ثمن الطفرات الصامتة
ثمن الطفرات الصامتة(*)
إن التغيرات الطفيفة التي تطال الدَّنا DNA، والتي كانت تعتبر
غير مؤذية إلى حد ما بحيث يمكن تجاهلها، قد ثَبُتَ أنها ذات
أهمية بالغة في الأمراض البشرية والتطور والتقانة الحيوية.
<V.J.شاماري> ــــ <D.L.هرست>
مفاهيم مفتاحية
لمدة طويلة، افترض العلماء أن أي طفرة تصيب الدنا من دون أن تغير الپروتين النهائي المكوّد، هي طفرة «صامتة» فعلا. والاستثناءات الغامضة من القاعدة، والتي يبدو من خلالها أن للتغيرات الصامتة أثرًا قويا في الپروتينات، أظهرت أن مثل هذه الطفرات يمكن لها أن تؤثر في الصحة عن طريق آليات مختلفة. وفهم الآليات الدقيقة التي من خلالها تعمل الجينات وتتطور، يمكن أن يلقي المزيد من الضوء على أسباب الأمراض وعلاجها. محرّرو ساينتفيك أمريكان |
لمدة طويلة، اعتقد علماء الأحياء أنهم فهموا الكيفية التي تسبب بواسطتها الطفرات الجينية حدوث المرض. ولكن دراسة حديثة أحدثت انعطافا كبيرا في القصة، وكشفت طرقا عجيبة ــ وربما غير متوقعة ــ تستطيع من خلالها التغيرات التي تطرأ على الدنا أن تجعل الناس مرضى. وكانت وجهة النظر المعهودة تفترض أن ما كان يصطلح على تسميته طفرات «صامتة»(1) ليس له أي تبعات صحية، لأن مثل هذه التغيرات في الدنا لن تغير تركيب الپروتينات المُكوّدة بواسطة الجينات. فالپروتينات تؤدي دورا في كل وظيفة تقوم بها الخلايا تقريبا، من تحفيز التفاعلات الكيميائية الحيوية، إلى تعرّف الغزاة الغرباء عن الجسم. وهكذا، فقد قاد التفكير إلى أنه إذا وصلت بنية الپروتين لتكون صحيحة، فإن العيوب البسيطة الطارئة خلال العملية المؤدية إلى بنائه لن تسبب أي ضرر للجسم.
ومع أن البحث الدقيق قد استطاع أحيانا ربط خلل وظيفي بطفرة صامتة، فإن الباحثين يفترضون أن هذه الطفرة ليست بالضرورة المتهمة بإحداث هذا الخلل. فهناك ألغاز مشابهة طرحت نفسها فجأة أثناء دراسات تطوّر الجينومgenome، حيث أشارت نماذج من تغيّرات الدنا في الأنواع الحية المختلفة إلى أن العديد من الطفرات الصامتة بقيت محفوظة عبر الزمن ــ وهذه إشارة إلى أنها كانت مفيدة للكائنات التي أحدثتها. وفي العديد من الأنواع تبدو هذه التغيرات مفيدة في مساعدة الخلايا على صناعة الپروتينات بشكل أكثر فعالية، ولكن ذلك لا ينطبق على البشر.
وقد بدأ الباحثون حديثا بتفصيل تأثيرات الطفرات الصامتة في صحة الإنسان ومرضه. وتشير النتائج إلى طرق جديدة مثيرة للاهتمام لتحسين مخطط الجينات، وتهدف لاستخدامها في علاج الأمراض وفي حقل الهندسة الوراثية.
مرادفات لكن ليست متطابقة(**)
تتضح الكيفية التي يمكن بواسطتها لطفرة جينية ألا تؤثر في پروتين عندما ننظر إلى الطريقة التي تركّب بها الخليةُ الپروتيناتِ. والصيغة الأساسية بسيطة: شريط من نكليوتيدات (نوويدات) الدنا DNA nucleotidesيعطي متوالية متماثلة تقريبا من نكليوتيدات الرنا، والتي تترجم بدورها إلى سلسلة من الحموض الأمينية التي تلتف على بعضها بدقة لتشكل پروتينـــا. وتتميـــز حروف هذه الأبجديـة المكوّنة من الحموض النووية عن بعضها بقواعدها الكيميائية ــ الأدينين (A) والسيتوزين (C) والـوانين (G) والثايمين (T) في الدنا، واليوراسيل (U) الذي يحل محل الثايمين في الرنا.
وبعبارة أخرى، يجب تحويل التعليمات المُكوّدة في الحموض النووية إلى لغة الحموض الأمينية، بحيث يمكن «لمعناها» (پروتين مفيد) أن يعبر عنها. وعندما «يُعَبِّر» عن جينة بهذه الطريقة، تنفصل شرائط الدنا الحلزونية المزدوجة، وتنسخ آلة الخلايا تسلسل النكليوتيد في شريط مفرد على نسخة مصنوعة من الرنا. بعد ذلك، يجب طباعة نسخة الرنا المرسال غالبا في أشكال مختزلة قبل أن تصبح جاهزة للترجمة إلى پروتين من قبل الريباسات(2) ribosomes ومركّبات الرنا الأصغر التي تدعى بالرنا المنقَال(3) tRNA. وعندما تمر الريباسات على طول الرنا المرسال(4) mRNA، يستطيع الرنا المنقال أن يولّد الحموض الأمينية المُكوّدة. ويحمل كل رنا منقال حمضا أمينيا محددا، ومعظمها قادر على تعرّف تسلسل نكليوتيدي (نوويدي) ثلاثي محدد في شريط الرنا المرسال. وعندما يلتقي الرنا المنقال بالرنا المرسال الموافق له، تضيف الريباسة شحنة الحموض الأمينية المحمولة على الرنا المنقال إلى سلسلة الحموض الأمينية النامية [انظر المؤطر في الصفحة 13].
إن التكويدة التي تستخدمها الخلايا لترجمة لغة الدنا والرنا إلى پروتين ــ التكويدة الوراثية المشهورة ــــ هي محض القواعد التي تحكم أي رنا منقال يحمل أي حمض أميني. ولهذه التكويدة سمة مهمة: وهي أنها مزيدة. ذلك أن جميع الجينات وحموض الرنَا المرسال التابعة لها مرتبة في «كلمات» مؤلفة من ثلاثة أحرف تدعى كودونات(5) codons. ويمكن تكوين 64 كودونة(6) مكونة من ثلاثة أحرف انطلاقا من أبجدية النكليوتيد الرباعية. وتؤدي ثلاث كودونات دور إشارات لإيقاف ترجمة الرنَا، وهذا يترك مجالا لإحدى وستين كودونة محتملة لتحديد أبجدية پروتينية مكونة من 20 حمضا أمينيــا فقــط، وهكذا فإن كل حمض أميني تقريبـا تحدده أكثر من كودونـــــــة واحـدة. وعلى ســــبيل المثــــــال، فــــــإن جميــــــع الكــودونــــــات التي تبـــــــــــــدأ بـ GGU ،GGG،GGC ،GGA) GG)يمكن ترجمتها إلى الحمض الأميني ـليسين، وهــذا يجعـــل من هـــذه الكودونات مرادفــــات لكلمة واحدة.
إن تغيير حرف واحد من الدنا، وهو الذي يعرف بالطفرات النقطية، يمكنه تغيير كودونة إلى أخرى تحدد حمضا أمينيا آخر خاطئا (وهذا ما يعرف بالطفرة الخاطئة)، أو إلى إشارة توقف (طفرة لا معنى لها) تسبب بتر الپروتين النهائي. كما أن تغيرا يطرأ على قاعدة واحدة يمكنه أن يغير كودونة إيقاف، وبهذا فإن القاعدة تكوّد حمضا أمينيا (طفرة مؤثرة)، ممّا يؤدي إلى تشكيل پروتين أطول. وهناك أيضا تغير أخير ممكن: وهو الطفرة التي تغير النكليوتيد، ولكنها تولد كودونة مرادفة. هذه الطفرات هي التي ندعوها طفرات «صامتة».
دليل التحيّز(***)
بالتأكيد، تكثر الأمثلة على الأنواع الثلاثة الأولى للطفرات النقطية والتي لها أثر كبير في صحة الإنسان. وهناك, مثلا, ثلاث طفرات نقطية مختلفة في الجينات المكودة للپروتينات التي تُكون جزيئات الهيموگلوبين (خضاب الدم) في الكريات الحُمر، تعتبر مسؤولة عن ثلاثة أمراض مختلفة خطيرة. ففي حالة فقر الدم المَنْجَلي sickle cell anemia تسبب طفرة خاطئة الاستعاضة عن حمض أميني مُحبّ للماء بآخر كاره للماء، مما يؤدي إلى تكتّل الپروتينات وإنتاج كريات الدم المنجلية الشكل المميزة. وفي أمراض كثرة الكريات الحمرpolycythemia، تبتر طفرة لا معنى واحدا لها من پروتينات هيموگلوبين الدم مسبّبة لزوجة الدم. وفي التلاسيميا thalassemia تُغير طفرة مؤثّرة كودونة إيقاف (TAA) إلى كودونة للــلوتامين (CAA)، وتسبب بذلك تشكيل پروتين أطول وغير وظيفي.
حتى الثمانينات من القرن الماضي، لم يدرك العلماء أن الطفرات الصامتة يمكنها كذلك أن تؤثر في صنع الپروتينات ــ على الأقل في الخمائر Yeastوالبكتيرات Bacteria. وكان الاكتشاف الحاسم في ذلك الوقت هو أن جينات هذه العضويات لم تكن تستخدم كودونات مترادفة بأعداد متساوية. وعندما تحدد بكتيرة الإشريكية القولونية Escherichia coli الحمض الأميني أسپارجين مثلا، تظهر الكودونة AAC في الدنَا التابع لها أكثر من الكودونة AAT. وسرعان ما أصبح سبب هذا الاستخدام المتحيّز للكودونات ظاهرا: إذ إن الخلايا كانت تفضل استخدام بعض الكودونات، لأن تلك الخيارات كانت تُسرّع المعدل أو الدقة في إنتاج الپروتين.
وقد تبين أن الرنَا المنقال المتعلق بهذه الكودونات المترادفة لا يتوافر بشكل متساوٍ في الخلية. ومن ثَمّ، فالأهم من ذلك هو أن الجينة التي تحوي المقدار الأكبر من الكودونات الملائمة للرنا المنقال الموجود بكثرة تُترجم بسرعة أكبر، وذلك لأن التركيز الأعلى لحموض الرنا المنقال تلك يجعلها أكثر توافرا عند الحاجة إليها. وفي حالات أخرى، يوافق نوع وحيد من الرنا المنقال أكثر من كودونة مرادفة، ولكنه يرتبط بسهولة أكثر بكودونة محددة خاصة، وهكذا فإن استخدام هذه الكودونة يرفع دقة الترجمة إلى حدها الأعلى. ومن ثم، فإن للخلية أسبابا وجيهة لعدم استخدام جميع الكودونات بالتساوي. وكما هو متوقع في البكتيرات والخمائر، فإن الجينات التي تكود الپروتينات الوفيرة على وجه الخصوص ـــ تبدي تحيّزا أكبر للكودونات، مع تفضيلها للكودونات التي توافق حموض الرنا المنقال الأكثر شيوعا والأفضل ارتباطا.
وقد أظهرت المشاهدات اللاحقة في عضويات أخرى ــ بما فيها النباتات والحشرات والديدان ــ وجود تحيّز مماثل. ومع هذا الطيف المتنوع من الأنواع التي تستخدم هذه التقنية لتحسين فعالية إنتاج الپروتينات، يبدو أن الثدييات تفعل الشيء نفسه غالبا. فقد أظهر تحليل جينات الثدييات بالفعل ميلا إلى تفضيل بعض الكودونات. وتبين أن التشابه بين العضويات البسيطة والثدييات ليس إلا تشابها سطحيا فحسب. ولأسباب غير مفهومة تماما، فإن جينومات Genomes الثدييات مرتبة في كتل كبيــرة يتّسم كل منهــا بمحتوى نكليوتيدي متخالف بشكل ممــيز: فبعــض المناطق غني بالقاعدتين GوC، في حين بعضها الآخــر غني بالقـاعـدتين A وT. ونتيجة لذلك، فإن الجينات المتوضعة في منطقة غنية بالمتوالية G C من الجينوم تميل إلى أن يكون لها العديد من الكودونات الحاوية لهاتين القاعدتين. بعدها، تقوم جيناتنا بإبداء تحيّز لاستخدام بعض الكودونات، ولكن بخلاف العضويات البسيطة، لا يوحي نموذج الثدييات أن السبب في ذلك هو عملية تركيب الپروتين.
بدت هذه الاكتشافات لسنوات عديدة وكأنها تُقلل من احتمال أن تكون الطفرات الصامتة ذات تأثير في وظائف جسم الإنسان. ولكن اعتبارا من بدايات القرن الحادي والعشرين بدأت المقارنة بين الجينات نفسها في الأجناس المختلفة تشير إلى أن هذا الرأي الجامد غير صحيح. ويستطيع الإنسان أن يقيس معدل افتراق تسلسل الجينات بين جنسين مختلفين عن طريق مقارنة المواقع التي تغيرت فيها النكليوتيدات والمواقع التي بقيت فيها كما هي. ومن حيث المبدأ، فإن أي طفرة لا تؤثر في كائن حي لا تكون مرئية بالنسبة إلى ظاهرة الانتخاب (الانتقاء) الطبيعي التي تحفظ التغييرات المفيدة. وبناء على طريقة التفكير في ذلك الوقت، فإن المناطق غير المرئية بالنسبة إلى الانتقاء ستتضمن مواقع طفرات صامتة بين الجينات، إضافة إلى النسبة 98 % من الجينوم التي لا تحدد الپروتين ـــ الدنا غير المكودة. ومع ذلك عندما بدأ العلماء بالنظر فيما إذا كانت المواقع الصامتة في الجينات تتطور بالمعدل نفسه مقارنة بالمناطق غير المكودة، وجدوا فروقا غير متوقعة – وهذا إشارة إلى أن الطفرات الصامتة يمكن لها بعد كل ذلك أن تؤثر في الفيزيولوجيا الطبيعية.
صمت مكسور(****) تبين أن ما يقرب من 50 مرضا تسببها كليا أو جزئيا طفرات صامتة. وفي هذه العيّنة، سببت الطفرات انقطاعا في نسخ الرنا أَثّر في إنتاج الپروتين. متلازمة عدم الاستجابة للأندروجينات Androgen-insensitivity syndrome رَنَح مترافق مع توسع الشعيرات الدمويةAtaxia telangiectasia مرض خزن إستر الكولسترول Cholesteryl ester storage disease المرض الحُبيبومي المزمن Chronic granulomatous disease داء الپوليپات الغدومية الأسري Familial adenomatous polyposis سرطان القولون الوراثي غير الپوليپي Hereditary nonpolyposis colorectal cancer مرض هيرشپرونگ (ضخامة القولون الخلقية)Hirschsprung disease متلازمة مارفان Marfan syndrome مرض ماك أردِل McArdle disease بيلة الفينيل كيتون phenylketonuria متلازمة فقر الدم المَنْجَلي Seckel syndrome استسقاء الدماغ المرتبط بالصبغي X X-linked hydrocephalus إن الذين يعانون متلازمة <مارفان> لديهم أطراف متضخّمة وطفرتان صامتتان تمنعان انفصال الرنَا في الخلايا. |
تكسير الصمت(*****)
لم يكن لدى العلماء في البداية أية فكرة عن كيفية إعاقة هذه الطفرات لتصنيع الپروتين في الثدييات. ولكن، في الآونة الأخيرة وفرت الدراسات على الأمراض البشرية ليس فقط آلية واحدة فقط وإنما عدة آليات. فالطفرات الصامتة المسبّبة للأمراض تتدخل في مراحل متعددة من عملية صنع الپروتين، وذلك بدءا من نسخ الدنا وصولا إلى ترجمة الرنا المرسال إلى پروتينات.
إن واحدا من الأمثلة المتعلقة بالتغيير الذي تحدثه الطفرات الصامتة هو كيف يتم تنقيح نسخة جينة من الجينات. وبعد قليل من انتساخ جينة على شكل رَنا، يتم تشذيب هذه النسخة لإزالة المناطق غير المكودة التي تدعى إنترونات introns. ومثلما يقوم مخرج الفيلم السينمائي بإزالة الأجزاء غير المرغوب فيها من الفيلم، يتعين على آلة التضفير الخلوية(7) العثور على القطع الجيدة التي تكوّد الحموض الأمينية، والتي تُعرَف بالإكسونات exones، ثم تضفيرها معا لتنتج نموذج الرنَا المرسال النهائي للجينة. فالجينات البشرية غنية بالإنترونات بشكل خاص، بحيث يكون لكل جينة معدل وسطي من ثماني وصلات إنترونية طويلة، ولذلك، فإن آلة التضفير الخلوية تحتاج إلى طريقة تخبرها أين يبدأ كل إكسون وأين ينتهي.
وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت خلال السنوات الأخيرة أن الإكسونـات لا تحدد الحموض الأمينية فقط، وإنما تحتــوي أيضا ضمن متوالياتها على علامات ضروريـة لإزالة الإنترونات. ويترأس هـذه المجموعـة محفّزات التضفير الإكسوني(8) (ESE) ــ وهي عبارة عن سلاسل قصيرة مكونة من 3 إلى 8نكليوتيدات تتوضع قرب نهايات الإكسونات، وتُعَرّف الإكسون على آلة التضفير الخلوية. إن الحاجة إلى مثل هذه المحفّزات تفسر تفضيل بعض النكليوتيدات في الجينات البشرية. ومع أن الكودونتين GGA وGGG اللتين تكودان الــليسين يمكن لهما أن توجدا ضمن محفزات التضفير، فإن الكودونة الأولى تؤدي دور محفّز أقوى، مسببة المزيد من التضفير الفعال. وتكون الكودونة GGA عادة أكثر قربا من نهايات الإكسونات.
[أساسيات] صمت في الكود(******)
إن الكود الجيني الذي يتحكم عن طريق الرنا في الكيفية التي تترجم بها الخلية تعليمات الدنا إلى پروتينات وظيفية هي بطبيعتها استثنائية بسبب كونها مزيدة. فالجينات «المكتوبة» في نكليوتيدات الرنا تنطق بتسلسل الحموض الأمينية في پروتين مُكوّد باستخدام كلمات مؤلفة من ثلاثة أحرف تدعى كودونات(9) codons توافق واحدا من عشرين حمضا أمينيا (الجدول). وباستخدام أبجدية من أربع قواعد نكليوتيدية، يمكن تشكيل 64 كودونة ثلاثية ــ وهذا يؤدي إلى كودونات عديدة يمكنها تحديد الحمض الأميني نفسه. والطفرة الطارئة على الرنا التي تغير واحدة من هذه الكودونات إلى مرادفتها، يجب أن تكون بالضرورة «صامتة» فيما يتعلق بصنع الپروتين.
بما أن قواعد الرنا الأربع ( A, C, G, U) تولد 64 تركيبة ثلاثية ممكنة، فإن أكثر من كودونة واحدة يمكنها تحديد حمض أميني معين. تختلف الكودونات المترادفة فقط في الموقع النكليوتيدي الثالث. الترجمة إلى پروتين في سيتوپلازما الخلية، تقوم الريباسات بإزالة انثناء الرنا المرسال وقراءته، وتنتج سلسلة الحموض الأمينية المكوّدة بمساعدة جزيئات الرنا المنقال. يقوم كل رَنا منقال بتسليم حمض أميني للريباسة مرتبطا بكودونة الرنا المرسال المطابقة للتأكد من أن الحمض الأميني الصحيح قد أضيف إلى السلسلة. تبدأ بعدها سلسلة الحموض الأمينية بالانثناء لتشكل پروتينا ثلاثي الأبعاد أثناء حصول العملية.
الانتساخ والتنقيح داخل نواة الخلية، ينفك اللولب المزدوج للدنا ليسمح بإجراء نسخة من الرنَا عن الجينة. بعد ذلك، تنقح النسخة الناتجة لإزالة الأجزاء التي لا تكوّد حموضا أمينية، مُولدة عينة أقصر من الرنَا المرسال. إن تجميع أزواج القواعد في نكليوتيدات الرنا يسبب انثناء بنية جزيء الرنا المرسال. |
ودعما لوجهة النظر القائلة بأهمية الحفاظ على تسلسل الكودونات في محفزات التضفير، فإن الأبحاث التي قمنا بها مع زميلتنا الجامعية السابقة <G.بارملي> قد بينت أن المحفّزات الإكسونية التي تعمل ظاهرا كمحفزات تضفير تبدي تطورا أبطأ في كودوناتها المرادفة من المتواليات المجاورة غير المشاركة في التضفير. وهذا التطور البطيء يدل على أن الانتقاء الطبيعي قد احتفظ بمحفزات التحريض تقريبا من دون تغيير، لأن متوالياتها النوعية ذات أهمية كبيرة. إن التغيرات الصامتة الطارئة على كودونات تحتوي على هذه المحفزات، على الرغم من أنها لا تغير حمضا أمينيا، يمكن أن يكون لها أثر كبير في الپروتين لأنها تعيق الإزالة الصحيحة للإنترونات.
[مشكلة تنقيح] علامات التضفير المتغيرة(*******) يمكن للكودونات المترادفة أن تحدد الحمض الأميني نفسه، ولكن الطفرة التي تغير كودونة واحدة إلى مرادفتها يمكن أن تغير رسالة مكودة من الجينة إذا تدخلت في عملية تنقيح الرنَا المرسال الخلوي. وهناك العديد من الأمراض التي تسببها أخطاء تنقيح مشابهة، وتُوضح جينة متورطة في داء التليّف الكيسي(10) كيف تسبب الطفرات المسماة بالصامتة تغييرا في معنى پروتين جيني (انظر أدناه). تضفير الرنا الطبيعي إن نسخة الرنا الخام لجينة من الجينات تحتوي على إكسونات تكوّد حموضا أمينية، وقطعا طويلة من الإنترونات غير المكودة التي يجب أن تنقح خارج الرنا المرسال النهائي. وفي داخل كل إكسون تعمل المتواليات النكليوتيدية القصيرة كمحفزات تضفير إكسونية (EGE) تُعَلِمُ أطراف الإكسون لكي تتعرّفها آلة التضفير الخلوية. إن اتحاد الپروتينات المنظمة للتضفير(11) SR مع مواقع المحفزات يوجه پروتينات «الجسم المضفر» إلى نهايتي الإنترون التي تقطعها من النسخة قبل أن تصل نهايتي الإكسون معا. تجاوز الإكسونات إن تغيرات نكليوتيد وحيد مُرادف يمكن لها أن تجعل تسلسل محرض التضفير غير مرئي من قبل آلة التضفير، مما يؤدي إلى ترك إكسون كامل خارج الرنا المرسال النهائي. تغير الپروتين إن تغيرات جينة مستقبل الموصلية عبر الغشائية في داء التليف الكيسي(CFTR(10 التي تعيق إنتاج الپروتين المستقبل هي التي تسبب داء التليّف الكيسي والعديد من الأمراض المتعلقة به. وفي تجربة لمعرفة ما إذا كانت الطفرات الصامتة تؤثر كذلك في پروتين مستقبل الموصلية عبر الغشائية، قام بعض العلماء بإحداث طفرات وحيدة النكليوتيد، واحدة تلو الأخرى، لإيجاد كودونات مترادفة في الإكسون 12 للجينةCFTR، ثم قاموا بتحليل ودراسة الپروتينات الناتجة. سببت كل من الطفرات الست المترادفة (ربع الطفرات المدروسة) تجاوز الإكسون 12أثناء تنقيح الرنا المرسال، مؤدية إلى إنتاج الپروتين CFTR مبتور. |
وبالفعل، فعندما قام <W.فيربرازر> [الذي يعمل حاليا في جامعة براون] وزملاؤه [في مختبر كريستوفر بورج في معهد ماساشوستش للتقانة] بمقارنة نهايات الإكسونات، وجدوا أن البشر متشابهون فيما بينهم. فهذه المناطق المتعلقة بالتضفير ينقصها التمايز إلى حد كبير، حتى في المواقع التي يمكن أن تكون الطفرة فيها صامتة. والسبب في ذلك ليس عدم حدوث الطفرات في نهايات الإكسونات، ولكن الطفرات عندما تحدث تكون مُخربة بشدة لإنتاج الپروتين، بحيث تميل إلى أن تكون مدمرة وتختفي بذلك من البشر الأحياء.
وحتى اليوم تم ربط خمسين اضطرابا وراثيا بالطفرات الصامتة، ويبدو أيضا أن الكثير منها يتدخل عن طريق إزالة الإنترون. وباستطاعة محفزات التضفير أن تتراكب فوق طول لا بأس به من السلسلة المكوّدة لپروتين الجينات، فارضة بذلك قيودا مهمة على مكان قبول الطفرات الصامتة. إن المثال الصارخ للأذى الذي يمكن أن تحدثه طفرة في محرض التضفير قد تم توثيقه من قبل <F.بارالّي> [في المركز العالمي للهندسة الوراثية والتقانات الحيوية في مدينة تريست بإيطاليا]. فقد وجد الباحثون أن 25 %من الطفرات الصامتة التي أحدثوها في إكسون واحد من الجينة المنظّمة لموصلية غشاء التليف الكيسي(CFTR(12 قد منعت التضفير، ومن المفترض أنها بذلك سببت حدوث التليف الكيسي والاضطرابات المتعلقة به.
هذا لا يعني أن إعاقة التضفير هي الآلية الوحيدة التي يمكن أن تسبب بها الطفرات الصامتة المرض. حتى ولو أزيلت الإنترونات بشكل صحيح من نســخة الرنَا، فإن الرنَا المرســـال قـــد لا يلتف كما يجب. وبعكس ما هو مذكور في الكتب المرجعية أحيانا (للتبسيط)، فإن الرنا المنقال ليس مجرد شريط مستقيم بسيط. وكما هو الحال بالنسبة إلى أزواج النكليوتيدات التي تتشكل بين شريطي (طاقي) الدنا، فإن مناطق منفصلة من الرنا المرسال يمكن لها أن تكون متكاملة، وسوف تتزاوج لتشكل بنية ملفوفة معقدة تُعرف بالعُروة الجذعيةstem-loop. إن الطريقة التي يلتف بها الرنَا المرسال على نفسه تحدد استقراره، والذي بدوره يؤثر في سرعة ترجمته من قبل الريباسات إضافة إلى تحلله اللاحق بواسطة جهاز التنظيف الخلوي.
يحمل الماعز المستنسخ Designer goats جينات للپروتين البشري بوتيل كولين إستيراز(13) الذي يستخلص من حليبها لصناعة دواء مضاد للذيفان (سُم البكتيريا). إن تصميم الجينات المستخدم في التقانة الحيوية يمكن أن يستفيد من معرفة التغيرات النكليوتيدية المتُرادفة التي تكون صامتة فعلا، ويمكنها أن تؤثر في الپروتين الناتج أو في فعالية إنتاجه. |
[تطبيق] لقاح متحيّز(********) إن التلاعب بمواضع الطفرات المترادفة قد سمح للعلماء بتصميم جينات تُسرّع تصنيع الپروتين، ولكن التقنية نفسها يمكن استخدامها كذلك في إبطائـــه. ففـي الآونـــــة الأخيــرة، قـــام <S.مولر> وزملاؤه [في جامعة ستوني بروك] باللجوء إلى هذه التقنية لتصميم لقاح أكثر أمانا لشلل الأطفال. فالڤيروسات الحية تعطي اللقاحات الأكثر قوة لأنها تحرض استجابة مناعية قوية لدى المتلقي، ولكن الڤيروسات الحية يمكنها كذلك أن تتكاثر وتتعرض للطفرات، ومن ثم يمكنها أن تسبب مرضا. وقد استفادت مجموعة <مولر> من ميل الميكروبات إلى استخدام بعض الكودونات لزيادة فعالية إنتاج الپروتين إلى الحد الأقصى عن طريق تصميم ڤيروس سنجابي Poliovirus استبدل كودونات أندر وأقل كفاءَة في المتواليات التي تكوّد غلاف الڤيروس. وكان الڤيروس الناتج قادرا على التكاثر، ولكن بسرعة أقل من المعتاد. وبعد أن أعطي الڤيروس المُعدل للفئران، تولدت لديها لاحقا حماية ضد الڤيروس السنجابي الموجود في الطبيعة. إن هذه التقنية التي تستفيد من تحيّز الكودونة لإيجاد لقاح حي، ولكن مُضَعَّف، يمكن استخدامها لعوامل مُمرضة أخرى لإنتاج لقاحات قوية ولكن أكثر أمانا. |
في الجينة D2 المستقبلة للدوپامين، التي تكوّد مستقبلا على سطح الخلية يتحرّى عن وجود الناقل العصبي الدوپامين، تسبب طفرة صامتة تحطيم الرنَا المرسال بسرعة أكبر من الطبيعية. ونتيجة لذلك, يتم تصنيع كمية أصغر من الپروتين المكوّد، ما يؤدي إلى حدوث اضطرابات استعرافية cognitive disorders(وظائف دماغية عليا). في المقابل، تزيد طفرة صامتة في جينة الكاتيكول ــ O ــ متيل ترانسفيراز(COMT) (14) درجة انثناء الرنَا المرسال، ربما بزيادة المادة المصنعة بحيث يصبح من الصعب عودتها للاستواء قبل ترجمتها – ما يؤدي إلى خفض تصنيع الپروتين. وقد وجدت <J.A.ناكلي> وزملاؤها [في جامعة نورث كارولينا في شاپل هيل] أن هذه الطفرة تؤثر في عتبة الألم؛ ولعله من غير المفاجئ أن يكون هذا البحث قد أجري في كلية من كليات طب الأسنان.
ثمة مثال آخر لطفرة صامتة تصيب پروتينا وتعتبر من بين التأثيرات المباشرة التي تخضع لها جينة تدعى الجينة المقاومة المتعددة للأدوية 1. تسمى الجينة هكذا؛ لأن ناتجها الپروتيني هو مضخة خلوية تساعد مرضى السرطان على طرد أدوية العلاج الكيميائي، وتسبب بذلك مقاومة هذه الخلايا للعلاج. وقد وجدت <Sh.كيمشي ــ سارفاتي> وزملاؤها [في المعهد الوطني للسرطان] أن التغير الصامت قد سبّب التواءً غير سوي للمضخة الپروتينية مما أنقص قدرة الخلايا على طرد الدواء. وبما أن عمليتي الترجمة وانثناء الپروتين يمكن أن تحدثا في الوقت نفسه، فقد تخيل الباحثون أن الكودونة المرادفة الأكثر نُدرة التي أنتجتها الطفرة الصامتة قد سببت توقفا خلال عملية الترجمة، وهذا بدوره ما أعطى الوقت للپروتين ليتبنى تركيبا غير عادي. وإذا كان هذا التوقف يحدث فعلا، فإن السبب الدقيق له غير معروف، ويمكن إضافته إلى لائحة الألغاز غير المحلولة حتى الآن فيما يتعلق بعمل الجينات والپروتينات.
الجينات الفعّالة والدواء الفعّال(*********)
إن واحدا من الدروس التي يستطيع العلماء استخلاصها من الاكتشافات الحديثة المتعلقة بتأثيرات الطفرات الصامتة هو أن يكونوا حذرين في ادعاءاتهم. إن الثقة بوجوب أن تكون الطفرات المترادفة «صامتة» كانت سائدة عندما لم تكن هناك آلية تربط تغيرا صامتا بتغير في إنتاج الپروتين. ولكن على ضوء الأمثلة الصارخة التي ذكرت سابقا، فإن هذا الموقف لم يعد له ما يبرره.
إن الاعتراف بفعالية الطفرات غير الصامتة تماما بدأ يساعد الباحثين على تحسين وسائل الهندسة الوراثية. كما أن معرفة النكليوتيدات التي يجب الاحتفاظ بها في الجينة، وتلك التي يمكن فرضا استبدالها، لها تطبيق مباشر في مجال التقانة الحيوية. فالعلاج الجيني وصناعة إنتاج الپروتينات (مثل الأدوية العلاجية) التي تستخدم الحيوانات أو الميكروبات microbes تعتمد على القدرة على تصميم وتركيب الجينة، ثم إدخالها في جينوم الخلية. إن إيجاد جينات تعمل بكفاءة هو عمل مفعم بالصعوبات، ومن بينها التأكد من أن الجينة المُقْحَمة المُقَدمة حديثا قد تم تفعيلها في الخلية، بحيث تكون الكميات المناسبة لپروتينها المكوّد قد أُنتجت. وهنا يأتي دور الاستجابة لآثار الطفرات المتُرادفة وليس الصامتة.
[مشكلة ترجمة] رسالة مكبوتة(**********) تبين أن الطفرة المُرادفة يمكن أن تؤثر في عتبة الألم من خلال تغيير كمية إنزيم تنتجه الخلايا. ينتج الفرق من تغيرات في شكل الرنا المرسال الذي يستطيع أن يؤثر في سهولة قيام الريباسات بفك وقراءة الشريط. إن الشكل الملتف يسببه تزاوج قواعد النكليوتيدات التابعة للرنا المرسال؛ ولذلك فإن طفرة مُرادفة يمكنها أن تغير الطريقة التي تتزاوج بها النكليوتيدات. أشكال متغيرة للجينة COMT توجد أشكال مختلفة من الجينة كاتيكول ــ O ــ متيل تراسفيراز (COMT) تترافق مع عتبة ألم منخفضة (LPS) أو عتبة ألم متوسطة (APS) أو عتبة ألم مرتفعة (HPS). ومع أن الفروق بين المتوالية الأكثر نمطية (APS) والأشكال الأخرى موجودة في ثلاثة مواقع من إكسونات الجينة، فإن واحدا من التغيرات (الأرجواني الفاقع) هو الذي يُعدل الحمض الأميني المكوّد. وكان الاعتقاد أن الطفرة هي المسؤولة عن الفرق في عتبة الألم بين الأشخاص، ولكن كلا من الأفراد ذوي العتبة المنخفضة LPS أو العتبة المرتفعة HPS لديهم القاعدة G نفسها في ذلك الموقع، ولذلك فلا يعقل أن يكون هذا هو التأثير الوحيد. وفي الحقيقة، فإن واحدة من الطفرات المُرادفة (الأزرق) مسؤولة عن 7% من الفروق في عتبة الألم. التراكيب الأكثر تعقيدا تولد مقدارا أقل من الإنزيم(***********) أظهر العلماء أن التغيير النكليوتيدي غير المرادف والتغيير المرادف الثاني ينتجان أشكالا مُلتوية للرنا المرسال تختلف كثيرا عن المتوالية النمطية. وقد سببت التراكيب البديلة الناتجة للرنا المرسال فرقا يقدر بخمسة وعشرين ضعفا في تركيز الإنزيم COMT في خلايا الأشخاص ذوي العتبة المنخفضة والمرتفعة للألم. |
في الجينات البشرية تبدو معظم الإنترونات غير ضرورية (يبدو أن واحدا فقط، وهو الإنترون الأول عادة، يلزم للجينة لإنتاج پروتين). هذه المشاهدة تعني أن جينات مُقحَمة يمكن أن تصبح مُحكمَة بانتزاع الإنترونات. وهي تعني كذلك أن بعض مواقع الطفرة الصامتة يمكن قرصها بدون تأثير ضار، لأن استبعاد الإنترونات يتماشى مع حاجات مُحفزات التضفير. ويستطيع العاملون في حقل الوراثة إذا تحرروا من هذا القيد أن يستفيدوا من هذه المواقع الصامتة لأغراض أخرى.
وتوضح تجربة حديثة، أجريت في المعهد العالمي لعلم الأحياء الخلوي والجزيئي في وارسو، كيف يمكن التلاعب بمواقع طفرة صامتة لخدمة الإنسان. فقد أخذ <G.كودلا> وزملاؤه ثلاث طفرات، ولم يفعلوا أكثر من تغيير نسب القواعد النكليوتيدية النوعية في المواقع الصامتة، ثم نقلوا الجينات المُعَدَّلة إلى خلايا بعض الثدييات. وقد وجد الباحثون بشكل ملحوظ أن زيادة المحتوى من القاعدتين G وC قد أدت إلى تفعيل الجينة وتصنيع پروتين بفعالية أكبر 100 مرة مقارنة بالنسخ المزدوجة القواعد GC الضعيفة للجينات نفسها.
إن هذا الفهم الجديد للأمور ينبغي أن يرشد الجهود المبذولة لفهم أصول أسباب المرض. إن المشاريع المستمرة لخارطة الجينوم ذات أهمية مركزية لعمليات تعقّب الجينات العديدة المسببة للأمراض، وذلك لتصنيف الاختلافات الوراثية بين البشر. فمن خلال تحديد جميع الطفرات النقطية، أو التعدد الشكلي لنكليوتيد واحد(15) SNPs لدى أشخاص يعانون مرضا معينا، يستطيع العلماء الآن أن يتجهوا مباشرةً إلى مناطق من الجينة تحتـــوي على أشــكال جينيـة مختلفــة يمكن أن تسبب المرض.
وحتى وقت ليس ببعيد افترضت هذه الدراسات أنه إذا ارتبطت عدة طفرات في جينة بوجود مرض، فإن الطفرات التي تغير تسلسل الحموض الأمينية في الپروتين يجب أن تكون الشكل المسبب له. وبالفعل، فإن الجينة COMTالمرافقة لعتبة تحمل الألم معروفة بأن لها طفرة تغير حمضا أمينيا بآخر، وهذا الشكل كان يعتقد أنه السبب الوحيد لعدم تحمل الألم. ومع ذلك، تبين أن أناسا لديهم عتبة ألم مرتفعة جدا أو منخفضة جدا يحملون النكليوتيدات نفسها في موقع تلك الطفرة، وهذا يشير إلى أنه يوجد سبب ما لاختلافهم. فنتائج التجارب التي تشير إلى أن الطفرات الصامتة في الجينة COMT هي المتهمة لم تكن مقبولة إلا عندما كانت الآلية التي يمكن لها أن تؤثر من خلالها مثبتَة.
ومن المرجح أن أسباب بعض الأمراض قد تم ربطها خطأ بطفرات تُغير الپروتينات، وذلك عندما تكون الطفرات المرادفة مُتهمة. ولا بد للباحثين من أن يأخذوا هذا الاحتمال بعين الاعتبار عندما يبحثون عن تخريب تسببه طفرة في الجينوم، كالباحث عن إبرة في كومة من القش. ومن يدري كم آلية إضافية لمثل هذه الأمراض يمكن العثور عليها بعد مثل هذه الأبحاث؟
هل تعني النتائج حتى الآن أن الطفرات الصامتة تسبب أمراضا بكثرة؟ ربما، ويمكن للمرء أن يجادل مفترضا في أن التغيرات الصامتة ذات أهمية من الناحية النظرية، وربما تكون ذات أهمية عملية، ولكنها ليست سببا للعديد من الأمراض بشكل واضح. وتوحي الدراسات الفاحصة الحديثة لتطور الجينات أن وجهة النظر هذه مقبولة جدا. وقبل سنوات عديدة، أظهر أحدنا (<هيرست>) أن المواقع الصامتة في قطعة وحيدة من الجينة BRCA1 (المرافقة لسرطان الثدي المبكر الحدوث) تتطور ببطء شديد لدى كل من القوارض والبشر. وبالمقابل، تتطور المتواليات الأخرى في هذه الجينة بسرعة طبيعية. وهذا الفرق لا يعني أن الطفرات في المواقع ذات التطور البطيء كانت نادرة، ولكن الأشخاص الذين حملوا الطفرات ماتوا قبل أن ينقلوها إلى أبنائهم. وقد تبين بعد ذلك أن هذه القطعة ذات موقع مُحفز للتضفير ـــــ أي بعبارة أخرى كانت القطعة مثالا آخر لمنطقة كانت الطفرة الصامتة فيها مدمرة لدرجة أن حاملها مات بسببها.
ما هو بالتحديد مدى شيوع القطع الجينية التي يمارس من خلالها الانتقاء الطبيعي ضغطا على المواقع الصامتة لكي لا تتغير؟ درس <هيرست> و<بارملي> هذا السؤال من خلال فحص دقيق للجينات، باحثين عن مناطق اختلف فيها معدل التطور بشكل ملحوظ في المواقع الصامتة عنه في المواقع التي تُغير الحموض الأمينية. وما فاجأنا هو أننا اكتشفنا أن قطع الدنا المحتوية على مواقع صامتة تتطور ببطء غير معتاد هي قطع شائعة نسبيا. وهي في واقع الأمر أكثر شيوعا من المناطق التي تتطور فيها الحموض الأمينية المكوّدة بسرعة استثنائية. إن امتدادا لمواقع الطفرات الصامتة التي حفظت إلى حد كبير جدا يحدث في المتوسط مرة كل000 15ــ000 10 مرة تتوالى فيها النكليوتيدات.
إننا نقدر أنه ما بين 5 % و 10 % من الجينات البشرية تحوي على الأقل منطقة واحدة, حيث يمكن أن تكون الطفرات الصامتة مؤذية. وقد أنجز <P.شاتنر> و<M.ديك> [من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز] تحليلا مشابها باحِثينِ عن مناطق واسعة في الجينات فيها مواقع صامتة محفوظة بعناية غير عادية، وقدرا أن هناك حوالي 1600 زمرة في الجينات التي قاموا بدراستهاوعددها000 12 تقريبا، وهذا يتماشى مع تقديراتنا. ولكن كلا التقديرين على الأغلب منخفض، والرقم الصحيح قد يكون أعلى بكثير. فإذا كانت هذه المواقع المحفوظة تشير إلى مواضع الطفرات الصامتة التي يمكنها أن تسبب أمراضا، وهذا يبدو ممكنا، فإن إهمالها سوف يقود حتما إلى عدم تعرف الطفرات المصاحبة للأمراض.
إن الاعتراف بأن الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي يأخذ بعين الاعتبار هذه الطفرات غير الصامتة حقا قد مضى يدا بيد مع استيعاب العلماء حقيقة أن العملية التي من خلالها تصنع الجينات الپروتين هي عملية أعقد بكثير وأكثر دقة مما كانوا يتوقعون. فالطريقة التي تتطور بها الجينات، والوسائل التي تعمل من خلالها، ذات علاقة وثيقة بدرجة من الاستيعاب كانت ضئيلة حتى قبل عقد من الزمن. إن دراسة أبعد لكلتا العمليتين سوف تستمر بإيضاح التعقيد اللافت للنظر لآليات عمل الجينومات Genomes. فالدنا مثلا ليس مجرد جزيء مستقيم، ولكنه يُرزم على شكل لفائف، ويجب فَكُّهُ للسماح بنسخه. فهل تترك آلية السيطرة على هذه العملية بصمتها على المواقع الصامتة كذلك؟ وبطريقة مماثلة، فإن سلاسل من كودونات نادرة يمكن أن تكون أكثر شيوعا مما يجب، ولكن ما هو عملها ولماذا تقوم به؟
إن الإجابات عن هذه الأسئلة وأخرى متعلقة بها لن توضح فقط مغزى تصنيع الپروتينات، فهي قد تُزودنا بمعرفة حقيقية تساعد على شفاء الأمراض.
المؤلفان
L. D. Hurst – J. V. Chamary | |
استخدما المعلوماتية الحيوية Bioinformatics لدراسة تطور سلاسل الجينوم عندما كان <شاماري> طالبا في الدراسات العليا بمختبر هيرست في جامعة باث بالمملكة المتحدة. يكتب <شاماري> حاليا عن العلم والتقنية لمجلة BBC focus magazine.
أما <هيرست>؛ فيحمل وسام الشرف للأبحاث الذي تمنحه الجمعية الملكية وولفسون, وهو أستاذ علم الوراثة التطوري وتتركز أبحاثه في فهم القوى التي تُكوّن الجينات والجينوم. |
مراجع للاستزادة
Evolution Encoded. Stephen J. Freeland and Laurence D. Hurst in Scientific American, Vol. 290, No 4, pages 84-91; April 2004.
Hearing Silence : Non-Neutral Evo-lution at Silent Sites in Mammals. J.V. Chamary. Joannal L. Parmely and Laurence D. Hurst in Nature Reviews Genetics, Vol. 7, No. 2, pages 98-108; February 2006.
Human Catechol-O-Methyltrans-ferase Haplotypes Modulate pro-tein Expression by Altering mRNA Secondary Structure. Andrea G. Nackely et al. in Science, Vol. 314, pages 1930-1933; December 2006.
Silent Polymorphisms Speak: How They Affect Pharmacogenomics and the Treatment of Cancer. Zuben E. Sauna, Chava Kimchi-Sarfaty, Suresh V. Ambudkar and Michael M. Gottesman in Cancer Research, vol. 67, No. 20 pages 9609-9612; October 15,2007.
Splicing in Disease: Disruption of the Splicing Code and the Decod-ing Machinery. G.-S. wang and T.A. Cooper in Nature Reviews Genetics. Vol. 8, No. 10, pages 749-761; October 2007.
(*)THE PRICE of SILENT MUTATIONS
(**)Synonymous but Not the Same
(***) Evidence of Bias
(****) BROKEN SILENCE
(*****)Breaking the Silence
(******)SILENCE IN THE CODE
(*******) SPLICING CUES ALTERED
(********) Biased Vaccine
(*********) Efficient Genes, Effective Medicine
(**********) MUFFLED MESSAGE
(***********) MORE COMPLEX STRUCTURES PRODUCE LESS ENZYME
(1) silent mutations
(2) ج: ريباسة ribosome وهي عُضي يوجد في الخلية الحية تصنع فيه الپروتينات.
(3) messenger RNA
(4) transfer RNA
(5) م: كودونة
(6) 43 = 64
(7) the splicing machinery
(8) exonic splicing enhancer
(9) ج: كودونة = codon
(10) cystic fibrosis
(11) splicing regulatory
(12) cystic fibrosis transmembrane conductance regulater
(13) butylcholinesterase
(14) the catechol-O-methyltransferase
(15)single nucleotide polymorphisms