها 1,000 كيلومتر مربع. إذ مسح جيش من العلماء المتطوعين المُدرّبين، ومن بعدها ببرنامج ذكاء اصطناعي Artificial intelligence، لتحديد الأنواع الموجودة. كذلك تولت المجموعة تحليل تحركات أربعة وخمسين فردًا من حيوانات النوّ وثمانية وعشرين حمارًا وحشيًا مزوَّدين بأطواقٍ  تعمل بالنظام العالمي لتحديد المواقع GPS collars، وجمعوا 232 عينةً من الروث، والتي احتوت على الحمض النووي DNA للنباتات التي تغذت بها هذه الحيوانات.

تفاجأ الباحثون من اكتشافهم لوجود فارق زمني ضئيل بين وصول الحمير الوحشية وحيوانات النوّ – وينظر أندرسون الآن إلى تحركات هذين النوعين باعتبارها هجرة مشتركة Comigration، على الرغم من أن الحمير الوحشية قد تكون أولى الواصلين إلى بقع الأرض التي لم يطالها الرعي بعد. كما لم تكشف الكاميرات عن أدلة تشير إلى تأثير الحيوانات المفترسة في  ديناميات الهجرة.

كما أفضى الحمض النووي DNA العائد إلى النباتات والموجود في عينات الروث إلى مفاجأةٍ أخرى: ألَا وهي أن لكل نوع حيواني تفضيلاته الغذائية الخاصة؛ فتختار من بين عددًا من أصناف الأعشاب Grass والنباتات الأخرى التي غَفِل علماء الطبيعة عن ملاحظتها. كشفت عينات الروث الحمير الوحشية أن الأعشاب الخشنة والطويلة المفتقرة للعناصر الغذائية 90% من نظامها الغذائي. تتميز الحمير الوحشية بخُطُومِها Muzzles الواسعة التي تغرف كميات كبيرة من العشب عشوائيا، وبجهازها الهضمي القادر على معالجة الأعلاف الخشنة بسرعة. وخلص الباحثون إلى أن بقاء هذه الحيوانات في المقدمة يُمكِّنها من الحصول على نصيبها الأسبق في البقع الكثيفة المحتوية على الأعشاب الطويلة، وتتفادى  منافسةٍ مع حيوانات النوّ غفيرة العدد. تقول إليزابيث لو رو Elizabeth Le Roux، اختصاصية إيكولوجيا الثدييات الكبيرة في جامعة آرهوس Aarhus University: «إن لم يكن بوسع الحمير الوحشية تناول أفضل الأصناف فهي ترغب في الحصول على بعضِ الأصناف الجيدة على الأقل».

ومع ُمزاحمة حيوانات النوّ قطعان الحمير الوحشية، فإن خُطُومها الأضيق تمنحها القدرة على اقتطاف «الأصناف الجيدة» بفعالية أكبر،      من مثل البقوليات التي عُثر على آثار حمضها النووي DNA في روث حيوانات النوّ. وبعدها، تصل الغزلان، التي تتميز بمعدتها الأصغر وعملية هضم أبطأ. «يتحتم على الغزلان التركيز على الأطعمة ذات القيمة الغذائية العالية، والتي لا تكفي لملء معدة الحمار الوحشي أو حيوان النوّ، وذلك لأجل تلبية احتياجاتها الغذائية» بحسب ما قالته سعيدة إسماعيلي Saeideh Esmaeili،      الإيكولوجية من جامعة ولاية كولورادو Colorado State University. تكون هذه الأطعمة والنباتات المزهرة العشبية Forbs وغيرها من النباتات العشبية الفتية أكثر توفرًا بعد أن تقتات بالحمير الوحشية وحيوانات النوّ على الأعشاب الطويلة بحسب ما أفاد به أندرسون وزملاؤه. كذلك تظهر براعم عشبية Grass shoots جديدة ونضرة بحلول الوقت الذي تصل فيه الغزلان.

«تستعرض هذه الورقة البحثية الشاملة مزيجًا من العمليات المتعاضدة، والتي تسمح للأنواع الحيوانية بالاعتماد على بعضها البعض والتعايش سويةً والبقاء في سرب الهجرة» كما قال أنتوني سنكلير Anthony Sinclair،  اختصاصي بالنُظم الإيكولوجية المتقاعد من جامعة كولومبيا البريطانية University of British Columbia، والذي عمل في سيرينغيتي منذ عام 1965.

من شأن الحرائق أو الأمطار الغزيرة أن تتسبب في تغيير أوقات حدوث الهجرة، وهو ما يعزّز اقترانها بالنظام الغذائي. بعد التهام الحرائق للسافانا، يتميز الغطاء النباتي الجديد بغناه بالعناصر الغذائية على نحوٍ خاص، ولذلك لا تتبع الغزلان خُطا حيوانات النوّ عن كثب خلال تلك السنوات كما يشرح أندرسون. وبالعكس، تعمل الهطولات المطرية المبكرة على تحفيز نمو الأعشاب الطويلة إلى حدٍ مفرط، وهو ما يزيد من اعتماد الغزلان على الحيوانات الراعية الأكبر حجمًا.

كذلك تشير هذه التجارب الطبيعية إلى قدرة التغير المناخي Climate change على قلب رحلة الحيوانات المذهلة عبر    سيرينغيتي رأسًا على عقب. «من شأن مستقبلٍ محفوفٍ بالحرائق واسعة الانتشار أن يهدد ديناميات الهجرة» كما قالت كورينا ريغينوس Corinna Riginos، الإيكولوجية العضو في منظمة الحفاظ على الطبيعة Nature Conservancy. وأردفت قائلةً: «      الهجرة عمليةً مهمة للحفاظ على صحة ووفرة القطعان – وإن فقدان الهجرة قد يؤدي إلى فقدان الكثير من الحيوانات».


بقلم: إليزابيث بنيسي

ترجمة: محمد كاتبي

المصادر العلمية:

doi: 10.1126/science.zykixss

حقوق المقالة:

©2024, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى