أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
Advertisement
الطب وصحةالكيمياء الحيويةبيولوجيا

الهندسة المناعية: إعادة تصميم الأجسام المضادة لهزيمة الأمراض  بطريقة أفضل

 الأجسام المضادة هي سلاح حيوي في ترسانة جهازنا المناعي. يمكننا الآن إعادة تصميمها بطريقة غير مسبوقة بهدف تعزيز قدرتنا على مكافحة السرطان والفيروسات مثل فيروس الإيدز،  وفق ما صرح به الاختصاصي بعلم  المناعة دانيال أم. ديفيس

إن عجائب العالم تميل إلى أن تكون مُلفتة للنظر بوضوح. حيثُ لا يُمكنكم أن تُفوتوا الفرصة لزيارة وادي غراند كانيون Grand Canyon، على سبيل المثال، أو هرم الجيزة الكبير. بينما يُمكن أن يُغفر لكم إغفال عجائب البيولوجيا البشرية الرائعة. ومن السهولة أن نعتبر الدماغ أو الحمض النووي من الأمور المُسلم بها. ومع ذلك، طوال عام 2020 أو نحو ذلك، وفي ظل المعاناة من جائحة الفيروس التاجي Coronavirus pandemic، صرنا جميعاً نُقدر الأعجوبة -التي هي جهازنا المناعي- تقديرا أفضل، ذلك الجهاز الذي يتكون من  مجموعة واسعة ومتنوعة من الخلايا والجزيئات التي تدافع عنا ضد الفيروسات والغزاة الآخرين. فقد احتل جُزيء واحد على وجه الخصوص الطَلِيعَة، ألا وهو : الجسم المُضاد Antibody. فهذه الأجسام التي هي على شكل الحرف ((Y، والتي ننتجها استجابة للعدوى، هي جزءٌ حيويٌ من أنظمتنا الدفاعية. وهي أيضاً أساس العديد من أهم الأدوية. لكننا لم نستنفد إمكاناتها حتى الآن – بل نحن أبعد ما يكون عن ذلك. 

عادةً، استخدامنا الأجسام المُضادة في الطب كما هي في الطبيعة، حتى ولو كنا نختار تلك التي نحتاج إليها وننتجها بكمياتٍ هائلة. الآن بمقدورنا فعلُ أكثرُ من ذلك بكثير. بالتلاعب بالجينات Manipulating genes في الخلايا التي تنتج الأجسام المضادة، أو قص ولصق أجزاء من البروتينات مع بعضها البعض، لكي نستطيع أن نُعيد هندسة بُنيتها لتكوين جزيئات مناعية تحت الطلب.

في مختبري بجامعة مانشستر University of Manchester بالمملكة المتحدة، نستخدم الفحص المجهري فائق الدقة لنرى الكيفية التي يعمل بها الجهاز المناعي على النطاق الجزيئي. ومختبرنا واحد فقط من الآلاف من المختبرات التي تُجري الأبحاث نفسها، مما يوقد شعلة عصرٍ جديد من هندسة الأجسام المضادة. وفي ظل إنتاج الباحثين حالياً لجميع أنواع الأجسام المضادة المصنوعةِ خصيصاً، من تلك التي تخدع الخلايا السرطانية وتجذبها نحو موتها، إلى تلك التي تستطيع بالفعل اختراق الخلايا؛ فإننا على أعتاب ثورة في قدرتنا على مكافحة المرض ودحره. 

فجهازكم المناعي معقد، وهذا أبسط ما يمكننا قوله. كما أن استجابات أجسامكم المألوفة لجرح أو عدوى – احمرار، التهاب- لا ينقل الصورة الحقيقة من درجة تنسيق العمليات الجارية تحت الجلد، حيث تتحرك أسراب من الخلايا لمحاربة الجراثيم، وإصلاح الضرر، والتعامل مع الحطام. وحتى للخبراء، فإن التفاصيل هائلة. فهناك تنوع مُذهل للمكونات تستعصي على استيعابنا، كل ذلك وفقاً لتفاعلٍ دقيق مع بعضها البعض. فالأجسام المُضادة هي مجرد عنصر واحد، لكنها مهمة.

لقد عكفنا على فهمها منذ 140 عاماً تقريباً، وهو مسعى يمكن القول إنه بدأ في مساء 24 من مارس 1882. وفي تلك الليلة خاطب الطبيبُ روبرت كوخ Robert Koch الجمعيةَ الفيسيولوجية في برلين Physiological Society of Berlin ليُعلن أن مرض السل Tuberculosis، الذي كان يُعتقد آنذاك أنه وراثي، كان ناجماً عن بكتيريا صغيرة. وهرع طبيبٌ آخر يُدعى بول إرليش Paul Ehrlich، إلى مختبره ومعهُ عيناتٌ ملطخة من مرضى السل. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، تحت المجهر، استطاع فوراً رؤية كُتل من البكتيريا، ربما تلك التي تُسبب السل.

بعد ذلك وجد كُلاً من إرليش وكوخ وآخرون أن بعض أنواع البكتيريا تنتج سموماً Toxins مؤذية. وبعد ذلك لاحظ إرليش شيئاً مثيراً للاهتمام: إذا زاد من جرعة السُم في الفئران ببطء، على مدى أيام عديدة، فإنه يُمكن للفئران البقاء على قيد الحياة حتى عند الوصول إلى ذلك المستوى من السم الذي كان سيتسبب بقتلها عادةً لو أعطي جرعة واحدة. أياً كان ما طورتهُ الفئران لمنحها هذه المرونة، فقد سمّاه إرليش جسمًا مضادًا.

اليوم نحن نفهم الكثير عن كنه هذه الأجسام وكيفية عملها. فبادئ ذي بدء، نعلم أن الأجسام المضادة تصنعها خلايا متخصصة تسمى الخلايا البائية  B cellفي البشر والحيوانات الأخرى. ونعلم أيضاً أن كل خلية بائية  تنتج أجساماً مضادة ذات شكل معين عند الطرف ذي شقين مثل الحرف Y))، تُسمى المنطقة المتغيرة Variable region. فهذا هو جزء من الجسم المضاد الذي يلتصق بهدفه، سواء كان ذلك سُمًّا أم بروتينًا على سطح الكائن المُمرضPathogen ، المعروف بالمُستضدAntigen .

في الواقع إن الطريقة التي تُصنع بها الأجسام المضادة هي أعجوبة في حد ذاتها. فمع ولادة كل خلية من الخلايا البائية في نخاع عظامنا، فإن الجينات التي تُرمز للأجسام المضادة يجري تداولها بحيث تنتج الخلية أجساماً مضادة مُحددة، واحدة من البلايين التي تصنع في الجسم ككل. وبعد ذلك تختبر كل خلية بائية في نخاع العظم لمعرفة ما إذا كان الجسم المضاد الذي تنتجه سيلتصق بأي شيء موجود طبيعيا في الجسم. وفي حال حدوث ذلك، تقتل الخلية البائية . وبهذه الطريقة، فإن الخلايا البائية الوحيدة التي تُطلق في الجسم هي تلك التي تجعل الأجسام المضادة تستهدف أشياء لا توجد عادةً في الجسم، من مثل الجراثيم الخطرة، بدلاً عن مهاجمة الخلايا السليمة في الجسم. والبلايين من الخلايا البائية بداخلكم تنتج الكثير من الأجسام المضادة المختلفة التي تلتصق، من حيث المبدأ على الأقل، واحدة منها على الأقل بأي جسمٍ غازٍ معين. 

إن هذه الاستراتيجية ليست فعّالة تماماً في كل الأحوال. وبعض الفيروسات مثل الفيروس  الإيدز HIV، تتطور بسرعة تُمكِّن البروتينات على سطحها من تغيير شكلها. فهذا التباين في الفيروس حتى داخل شخص واحد مصاب، يجعلهُ هدفاً صعباً للأجسام المضادة. والأمر الآخر الذي يجب وضعه في الاعتبار هو أن الجسم يستغرق بعض الوقت لإنتاج أجسام مضادة إضافية عند وجود تهديد. كما أن الخلايا البائية  التي تنتج الأجسام المضادة الصحيحة  يجب عليها أن تتضاعف أعدادها  لتوفر الأجسام المضادة بكميات كبيرة، ولا يحدث ذلك دائماً بالسرعة الكافية.

طفرة مُبتكرة

على الجانب المشرق من الأمور، ليس علينا أن نعتمد اعتمادا كاملا على الإنتاج الطبيعي لجسمنا من الأجسام المضادة. لفترة من الوقت كنا قادرين على حصد الخلايا البائية من الحيوانات المُحصنة بأي كائن مُمرض نُريد استهدافهُ، ونعمل على نسخها في المُفاعِلات الحيوية Bioreactors والأجسام المضادة المنتجة بكميات كبيرة حسب التصميم By design

وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن الأجسام المضادة الأحادية النسيلة monoclonal antibodies – وهي الأجسام المضادة المصنوعة من مجموعة من الخلايا المستنسخة من نوع- قد صارت جزءاً أساسياً من الطب الحديث. وهي توظف كعلاج لعدد من الأمراض بدءاً من الصدفية والتهاب المفاصل وداء كرون والتصلب المتعدد ووصولاً إلى السرطان. وفي عام 2019 كانت سبعة من بين أفضل 10 أدوية مبيعاً في العالم هي الأجسام المضادة.

ولكن بوسعنا أن نفعل ما هو أفضل من ذلك. في أيامنا هذه من المُمكن تغيير البنية الأساسية Basic structure للأجسام المضادة تغييرا غيرُ مسبوق. والحقيقة أننا تمكنا من التلاعب ببنيتها منذ بضع سنوات، سواء باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية Genetic engineering، أم  من خلال فصل ودمج أجزاء من البروتين. ومع ذلك  وصلت الأدوات الآن إلى مستوى من التطور يُشجِّع على موجة مُبتكرة.

إحدى أكثر الاستراتيجيات الواعدة تتمثل بإعادة تصميم الأجسام المضادة، بحيث تتعرف وترتبط بثلاثة أهداف جزيئية مختلفة، تُعرف بالمُستضدات. وهذا يُمكن أن يكون مفيداً خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعلاج السرطان بالعمل على تعزيز دفاعاتنا المناعية الطبيعية، المعروفة بالعلاج المناعي Immunotherapy.

فالعلاجات المناعية للسرطان صارت تحظى بشعبية كبيرة بالفعل. وقد مُنحت جائزة نوبل للطب لعام 2018 لتطوير أجسام مضادة تسمى مثبطات حاجز المناعة Checkpoint inhibitors. وتعمل هذه المثبطات بحصر Blocking  البروتينات التي تعمل كمكابح للنشاط المناعي: إذا تمكن السرطان من إيقاف هجوم مناعي لشخصٍ ما مصاب به، يُمكن لمُثبطات حاجز المناعة إعادة تشغيله.

هذا رائع في حال عمل جيدا، ولكن ليس دائمًا. وقد تكون هناك أعراض جانبية وخطيرة أحياناً، وتعزيز الاستجابة المناعية من غير المُرجح أن يُساعد إذا لم تكتشف الخلايا المناعية للشخص سرطانه في المقام الأول. والمشكلة هي أن السرطان نادراً ما يُسببه كائن مُمرض، بل هو بسبب تكاثر غير طبيعي لخلايا الشخص نفسهُ، مما يعني أنه لا يوجد شيء واضح مثل جُزيء من فيروس أو بكتيريا أو فطر لكي يتفاعل ضده الجهاز المناعي. 

إحدى طرق التغلب على هذه المشكلة تقوم على إيجاد طريقة لجمع الخلايا المناعية والخلايا السرطانية، وهنا يأتي دور الأجسام المضادة ثلاثية النوعية Trispecific antibodies. ففي عام 2019 أبلغ فريقٌ قاده إريك فيفييه Eric Vivier، عالم المناعة من جامعة إيكس مرسيلياUniversity  Aix- Marseille وهو الرئيس التنفيذي العلمي من الشركة إينيت فارما Innate Pharma وكلاهما في فرنسا، عن تطوير جسم مضاد عُدِّل هندسياً يرتبط في وقت واحد بثلاثة أهداف منفصلة: مستقبلين Receptors على الخلايا المناعية تسمى الخلايا القاتلة الطبيعية Natural killer cells ، ومستضد على الخلايا السرطانية. والفكرة هي أن هذا الجزيء الجديد يجمع الخلايا القاتلة الطبيعية للجسم بالخلايا السرطانية، ويوفر إشارة قوية للشروع في الهجوم.

فيفييه وزملاؤه صنعوا أجساماً مضادة ثلاثية النوعية من خلال أخذ جزء من جسم مضاد واحد يستهدف مُستقبِل الخلايا المناعية، ولصقه بآخر يستهدف مستضد السرطان. بعد ذلك استخدموا الهندسة الوراثية لضمان أن ساق الشكل (Y) فعّال، بحيث يستهدف مستقبلا ثانياً للخلايا المناعية. ومن ثم وضع هذا الجسم المضاد الجديد تحت الاختبار على الفئران باستخدام الخلية اللمفية البائية B-cell lymphoma. وقد نجحت نجاحا مذهلا: بالعمل بفاعلية أكبر في التحريض على قتل الخلايا السرطانية من العلاجات الأخرى التي قارنوها بها. وقد قيموا احتمال حدوث تأثيرات جانبية  – بقياس مستوى بعض البروتينات المعروفة بأنها تُسبب مشكلات في العلاجات المناعية- وبدا أن التأثيرات أقل عند استخدام الأجسام المضادة الجديدة هذه.

ويجري تطوير العديد من الأجسام المضادة الثلاثية الأخرى. فعلى سبيل المثال، تستهدف خلية أخرى خلية سرطانية، ومستقبلاً يعمل على تنشيط الخلايا المناعية التي تُدعى الخلايا التائية القاتلة T-cells ومستقبلاً ثانياً للخلايا التائية القاتلة التي تُعزز لنشاط يدوم طويلاً. من خلال بدء، بدلاً من تعزيز، هجوم مناعي ضد سرطان الشخص، فمن المأمول أن تساعد هذه الأجسام المضادة الثلاثية النوعية أولئك الذين لم يستجيبوا للعلاجات المناعية الأخرى.

يجب أن نكون حذرين دائماً من تضخيم الأمور قبل مراجعة نتائج التجارب الإكلينيكة (السريرية). ومع ذلك من الممكن أن تنتقل هذه الجزيئات بالعلاج المناعي إلى مستوى جديد، مما يجعلها متاحة للأشخاص الذين لم تشن أجهزتهم المناعية أي نوع من الهجمات على سرطاناتهم. 

ويمكن أن تنجح ضد الفيروسات أيضاً. وقد طوّرت شركة الأدوية الفرنسية سانوفي Sanofi جسماً مضاداً للأجسام يصل إلى ثلاثة أجزاء مختلفة من البروتين في الغلاف الخارجى لفيروس الإيدز. والمبدأ الذي يقوم عليه هذا هو أنه سيكون من الصعب على متغيرات الفيروس تفادي أن يستهدفها شيء يرتبط بثلاثة أشياء في آن واحد. وكانت النتائج مُذهلة. ففي طبق اختبار بتري يُمكن لأحد الأجسام المضادة ثلاثية النوعية بالفعل تحييد 204 من 208 نُسخ مختلفة من فيروس الإيدز.

كما أن هناك نهجًا آخر للأجسام المضادة المصممة والتي قد تسمح لنا بالتسلل إلى الخلايا بتقليص الأشياء. وكان هذا التكتيك مستوحى في الأصل من إلهام غير عادي: وهي حيوان اللاما. فالأجسام المضادة التي تصنع في جسم اللاما والجمال وأسماك القرش أصغر بكثير، لذلك التفت العديد من الباحثين إليها لهندسة ما يُسمى الأجسام النانوية Nanobodies

طريقة إنتاج الأجسام النانوية معقدة ومتنوعة. إحدى التقنيات تستعين ببيانات البكتبريوفاجات (عاثيات البكتيريا) Phage display library . وللقيام بذلك تُرمَّز مجموعة مختارة من الأجسام النانوية المختلفة وراثياً داخل البكتبريوفاجات، وهي من أنواع من الفيروسات التي تصيب البكتيريا. وتضاف البكتبريوفاجات في حفر بطبق بلاستيكي مُغطى ببروتين المُمرض المستهدف. تلك التي لا تلتصق تزال تدريجيا مع الغسيل – وهكذا فإن البكتبريوفاجات المتبقية هي التي تنتج النوع النانوي المناسب؛ مما يمكنها من الارتباط بالبروتين. وأخيراً تعزل جينات ترميز الأجسام النانوية داخل ما هو متبقٍ من البكتبريوفاجات، وتستخدم لإنتاج كميات كبيرة من الجسم النانوي المرغوب فيه. 

وقد تم ترخيص جُسم نانوي اصطناعي يسمى كابلاسيزوماب Caplacizumab لمعالجة اضطراب دم نادر يُسمى اعتلال الأوعية الدقيقة الخثاري (اختصاراً:(TTP، حيث تكون الصفائح الدموية جلطات صغيرة في مواضع لا ينبغي لها ذلك. في مختبرات أخرى، تُنتج الأجسام النانوية لاستهداف سموم الثعابين والديدان الطفيلية أو البروتين الشوكي للفيروس سارس-كوف-2 ( SARS-CoV-2) -الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19 (COVID-19). كما صُمم بعضها ليدخل الخلايا وتثبيت البروتينات التي لولا ذلك لدُمرت بالتليف الكيسي Cystic fibrosis. ونظراً لقدرتها على الاختراق عميقاً في ورم ما، يجري أيضا تطوير الجسيمات النانوية كأدوات تشخيصية نظراً لإمكانيتها في مُساعدة الأطباء على تحديد أفضل علاج للحالة الخاصة بالشخص. فمعظم هذا العمل لا يزال تجريبياً، ولكن من الواضح أن هناك موجة كبيرة من النشاط حول هذه الأجسام المضادة الأصغر حجماً.

وفي الوقت نفسهُ، هناك إلهامٌ جديد لمهندسي الأجسام المضادة. ففي يونيو 2021 فقط، أعلن فريقٌ -معظم أعضائه من معهد ديوك للقاحات البشرية Duke Human Vaccine Institute في نورث كارولينا- عن اكتشاف فئة جديدة من الأجسام المضادة التي ينتجها البشر ونسانيس المكاك Macaque monkeys. وكان الباحثون يدرسون الاستجابة المناعية فيروس الإيدز عندما عثروا على الأجسام المضادة التي هي على شكل الحرف (I) بدلاً من كونها الشكل (Y) النمطي. وفي الواقع كان أحد الأجسام المضادة قد عزل بهذا الشكل في عام 1996. ومن الواضح الآن أن هذه الملاحظة لم تكن مجرد ملاحظة واحدة غير عادية. وقد وجد الباحثون في معهد ديوك والمتعاونون معهم أن الأجسام المضادة على شكل الحرف I يمكن أن تستهدف جزيئات السكر المعبأة بكثافة والتي تُسربل  فيروس الإيدز، ويحول دون اكتشاف جهاز المناعة للفيروس. وقد عُثر على أجسام مضادة أخرى على شكل (I) لاستهداف الخميرة مُسببة للأمراض تسمى كانيديا ألبيكانس (المبيضة البيضاء) Candida albicans، وكذلك الفيروس SARS-CoV-2

لقد جاء هذا الاكتشاف مفاجأة كبيرة لأغلبنا، وهو يبين لنا إلى أي مدى ما زال علينا أن نفهمه عن الأجسام المضادة، ناهيك عن الجهاز المناعي الأوسع نطاقاً. الآن لدينا تساؤلات جديدة  لاستكشافها. بصورة أكثر تحديداً: كيف ينتج الجسم هذه الأجسام المضادة المختلفة الأشكال؟ وكيف يمكننا تسخير خواصها لأغراض طبية؟

وبالحديث عن كيفية إنتاج الأجسام المضادة، بدأ بعض الباحثين يستكشفون نهجا مختلفا. وتتلخص الفكرة – وهي مجرد فكرة في هذه المرحلة- في أن الخلايا البائية يُمكن حصدها من شخص جرى هندستها باستخدام تقنية تحرير الجينات كريسبر CRISPR للتعبير عن جسم مضاد معين، ومن ثم تحقن مرة أخرى في مجرى الدم. وعلى نحوٍ مُجدٍ، يمكن أن يمنح هذا الشخصُ القدرةَ على صنع جسم مضاد ضد أي كائن ممرض بعينه وقد ينجح في التخلص من الحاجة إلى جرعات متعددة من الأدوية القائمة على الأجسام المضادة. ربما مجموعة من الخلايا البائية ذات قدرات مُعزَّزة على إنتاج مجموعة من الأجسام المضادة المُعدَّة حسب الطلب، وذلك لعلاج العديد من الأشكال المختلفة من فيروس ما.

وحتى إن أمكن تحقيق هذا النوع من العمل فإنه مكلف؛ مما يوصلني إلى النقطة الأخرى، وهي أن الأجسام المضادة المُهندسة صعبة التصنيع بطبيعتها، لذلك فإن تكلفة تصنيعها سوف تكون باهظة. والأكثر من ذلك، بالنسبة إلى الأجسام المضادة من الأصعب كثيراً استخدام الحجة في تبرير نشر اللقاحات على نطاق واسع: بزعم أنهُ بإنقاذنا لأنفسنا، فإننا أيضا ننقذ الآخرين. إن الأجسام المضادة تُنقذ الأرواح بعلاج السرطان أو أمراض المناعة الذاتية، لكنها لا تستطيع حماية البشرية بأسرها بالطريقة  التي تحمي بها اللقاحات. وعلى هذا، فقد تنشأ مشكلة أخرى: وهي كيف نتأكد من أن العلاجات التي نحاول تطويرها لا تُكون مصدراً جديداً يُعزز من الانقسام في العالم؟

هذا الأمر مبعثُ قلق الكثير منا من العاملين في هذا المجال. نحن بحاجة إلى إطارٌ قوي للوصول العادل والمنصف إلى جميع الأدوية في جميع أنحاء العالم وليس فقط لقاحات كوفيد-19-. ولكن هذا لا يعني أننا لا يجب أن نحتفي بالكشف العلمي لأسرار جسم الإنسان والمُضي قدماً في توظيف معرفتنا لصنع أدوية جديدة متقدمة، وليس أقلها المضادات المُصممة تصميما خاصا. في رأيي، وأظن أنهُ في رأي الكثيرين، نحُن نكسب أمورا أخرى عندما نفهم التفاصيل الدقيقة لما يدور داخل أجسامنا. نحن نفهم أنفسنا أفضل قليلاً.

بقلم: دانيال أم. ديفيس

ترجمة : شوان حميد

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى