أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
Advertisement
علم الإنسان

حقيقة الهيكلية الهرمية

 في أكثر الأحيان يُنظر إلى الهيكلية الهرمية Hierarchies بصفتها عائقاً أمام الابتكار، لكن عدداً متزايداً من الأوراق البحثية يُظهر أن اعتماد هيكلية صحيحة يمكن أن يساعد الفرق على تحسين قدراتها على الابتكار والتعلم.

ويمتدح الخبراء والأكاديميون والمبتكرون المحنّكون في أكثر الأحيان فضائل التخلص من الهيكلية الهرمية حرصاً على إطلاق العنان للابتكار من أجل إعطاء الفرصة لعرض كل فكرة جديدة ممكنة.1 وعلى الرغم من الجاذبية البديهية لهذه الرؤية، إلا أنها لاتصمد أمام النقد. وفي الواقع، فإن عدداً متزايداً من الأوراق البحثية ومن ضمنها دراسات أجراها كاتبا هذا المقال، يبين أن اتباع  الهيكل الهرمي الصحيح يمكن أن يساعد الفرق على تحسين قدراتهم على أن يكونوا مبتكرين ومتعلمين أفضل.2 فقد راينا كذلك ما حدث عندما تُصرُّ الفرق على اعتماد بنية مسطحة. فهي غالباً ما تفقد تركيزها وتضطرب كفاءتها وتضعف،  لأن سعيها وراء المساواة المثالية يَحُول دون تدخل الأكثر خبرة في الفريق لحل النزاعات وأداء أدوار قيادية في مجال التعلم والابتكار الجماعي.

تبديد الخرافات Debunking the Myths

تُبين الأبحاث التي أجريت على الأنواع الاجتماعية بدءاً من النمل إلى الحمار الوحشي أهمية الهيكلية الهرمية في أداء المجموعة وظيفتها.3 فعندما تكون لدى المجموعة سلسلة قيادة Chain of command، يسهل البتُّ في الاختلاف بالرأي وتمكين الفريق من أداء عمل متسق. وبدوره، يحسِّن العمل المنسق فرص البقاء على قيد الحياة. كذلك يميل البشر إلى التفكير والعمل بصورة  تراتبية.4 والواقع أننا نجد عملياً الترتيب الهرمي – وهو الاختلاف الواضح في السلطة والمكانة بين أعضاء المجموعة – لدى كل مجموعة بشرية، من الأطفال الذين يلعبون في الملعب إلى المدراء في غرف اجتماعات مجلس الإدارة. وتبعاً للظروف، يمكن أن تحدد الهيكلية الهرمية  بصورة رسمية أو تظهر بصورة طبيعية. وعلى الرغم من أن فكرة  الهيكلية الهرمية  قد تتعارض مع المعتقدات والأفكار الفطرية الديموقراطية، فإن بإمكانها أن تؤدي أدواراً مفيدة وهي تؤديها بالفعل.

تقدم لنا شركة “آيديو” IDEO  الأمريكية لتصميم المنتجات والاستشارة مثالاً مفيداً في المجال. ففي عام 1999 عرض برنامج “نايتلاين” Nightline على قناة أخبار “أي بي سي نيوز” الجهودَ التي يبذلها فريق متعدد التخصصات لدى “آيديو” لإعادة تصميم عربة المشتريات في المتاجر. ومنذ عرضه، فقد تحول شريط الفيديو إلى مثال كلاسيكي على كيفية عمل الابتكار. وفي البداية، أعرب مؤسس الشركة ديفيد كيلي David Kelley عن وجهة نظر سلبية بشأن التراتيبية بقوله: “في ثقافة ابتكارية للغاية، لا يمكنك أن تعمل على أساس تراتبي.”5 ولكن مع التعمق في تفاصيل القصة، ظهر فريق صغير من كبار موظفي “آيديو” لشرح كيف يوزع فريق تطوير المنتج وقته. وعندما سُئلوا عن أهمية التدخل، قال أحد كبار الموظفين إن عملية التوصل إلى حلول مبدعة تحتاج أحياناً  إلى أن تكون “استبدادية تماماً لفترة قصيرة جداً من الوقت.”

لدى مراجعة البحث التجريبي حول دور الهيكلية الهرمية في التعلم والابتكار الناجم عن التعلم، ومن خلال دراساتنا توصلنا إلى أن الهيكلية الهرمية المطبَّقة بصورة ملائمة تعد مكوناً أساسياً لمساعدة الفريق على المشاركة والاستفادة على النحو الأمثل من جهوده في التعلم والابتكار6 (انظر: حول البحث.)

حول البحث About the Research

لقد كان الدافع وراء إجراء بحثنا هو ما لاحظناه من عدم اتساق ما بين الخطاب والواقع في النظرية الإدارية والممارسة المتصلة بالهيكلية الهرمية . فالقول إن الهيكلية الهرمية  هي عدو الأفكار الجديدة بدا لنا مُضللاً في ضوء نتائج دراسات سابقة تقترح أن الهيكلية الهرمية  لا بد منها في المجموعات وإنها تخدم في الواقع وظائف مهمة. فقد قررنا أن نلقي نظرة من كثب على الهيكلية الهرمية  وتطبيقاتها في التعلم والابتكار بين المجموعات. وهذا المقال يلخص نتائج أربع من دراسات جي. ستيوارت بندرسن J. Stuart Bunderson التي تدرس فِرَق العمل في عدد متنوع من الشركات والقطاعات. كذلك استند هذا العمل إلى بعض من أبحاثنا الأخرى وأبحاث إضافية وخلاصات من باحثين آخرين يعملون في المجال. وقد كان هدفنا تقديم نظرة عامة تمكن المدراء والمستشارين من طرح تساؤلات بصدد الافتراضات السلبية الرائجة حول الهيكليات الهرمية.

دور الهيكلية الهرمية The Role of Hierarchy

تساعد الهيكلياتُ الهرمية فرق العمل على الابتكار بالطريقة نفسها تقريباً التي تساعد فيها الحيوانات على البقاء في البرية – إنها تتيح للفريق المضي في الاتجاه نفسه حتى عندما تهدد اختلافات قوية بمنعه من تحقيق تقدم أو حتى بتفكيكه. وقد توصلنا خصوصاً إلى أن التراتبيات تساعد الفِرَق على تكوين وتحديد واختيار أفكار جديدة من خلال أداء ثلاث وظائف أساسية (ومن ثم التنحي جانباً): تحديد إطار الحلول Bounding solutions، تقريب الأفكار Converging ideas، وتنظيم العمليات Structuring processes.

تحديد إطار الحلول

وخلال توليد الأفكار تحدِّد الهيكليات الهرمية أطر الابتكار وأهدافه. ومن مفارقات الابتكار أن الأفراد يبدعون أكثر عندما تكون لديهم مُحدِّدات واضحة يجب أن تتطابق معها حلولهم (مثل: الوقت، والميزنية، ومتطلبات المُستهلك… الخ.)7 ولكن الفِرَق لا تجيد وضع قيود Constraints على نفسها. ويستطيع أفراد الفريق المؤثرون أن يسرِّعوا عملية التعلم من خلال وضع قيود واضحة للابتكار وإفساح المجال واسعاً أمام الفريق للاستكشاف ضمن تلك القيود.

تقريب الأفكار

في المراحل الأولى للابتكار، تطرح الفرق تشكيلة واسعة من الأفكار والاحتمالات. لكن، في النهاية، تكون بعض الأفكار واعدة أكثر من غيرها وذلك جزئياً لأنها تنسجم بصورة أفضل مع قدرات الشركة ومواردها.8 ويمكن للهيكلية الهرمية هنا أن تساعد من خلال مساعدة الفرق على تقرير ما هي الأفكار الواعدة والتي ينبغي الاحتفاظ بها وتطويرها، وأي هي تلك التي ينبغي وضعها جانباً، وتلك التي تذهب إلى سلة المهملات. ومثلما لاحظ كيلي مدير “آيديو” فإن الابتكار في مراحله الأولى هو “عملية فوضوية”.9 ومن أجل الانتقال من توليد الأفكار إلى تنقيحها وتطبيقها، تحتاج الفرق إلى تطوير آليات للتقرير ما هي الأفكار التي ينبغي التركيز عليها. قد يكون قول هذا أسهل من الفعل – وقد يتعلق أفراد مختلفون من الفريق عاطفياً بأفكار مختلفة. ومن خلال المساعدة على التقريب بين أفكار الفريق وتوجيهه، تحفظ الهيكلية الهرمية  الفرق من الضياع في استكشافات عقيمة.

هيكلة العمليات

في النهاية، يتطلب خوض العملية التعلُّمية من أعضاء الفريق توظيف معرفتهم المتخصصة من أجل اقتراح أفكار جريئة وتحدي المحظورات. ولكن مثل هذه السلوكيات تنطوي على مجازفة في العلاقات بين أعضاء الفريق كونها تعرض الأفراد للسخرية والجزاءات الاجتماعية؛ ومن ثم تحتاج الفِرق إلى اعتماد قواعد وإجراءات تقلل من هذه المخاطر وتمكن أعضاء الفريق من الانخراط في عملية التعلم.10

يمكن للهيكلية الهرمية أن تساعد هنا أيضاً من خلال وضع قواعد أساسية تمكِّن وتشجع الأفراد على طرح أفكارهم. وقد بيّنت الأبحاث أن مجموعات العصف الذهني Brainstorming تواجه وضعاً صعباً في غياب هرمية توفر هيكلية تنظم ما يمكن أن يكون عملية عشوائية.11 ولهذا الغرض، فقد أجرى أحدنا مسحا وقابل فِرقا تعمل في شركة “فورتشن 100” Fortune 100  للتكنولوجيا وبرهن على أن الفرق التي لديها هيكلية هرمية واضحة أدت عملها على نحو أفضل في إيجاد بيئة ملائمة واعتماد قواعد شجعت كل عضو فيها على طرح أفكاره والمشاركة بمعارفه.12 وباختصار، فإن الوضوح في تحديد مَن هو المسؤول وكيف يساهم كل عضو، يمكن أن يساعد كل فرد في الفريق على أن يشعر بأنه قادر – ويتعين عليه – أن ينخرط في عملية التعلم، ويمكن أن توفر له طريقة منظمة لفعل ذلك.

عندما لا تكون هناك حاجة إلى من لديهم مسؤوليات أكبر في المجموعة للمساعدة على وضع الحدود والتقريب أو التنظيم، يتعين عليهم أن يتنحوا جانباً لكي يتمكن الفريق من أداء المهمة التي تُحسن الفرق أداءها ألا وهي المشاركة والمناقشة والاستماع إلى مختلف وجهات النظر والمعارف التي تستنبط طرقاً جديدة لحل المشكلات. وبعبارة أخرى، فإن الهيكلية الهرمية  المثلى هي تلك التي لا تكون ظاهرةً معظم الوقت وتعمل في الخلفية ولا تتدخل سوى عندما يتطلب الأمر سلطة أعلى من أجل تسيير الأمور وضمان المضي قدماً؛ فحتى الهيكلية الهرمية سليمة النوايا تتحول إلى إشكالية عندما يكون المسؤولون شديدي الوطأة ويتدخلون عندما لا تدعو الحاجة إلى تدخلهم.

ضمان نجاح الهيكلية الهرمية

يبدي الناس شكوكاً حيال الهيكلية الهرمية  لسبب، ذلك أنها في بعض الأحيان تخنق الأفكار الجيدة والعملية التعلمية التي تقود إلى استنباط أفكار جيدة. وعلى سبيل المثال، ألقي باللوم على طويلا على الهيكلية الهرمية  المُختلَّة وظيفياً في كساد عانته شركات مثل جنرال موتورز.13

إذن، كيف يمكن للشركات أن تشجع التعلم والابتكار؟ إليكم فيما يلي ثلاثة أمور يمكن أن يفعلها القادة للاستفادة من قوة الهيكلية الهرمية  في دفع عمل الفِرق وفي الوقت نفسه تجنب عثراتها.

شكِّل سلسلة قيادة واضحة. تعاون أحدنا مع باحثين آخرين مؤخراً بدراسة فرق تعمل في أكثر من خمسين مؤسسة وشركة بهدف فهم كيف يؤثر شكل الهيكلية الهرمية للفريق في النزاعات والأداء.14 وتوصلت الدراسة إلى أن الهيكليات الهرمية تؤدي عملها على أحسن وجه عندما لا يكون لديها أي خلط بشأن من يأتمر لمَن. فقد كانت الفِرق التي لديها تسلسل قيادي واضح (وضوح واتفاق بشأن من يأتمر لمن) أقل عرضة للغرق في النزاعات والمآزق مقارنة بالفرق التي كانت السلطة فيها دورية. وفي الواقع، فقد خلصت دراسة شملت 62 فريقاً يعمل في البحث والتطوير الدوائي أن الفرق ذات الهرمية الواضحة كانت أكثر انخراطا في عملية تعلم ذات أهمية مركزية في عملية التحديث والابتكار.15

ابنِ ثقافة أساسها الأداء. يعني تسلسل القيادة الواضح أن بعض أعضاء الفريق سيأتمرون لآخرين يُعدُّون “أعلى رتبة” منهم من حيث المكانة والتقدير. ويعرف كثيرون منا ما يعنيه أن تكون في وضع يتولى فيه أشخاص غير أكفاء إدارة الأمور. إذن، كيف يمكن للفِرق أن تحسِّن فرص الأفراد ذوي المعارف الأنسب في تولي موقع أعلى في التسلسل الهرمي؟

ويكمن مفتاح ذلك في جعل الفرق تتعرف على الأفراد الذين يمتلكون المعرفة الحقيقية. يصعب وضع هذا الأمر موضع التطبيق في أكثر الأحيان وذلك جزئياً لأننا نميل إلى التحيز الضمني بشأن الصفات أو الخلفيات التي يُستدل بها على الخبرة والكفاءة. وعلى سبيل المثال، فقد خلصت دراسة في شركة التكنولوجيا المتقدمة “فورتشن 100” وبصورة لم تكن مفاجئة، إلى أن الفِرق تُبلي على نحو أفضل عندما يكون أفرادها الأكثر خبرة في موقع أعلى في تراتبية الفريق. ولكن تلك الدراسة خلصت كذلك إلى أن الفرق تولي اهتماماً للأمور الخطأ عندما تقرر من سيحظى بتأثير أكبر أو أقل – أمور مثل الجنوسة والعرق بدلاً من التدريب والمهارة والخبرة.16 ونظراً لأن هذه التحيزات تعمل دون مستوى وعينا، فإنه من الصعب تصحيحها إلا في حال التشديد على دلالات أكثر دقة على صلة بالمهارات.

وأحد الطرق التغلب على التحيز هي بناء ثقافة قوامها الأداء، حيث يُقاس الأداء، ويُعمم ويُحتفى به. وتفيد الدراسات أنه عندما يحظى الأفراد بفرص إظهار ما يمكنهم فعله، يبرز الخبراء من بينهم ويتبوؤون أعلى مرتبة.17 وإضافة إلى ذلك، عندما يتوفر دليل موثوق به على أن الأشخاص الأقل إثارة للجلبة هم أقدر على اتخاذ قرارات متبصرة، ستحد المجموعات من تأثير أشباه الخبراء المتحذلقين.18 وبعبارة أخرى، تستمع الفرق إلى الخبراء عندما تتمكن من تحديد من هم أصحاب الخبرة. وتستند تراتبيات الفرق في الثقافات القائمة على الأداء بصورة أرجح على الخبرة والدراية وبصورة أقل على الصفات الشكلية.

استعِن بآراء الفريق. تكمن طريقة أخرى لتحسين عمل الهيكلية الهرمية  في تشجيع المسؤولين عن الفريق على التصرف بطرق تدعم الفريق بدلاً من تقديم مصلحتهم الخاصة. كيف يمكن ضمان حدوث ذلك؟ فقد عمل أحد المؤلفي هذه المقالة مع مجموعة باحثين من هولندا على دراسة هذا السؤال في 46 فريقاً من مجموعة واسعة من القطاعات بما فيها القطاع المصرفي والطب وتطوير البرمجيات والاستشارات الإدارية.19 وخلصت الدراسة، خلافاً لما بينته أبحاث سابقة،20 إلى أن اختلاف درجات السلطة داخل الفرق لم تلحق الأذى بالضرورة بعملية التعلم. وفي الواقع، فقد شجعت الهيكلية الهرمية  التعلم والأداء عندما كان الفريق ككل معنياً بتحقيق الأهداف وبتلقي الآراء والتعليقات، لكنها كبحت التعلم والأداء عندما كانت الأهداف والآراء الراجعة Feedback تتمحور حول الأفراد.

إن أهداف المجموعة والآراء الراجعة  تشجع المسؤولين في المستويات الأعلى على تسخير موقعهم المميز لتشجيع الأفراد على التعاون من خلال تشارك المعلومات والتجربة والتفكير معاً. أما الأهداف والآراء الراجعة الفردية، فإنها تجعل الأفراد يركزون على مهامهم ونتائجهم الفردية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى