أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء

6 طرق نحو فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي في الفيزياء

فيزيائيون مرموقون يشرحون رؤيتهم حول الكيفية التي سنكتشف فيها الجسيمات أو القوى الجديدة التي ستكمل واحداً من أعمال العلوم المميزة غير المكتملة بعد

صورة: BROOKHAVEN NATIONAL LABORATORY / SCIENCE PHOTO LIBRARY

بقلم جون باتروورث، أليكس كيشافارزي، كلير بوريج، سورجيت راجيندران، إيميلي أدلام، مات ستراسلر

في عام 1973، ألقى الفيزيائي ستيفن واينبرغ Steven Weinberg محاضرة في إيكس أون بروفانس Aix-en-Provence في فرنسا. ووفقاً لواينبرغ، هناك كان هو أول من استخدم مصطلح «النموذج القياسي» Standard Model لوصف التوصيف الناشئ للمكونات الأساسية للكون وتفاعلاتها. وبعد مرور خمسين عاماً، صار النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات Standard model of particle physics صورة دقيقة مذهلة لما يتكون منه كل شيء وكيف يعمل كل ذلك لينتج الواقع.

على الرغم من أن الذكرى الخمسين تستحق الاحتفال، فإنه يستحيل تجاهل حقيقة أن النظرية غير مكتملة. فهي لا تفسر الجاذبية، أو سبب وجود الكثير من المادة في الكون والقليل من ضديد المادة Antimatter، ولا تتطرق إلى ما يسمى المادة المعتمة Dark matter والطاقة المعتمة Dark energy، المفتَرَضين لتفسير سلوك الكون بطرق معينة

على كل حال، يصف النموذج كلّ شيء عملياً. وعلى الرغم من أن الذكرى الخمسين تستحق الاحتفال، فإنه يستحيل تجاهل حقيقة أن النظرية غير مكتملة. فهي لا تفسر الجاذبية، أو سبب وجود الكثير من المادة في الكون والقليل من ضديد المادة Antimatter، ولا تتطرق إلى ما يسمى المادة المعتمة Dark matter والطاقة المعتمة Dark energy، المفتَرَضين لتفسير سلوك الكون بطرق معينة.

ولذلك يبحث الفيزيائيون عن أدلة يمكن أن تقودنا إلى نظرية أفضل. ولكن ما ستكون، إن وُجدت، تلك التي ستقدم تحديثاً -أو ترقية- للنموذج القياسي؟ كيف نجد النسخة الفاخرة؟ أتحنا المجال لستة من كبار علماء الفيزياء حاليا بشرح اعتقادهم عن الكيفية التي سنكتشف وفقها أخيراً صورة أكثر اكتمالاً للواقع.

تصادمات على حدود الطاقة
جون باتروورث
كلية لندن الجامعية University College London

لطالما كان الرهان المضاد للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات خطراً. فتاريخيّاً خسر معظم الأشخاص الذين فعلوا ذلك. ولكن على مدى العقد ونصف العقد المقبلين، سيستمر مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider LHC بسحق البروتونات معاً ودراسة النتائج الفوضوية. وسأبحث هناك ضمن تفاصيل هذه الاصطدامات من كثب عن أدلة على وجود فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي.

أنا أعمل على ما نسميه «حدود الطاقة» (Energy Frontier)، حيث يمكن أن يتيح لنا تركيز الكثير من الطاقة في تصادم الجسيمات تحت الذرية Subatomic particles الوصول إلى فيزياء جديدة. وهذا يعمل بطريقتين متصلتين. الأولى، إذا كان هناك جسيم ثقيل جديد، فقد نتمكن من صنعه إذا كان لدينا ما يكفي من الطاقة. الثانية، من ناحية ما المصادمات ذات الطاقة الأعلى هي المجاهر الأعلى دقة. ومع وصولنا إلى طاقات أعلى، تزداد الدقة التي يمكننا من خلالها استكشاف بنية المادة.

لقد وصلنا إلى حد كبير، إلى الحد الأقصى من الطاقة التي يمكننا الحصول عليها، لكننا ما زلنا نخطط لتسجيل نحو 10 بلايين تصادم إضافي، والمزيد سيكون أفضل. فتحديد ما إذا كان لدينا بعض الفيزياء خارج النموذج القياسي يشبه محاولة تحديد ما إذا كان النرد منصفاً أم لا، فست رميات نرد لن تخبرك بشيء تقريباً، لكن 6 ملايين رمية ستعطيك فكرة جيدة.

كثير من الأشياء المختلفة يمكن أن تحدث عندما نصدم البروتونات في مصادم الهادرونات الكبير. يمكن إنتاج العديد من بوزونات هيغز Higgs bosons وبوزونات دبليو W وزد Z، والفوتونات عالية الطاقة جداً ونفاثات الهادرونات الناشئة عن الكواركات Quarks والغلوونات Gluons المتناثرة. حتى الآن، نعلم أن توزيع هذه العناصر هو «حول» ما يتوقعه النموذج القياسي تقريباً. ولكن في بعض الحالات، تكون هذه الـ«حول» تقريبية جداً.

على سبيل المثال، بعض الأنواع المهمة من الاصطدامات -كإنتاج أزواج من بوزونات هيغز التي أشار إليها النموذج القياسي- نادر جداً لدرجة أنه لم يُرَ بعد، ويقدم العديد من الأفكار الفيزيائية خارج النموذج القياسي تنبؤات لأشياء يمكن أن تختفي بسهولة تحت كلمة «حول». وعلى مدى السنوات العديدة المقبلة، سوف نجري قياسات يمكنها، وآمل بأن تفعل ذلك، التخلص منها (من هذه التنبؤات).

يتطلب هذا الجهد حدوث شيئين، فنحن العلماء التجريبيين بحاجة إلى إجراء المزيد من القياسات لتحديد مدى جودة الأداء الحقيقي للنموذج القياسي، ويجب أن تكون مستقلة عن النظرية قدر الإمكان. لا يمكننا تجنب وضع افتراضات نظرية أحياناً، علينا فقط تقليل تأثيرها.

ومن الناحية النظرية، التنبؤات بحاجة إلى المزيد من الدقة. مثلا، نحن لا نقيس كتلة بوزون هيغز مباشرة، ولكننا نستدل عليها من الجسيمات الناتجة عن الاصطدام. إن التنبؤ بتنبؤات أكثر دقة، والتي يمكن مقارنتها مباشرة بالتجارب، يعني أنه يمكننا التوصل إلى استدلالات أفضل حول العمليات الأساسية.

وكلاهما يحدث فعلاً، وأتطلع في السنوات القليلة المقبلة إلى نقاشات ساخنة حول مستوى الاتفاق أو الخلاف بين النظرية والتجربة على غرار المناقشات الأخيرة حول «العزم المغناطيسي» (Magnetic moment) الشاذ للميون (انظر: تصرف الميوونات بشكل غريب Muons behaving oddly، مثلا). 

حتى لو كان كل شيء نقيسه يتوافق مع النموذج القياسي، فسيظل ذلك مهماً. سيعني ذلك أننا أثبتنا أن الفيزياء التي تتجاوز النموذج القياسي تفوق بكثير كتلة بوزون هيغز، ومن ثم إمكانيات مصادمات الجسيمات الحالية. ربما لا يساعدنا ذلك كثيراً على فهم المادة المعتمة أو غيرها من الأسئلة التي يتركها النموذج القياسي دون إجابة. لكن لا يمكننا اختيار طبيعة ذلك، كل ما يمكننا فعله هو استكشافها بأفضل ما في وسعنا.

اصطياد الكاميليونات الكونية
كلير بيوريج
جامعة نونتغهام University of Nottingham، المملكة المتحدة 

يفشل النموذج القياسي في تفسير 95% من محتويات الكون، وقد قسم علماء الكونيات هذا الجزء غير المعروف من الكون إلى 27 % من المادة المعتمة تتجمع معاً تحت تأثير الجاذبية، و68% من الطاقة المعتمة التي تسبب تسارع توسع الكون Expansion of the Universe. فلدينا عدد كبير من النظريات حول ماهية المادة المعتمة، ومن ناحية أخرى، تظل الطاقة المعتمة أكثر غموضاً. وقد اخترت البحث عن قوة جديدة، يحملها جسيم جديد، يمكنها تفسير الطاقة المعتمة.

نتوقع أن تتمتع الجسيمات المرتبطة بتسارع توسع الكون بخاصيتين. أولاً، يجب أن تكون خفيفة جداً، وثانياً، يجب أن تكون وسطاً حاملاً على مدى المسافات الكونية لقوة «خامسة» – تتجاوز قوة الجاذبية Gravity والكهرومغناطيسية Electromagnetism والقوى القوية والضعيفة Strong and Weak Forces. وقد بحث العديد من التجارب الدقيقة عن جسيمات الضوء والقوى الخامسة بعيدة المدى دون رؤيتها.

ولكن على مدى العقود القليلة الماضية، أدركنا أن البيئة قد تؤثر في سلوك القوة الخامسة. وخصوصاً إذا كان الجسيم الذي ينقل القوة الخامسة يمكنه تغيير كتلته مع تغير كثافة بيئته، فإن القوة يمكن أن تؤثر فقط على مسافات قصيرة في المناطق الكثيفة، ولكن على نطاقات طويلة في المناطق الأقل كثافة.

وقد أكسبتها قدرتها -هذه الجسيمات المقترحة – على تغيير خصائصها لتجنب اكتشافها اسم «الحرباءات» أو الكاميليونات Chameleons. هذا لا يعني أنه من المستحيل اكتشافها، علينا فقط أن نصمم تجاربنا بعناية.

يمكن أن يكون بعض الأشياء صغيراً جداً بحيث لا يحتوي بداخله على ما يكفي من حيز لجسيمات الكاميليون لتغيير كتلتها، ومن ثم لا يتغير سلوك القوة أيضاً. ولهذا السبب، إذا أسقطنا كرة تنس وذرّة جنباً إلى جنب، فإننا نتوقع أن تسقط الذرّة بسرعة أكبر من الكرة إذا كانت هذه القوة الخامسة موجودة.

إسقاط ذرات منفردة صعب، ولكن باستخدام تقنيات تجريبية جديدة، يمكننا قياس كيفية سقوط الذرات بدقة متناهية. حيث نبرد سحب الذرات لجعلها ساكنة قدر الإمكان، ثم نسلط عليها شعاع ليزر لإثارة إلكترون يدور حول نواة الذرّة من مستوى طاقة إلى آخر. فعندما تمتص هذه الذرّة فوتوناً من شعاع الليزر، يُثار إلكترون، لكن الذرّة تبدأ أيضاً الحركة.

تعرّف على أعمق طبقة نعرفها من الواقع من خلال قائمتنا للعالم تحت الذري، بدءاً من الجسيمات المعروفة مثل الكواركات وبوزون هيغز وحتى الافتراضية بما في ذلك القوة الخامسة والأوتار في الأبعاد الـ11.

عند هذه النقطة، من الممكن أن تكون الذرّة في حالة تراكب Superposition من حالتين في الوقت نفسه، إحداهما تمتص فيها الفوتون وتتحرك، والأخرى حيث لا تمتصه ولا تتحرك. ومن خلال إرسال نبضات ليزرية، يمكننا فصل هاتين الحالتين مكانياً ثم إعادة دمجهما. تسقط الذرات بحرية بين النبضات تحت تأثير الجاذبية والقوة الخامسة الافتراضية، ونحاول اكتشاف ما إذا كانت قوة الطاقة المعتمة هي التي تتسبب في سقوط الذرات بأسرع مما نتوقع.

حتى الآن لم تشهد التجارب أي دليل على وجود قوى جديدة تقيد نماذجنا. وفي غضون السنوات القليلة المقبلة، آمل بأن نكتشف جسيمات الكاميليون أو نستبعد هذا النموذج تماماً. وفي كلتا الحالتين، سنكون أقرب إلى فهم جزء غامض من الكون لا يمكن وصفه بواسطة النموذج القياسي

حتى الآن لم تشهد التجارب أي دليل على وجود قوى جديدة تقيد نماذجنا. وفي غضون السنوات القليلة المقبلة، آمل بأن نكتشف جسيمات الكاميليون أو نستبعد هذا النموذج تماماً. وفي كلتا الحالتين، سنكون أقرب إلى فهم جزء غامض من الكون لا يمكن وصفه بواسطة النموذج القياسي.

مستشعرات كمّيّة
سورجيت راجيندران
جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins University، ماريلاند

كان لمصادمات الجسيمات تأثير ثوري على فهمنا للكون، لكن هذه الآلات الرائعة ليست الأداة الصحيحة للبحث عن نوع معين من الفيزياء الجديدة: الجسيمات ضعيفة التفاعل مع الإلكترونات Electrons أو البروتونات Protons التي يتم سحقها معاً.

ويعد العثور على ما يسمى بالجسيمات ضعيفة الاقتران Weakly Coupled Particles حيزاً مهماً للاستكشاف، نظراً لأن الكثير من الأدلة الرصدية لدينا للفيزياء خارج النموذج القياسي هي فيزياء «معتمة» تتعلق بالمادة المعتمة والطاقة المعتمة. فهذا «الاعتام» يعني أنها لا تتفاعل كثيراً مع الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات Neutrons والفوتونات Photons التي نستخدمها في التجارب.

لسنا بحاجة إلى أجهزة الاستشعار إلى قياس التأثيرات الضئيلة فحسب للكشف عن الجسيمات ضعيفة التفاعل، بل يجب أيضاً أن تكون منيعة ضد الضوضاء. يُطلق على فن إنشاء التقنيات التي تحل هذه المشكلات اسم الاستشعار الدقيق Precision Sensing وقد أدت التطورات الهائلة في هذا المجال على مدى العقدين الماضيين إلى ظهور أجهزة استشعار دقيقة مدهشة من خلال استغلال عجائب ميكانيكا الكم Quantum Mechanic. 

لإنشاء مستشعر دقيق، نحتاج إلى مقياس معتَمد شبه مثالي لاستخدامه في القياسات. لنأخذ بعين الاعتبار الحقيقة المذهلة المتمثلة في وجود 1080 ذرّة هيدروجين في الكون المرئي وكلها متطابقة. ويستغل المستشعر الكمّيّ Quantum Sensor هذه الحقيقة لإنشاء مقاييس قوية تتيح الاستشعار عالي الدقة.

 ومن الأمثلة على ذلك استخدام الساعات الذرية المتزامنة Synchronised Atomic Clocks، والتي «تدق» Tick بناءً على سلوك الإلكترونات داخل ذرات معينة، بحثاً عن المادة المعتمة.

تُعد تجربة «لايغو» LIGO نجاحاً علمياً كبيراً للاستشعار. تستخدم هذه التجربة أجهزة تسمى مقاييس التداخل Interferometers للبحث عن موجات الجاذبية Gravitational Waves والتموجات في الزمكان Space-time. تحتوي مقاييس التداخل على موجات عادة ما تكون ضوئية، والتي تتداخل لتكوين أنماط يمكن دراستها للكشف عن القوى أو المجالات التي تحركت عبر الجهاز. يمكن أن تكون اكتشافات موجات الجاذبية من خلال تعاون لايغو نذيراً لنوع الفيزياء الذي قد نمضي في اكتشافه باستخدام أجهزة استشعار كمّيّة أخرى.

الفيزياء علم تجريبي، لذلك لن نتمكن من معرفة ما هناك دون الاستكشاف التجريبي. هذه حقيقة محبطة بالنسبة للمنظر الذي قد يرغب في اكتشاف نظرية كل شيء Theory of everything من على كرسيه. ولكن، على الرغم من أن هذا أمر واقعي، فإنني أراه بمثابة دعوة إلى العمل: هناك فيزياء جديدة ومهمتنا هي العثور عليها.

مسرعات الجسيمات فيرميلاب. صورة: FERMILAB / SCIENCE PHOTO LIBRARY

إعادة التفكير بالوقت
إميلي أدلام
جامعة تشابمان Chapman University كاليفورنيا

نحن نميل إلى افتراض أن الوقت يعمل بطريقة خطية. وحتى النموذج القياسي يعتبر تقليدياً عندما يتعلق الأمر بكيفية تفكيرنا في الوقت: بعض «المدخلات» تتطور إلى «مخرجات». ومع ذلك، فإن عديداً من الأجزاء الأخرى في الفيزياء الحديثة، مثل معادلات ألبرت أينشتاين Albert Einstein للنسبية العامة General Relativity، لا تتناسب جيداً مع هذه الصورة البسيطة للتطور الزمني. ولهذا السبب أعتقد أنه لكي نجد فيزياء تتجاوز النموذج القياسي، يجب علينا أن نبتعد عن نموذج التطور الزمني.

هناك بعض النُهج التي قد تحل محله، أحد الاحتمالات هو المنظور السببي الرجعي Retrocausal Perspective، حيث يؤدي المستقبل دوراً ما في «إنتاج» الماضي. وهناك طريقة أخرى تسمى نهج الكون الكتلي Block Universe Approach، حيث يتشارك التاريخ بكامله الوجود بطريقة ما.

في مواجهة الأدلة الجديدة، بدأ الفيزيائيون ينظرون إلى الكون ليس على أنه مكون من طبقات متباينة، بل على أنه كل كمي مرتبط بالتشابك Entanglement.

نحن نعيش في عالم تزداد فيه الإنتروبيا Entropy، وهي مقياس للفوضى، بمرور الوقت. يشير هذا إلى أن الكون لا بد وأنه بدأ في حالة خاصة جداً ذات إنتروبيا منخفضة جداً. ضمن النموذج القياسي، يبدو أن الاحتمال الوحيد لتفسير ذلك هو تخيل عملية تنتج عدداً كبيراً من الأكوان المحتملة، أو الأكوان المتعددة Multiverses. وبما أننا نجد أنفسنا في هذا الكون وفقاً لهذه الحجة، يجب أن نكون في كونٍ ذي حالة أولية منخفضة الإنتروبيا. ولكن إذا لم نبدأ من صورة تطور زمني، فقد تكون هناك طريقة لشرح الحالة الأولية الخاصة دون تخيل أكوان أخرى.

يبدو نهج الكون الكتلي وكأنه مسار واعد لواحدة من أكبر المشكلات التي لا يستطيع النموذج القياسي حلها -توحيد الجاذبية وميكانيكا الكم- نظراً لأن أفضل نظرية لدينا في الجاذبية، وهي النسبية العامة، يبدو مكانها ملائماً في صورة الكتلة الكونية.

ومن المثير أنه قد نحصل قريباً على بيانات تجريبية جديدة. فمؤخراً كانت هناك مقترحات لإجراء تجارب لاختبار، مثلا، حول ما إذا كان الزمكان يمكن أن يدخل في حالة تراكب. تتضمن إحدى التجارب وضع كتلتين في تراكبات كمّيّة حيث تكونان فعلياً في موقعين مختلفين في وقت واحد، ثم معرفة ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى التشابك الكمّيّ Quantum Entanglement. إذا نجح التشابك في تلك التجربة، فمن المحتمل أن يشير هذا إلى أن الجاذبية نفسها لها خصائص كمّيّة.

حتماً سيمثل هذا النوع من النتائج خروجاً كبيراً عن الصورة البديهية للتطور الزمني المستخدمة في النموذج القياسي. آمل بأن توفر هذه التجارب نافذة مباشرة على طبيعة الزمن في عالمنا.

ميونات تسلك سلوكاً غريباً
أليكس كيشافارزي
جامعة مانشستر The University of Manchester المملكة المتحدة

كان فريق من العلماء بمن فيهم أنا، على مدى السنوات الست الماضية، يبحث عن فيزياء جديدة باستخدام جسيم أساسي غير مألوف. وقد اتضح أن الميون Muon، وهو ابن عم أثقل للإلكترون، مفيد جداً للبحث عن فيزياء جديدة خارج النموذج القياسي.

تقيس تجربتنا، التي تُجرى في مختبر مسارع فيرمي الوطني (فيرميلاب) Fermi National Accelerator Laboratory (اختصارا: المختبر Fermilab) في إلينوي، خاصية تسمى «العزم المغناطيسي» Magnetic moment للميوون. يمكن للميونات في المجال المغناطيسي، أن تتفاعل مع بحر من الجسيمات الافتراضية التي تظهر وتختفي من الوجود. قد يكون بعضها عبارة عن جسيمات نعرفها، ولكن قد تظهر جسيمات غير معروفة أيضاً.

تتسبب هذه التفاعلات في تذبذب الميوونات، أو تبادرها Precess (تسبب حركة بدارية لها)، وكلما زادت التفاعلات التي يتعرض لها الميون، زادت سرعة تذبذبه. يمكن لقياس هذا التذبذب أن يخبرنا بشكل غير مباشر عن عدد الجسيمات الافتراضية التي تفاعل معها الميوون، وعدد القوى التي تفاعل من خلالها. وبمقارنة هذا القياس مع تنبؤات النموذج القياسي، يمكننا أن نرى ما إذا كان الميون قد تفاعل مع جسيمات أو قوى جديدة.

وبالعودة إلى عام 2004، وجد قياس العزم المغناطيسي للميون في مختبر بروكهافن الوطني Brookhaven National Laboratory في نيويورك أن العزم المغناطيسي له كان أكبر من تنبؤات النموذج القياسي. وبلغت دقته 0.5 جزءاً في المليون، وهي دقة تعادل خطأً بعرض شعرة الإنسان لدى قياس طول ملعب. ولكن كانت هناك حاجة إلى دقة أعلى لإثبات وجود فيزياء جديدة.

نُقل جزء من تجربة بروكهافن لمسافة تزيد على 4,800 كيلومتر إلى فيرميلاب، ووُلدت تجربة الميوون جي- 2 The Muon g-2 experiment. أكدت نتيجتنا الأولى في عام 2021 نتائج بروكهافن، وأصدرنا نتيجة متسقة أخرى في أغسطس 2023 بدقة تبلغ 0.19 جزءاً في المليون: وهو أكثر القياسات التي أُجريت في مسارع للجسيمات دقة على الإطلاق.

إذا كانت هناك فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي، فإن قياساتنا دقيقة بما يكفي لتأكيدها لأول مرة. لكن ذلك يكمن في تنبؤ النموذج القياسي نفسه، والذي تطور منذ عام 2021 ليعطي نتائج مختلفة اعتماداً على الطريقة المستخدمة لحسابه. ويتفق البعض أكثر مع تجربتنا، ومن ثم يشيرون إلى عدم وجود فيزياء جديدة. وما يغري أن البقية تجاوزت العتبة اللازمة للادعاء بأول اكتشاف على الإطلاق للفيزياء الجديدة.

يعمل التعاون الدولي لعلماء الفيزياء النظرية المعروف بمبادرة نظرية ميوون جي-2 Muon g-2 Theory Initiative، والذي أنا عضو فيه أيضاً، بجد لفهم هذه الاختلافات وحلها، ونأمل أن يكون ذلك في غضون السنوات القليلة المقبلة. مهما كانت النتيجة، فإن تجربة ميون جي-2 ستستمر بإصدار نتائج جديدة بدقة أعلى، بدفعتنا الأخيرة من البيانات الجاهزة للتحليل الآن. أنا متحمس لمعرفة ما إذا كانت نتيجتنا النهائية، المتوقعة في العامين المقبلين، يمكن أن تؤكد بشكل لا يقبل الجدل فيزياء تتجاوز النموذج القياسي للمرة الأولى.

نموذج جديد
مات ستراسلر
جامعة هارفارد

في القرن التاسع عشر، فهم العلماء معظم الموجات كما نفهمها حاليا: اضطرابات إيقاعية لوسط، مثل موجات الصوت عبر الهواء. وبمجرد أن أدركوا أن الضوء عبارة عن موجة، بدا واضحاً أنه سيكون له وسط أيضاً، أطلقوا عليه اسم الأثير المضيء Luminiferous aether. كان من المتوقع أن تتسبب حركة الأرض عبر الأثير في تغير سرعة الضوء قليلاً اعتماداً على اتجاه حركتها، تماماُ كما هي الحال بالنسبة لسرعة الصوت بالنسبة إلى الراصدين المتحركين.

وفي تجربة أجريت عام 1887، لم يجد الفيزيائيان ألبرت مايكلسون Albert Michelson وإدوارد مورلي Edward Morley مثل هذا الاعتماد على اتجاه الحركة. حيرت هذه «النتيجة الصفرية» علماء الفيزياء، حتى قدم آلبرت آينشتاين تفسيراً لها في عام 1905: إن سرعة الضوء لا تتغير أبداً.

ومنذ ذلك الحين، قادت فيزياء الجسيمات سلسلة من الألغاز والأدلة التي قادت العلماء من اكتشاف إلى آخر (انظر: نبذة تاريخية عن النموذج القياسي، نظريتنا عن كل شيء تقريباً). وللأسف، يبدو أن هذا الاتجاه قد انتهى في عام 2012 مع اكتشاف بوزون هيغز، وأرى أن غياب مزيد من الاكتشافات في مصادم الهادرونات الكبير (LHC) قد يكون من بين أهم النتائج الصفرية في تاريخ الفيزياء، مقارنةً بقياس مايكلسون-مورلي.

هناك الكثير مما لا نعرفه عن البروتونات، وهي الجسيمات الموجودة في قلب الذرّة، بدءاً من مكوناتها وحتى ما إذا كانت ستعيش إلى الأبد، وحل الألغاز المحيطة بها يمكن أن يغير فهمنا للكون.

وكما انتهكت نتيجة الأثير المنطق العام البسيط حول الموجات، تتعارض النتيجة الصفرية لمصادم الهادرونات الكبير أيضاً مع بعض المنطق الأساسي حول المجالات الكمّيّة. إذ يبدو أن نظرية المجال الكمّيّ تشير ضمناً، مع تأكيد التجارب لذلك، إلى أنه من غير المعتاد إلى حد كبير أن يوجد مجال هيغز وبوزون هيغز بالكامل بمفردهما. يجب أن تكون هناك مجموعة كاملة من المجالات والجسيمات الإضافية، والتي يعد مجال هيغز وبوزون هيغز أولها فقط. يجب أن يكون بعضها قابلاً للرصد في مصادم الهادرونات الكبير.

حتى الآن، لم يشهد المصادم شيئاً من هذا القبيل. وعلى الرغم من أن البحث لم ينته بعد، فإن العديد من علماء الفيزياء مثلي يتساءلون عما إذا كان هذا المنطق مضللاً. وربما، كما حدث مع تجربة مايكلسون-مورلي، ربما نشهد العلامات الأولى لانهيار هذا النموذج.

تقوم الحسابات المتعلقة بمجال هيغز على ثلاثة افتراضات: صحة نظرية المجال الكمّيّ؛ وإمكانية استخدامها دون الاضطرار إلى نسبتها إلى الظواهر ذات الطاقات الأكبر بكثير من تلك التي تم فحصها مباشرة في مصادم الهادرونات الكبير، وأنّ الأحداث في الماضي البعيد للكون لا تؤثر في الحسابات. وعلى الرغم من أنه لا يوجد لدى أحد بديل معقول لنظرية المجال الكمّيّ حتى الآن، فإنه يتعين علينا التشكيك في الافتراضات الأخرى.

يتضمن أحد الخيارات التناظرات المخفية hidden symmetries المتعلقة بصفات الجسيمات المعروفة وغير المعروفة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى «أصفار سحرية»، ما يتسبب في أن تكون التأثيرات التي من شأنها زعزعة استقرار مجال هيغز بمفرده أصغر بكثير من المتوقع، أو قد تفرض الجاذبية الكمّيّة قيوداً غير معروفة على نظريات المجال الكمّيّ. ربما يكون هناك عدد قليل فقط من نظريات المجال الكمّيّ المتوافقة مع الجاذبية، وفي تلك التي تشبه النموذج القياسي، تكون النتيجة الصفرية لمصادم الهدرونات الكبير أوتوماتيكية.

احتمال آخر وهو أن تاريخ الكون قد تركنا مع عالم كانت فيه هذه النتيجة الصفرية ضرورية لوجودنا، ويشير أبسط إصدار من هذه الفكرة إلى أن كوننا هو أكوان متعددة غير صالحة للسكن غالباً، تُوصف فيه الأماكن النادرة الصالحة للسكن من خلال نظريات المجال الكمّيّ الخارجة عن المألوف جداً. وبينما قد يفسر المنطق المماثل سبب كون الثابت الكوني Cosmological constant الذي يدفع توسع الكون المتسارع صغيراً جداً (انظر: اصطياد جسيمات الكاميليون الكونية)، إلا أنه يفشل هنا ليستبدل لغزاً بآخر فقط.

تتجلى فكرة أخرى في أن الكون مر عبر العديد من التحولات الطورية Phase transitions، تصف كل مرحلة فيها نظرية مجال كمّيّ تفوق سابقتها غرابة. وعندما وصل إلى المرحلة الأكثر غرابة، توقفت التحولات، تاركة لنا عالماً مدهشاً. ومع ذلك، فإن هذا الاقتراح، الذي فُسِّر من خلال فكرة تُعرف بـــ «الاسترخاء» Relaxion، يواجه صعوبة في حل مشكلة الثابت الكوني.

يبدو كل هذه الأفكار يائساً نوعاً ما، ومشيراً إلى لحظة قد تحتاج فيها المفاهيم الأساسية لفيزياء الجسيمات إلى إعادة تفكير. فإذا كان الأمر كذلك، فإن علماء فيزياء الجسيمات يواجهون تحدياً هائلاً. فضبابية المضي إلى الأمام في هذا الطريق تجعل من الصعب تخمين أي الجهود التجريبية جدير بالاهتمام. ربما لم تعد الأساليب الكلاسيكية في فيزياء الجسيمات هي الحل، ولكن ما الذي يمكن استبدالها أو تعزيزها به هو أمر لا يعرفه أحد.

واجه فيزيائيو تسعينات القرن التاسع عشر مثل هذه العقبات أيضاً. لكنهم كانوا محظوظين، فقد فتحت الأشعة المهبطية Cathode rays والنشاط الإشعاعي Radioactivity فئات جديدة تماماً من التجارب التي يمكن أن تكشف عن بنية الذرات وخصائص الجسيمات التي تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء. أما إذا ما كان علماء الفيزياء حاليا محظوظين إلى هذا الحد، يظل غير واضح تماماً.

© 2024, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى