تاريخ موجز للنموذج القياسي، نظريتنا عن كل شيء تقريباً
استغرق تجميع صورتنا المذهلة عن الجسيمات والقوى التي تشكل الواقع عقوداً من الابتكار والتجربة
بقلم جون كارترايت
انظر من كثب وستجد أن كل ما نعرف عنه تقريباً في الكون يتلخص في حفنة من الجسيمات الأولية Elementary particles. تشكل هذه الكيانات الخيوط الخاصة بالتحفة العلمية التي تمثل النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات The Standard Model of Particle Physics، وأفضل صورة لدينا حالياً عن المادة وعملياتها.
وتكمن جذور النموذج القياسي في الثورة الكمية Quantum Revolution في أوائل القرن العشرين، حيث أُقصيت تماما الفكرة الكلاسيكية العامة القائلة إن كل شيء يمكن التنبؤ به. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تطوير النموذج القياسي بمثابة ثورة، بل كان أشبه بالتشكيل التدريجي لنظام جديد، بناه عشرات الفيزيائيين قطعةً قطعةً على مدار عقود.
توقع الكثيرون فشل النظام الجديد. لكنه لم يفشل. في الواقع، نجح النموذج القياسي في تجاوز كل الاختبارات التي أخضعناه لها، بما في ذلك محاولات تكوين جسيمات جديدة أو العثور على قوى جديدة لا يتنبأ بها (انظر: أخيراً: 6 طرق نحو فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي في الفيزياء). إذاً، كيف تمكن الفيزيائيون الذين عملوا طوال القرن العشرين من التوصل إلى مثل هذا الإطار المنيع؟ هذه هي قصة أنجح نظرية وضعناها على الإطلاق.
في عشرينات القرن العشرين كانت الحياة أبسط. فبحسب ما يعلم أي شخص، كانت الجسيمات الأولية Elementary Particles الوحيدة هي الفوتونات Photons التي تشكل الضوء، والبروتونات Protons الموجودة في مراكز الذرات؛ والإلكترونات Electrons التي تدور حول نواة الذرة. فقد كانت صورة بسيطة، لكنها ثابتة بشكل مثير للقلق.
ووفقاً لفيزياء الكم Quantum Physics التي نشأت في ذلك العقد، لم تكن هناك طريقة لتكوين هذه الجسيمات أو تدميرها. لكن مثلاً، عندما تضيء مصباحاً، يبدو أن الإلكترونات الموجودة فيه تولد فوتونات وتصدرها (تبعثها). وقد كان عالم الرياضيات بول ديراك Paul Dirac هو الذي أدرك أن إمكانية إصدار الضوء موجودة في كل مكان، على شكل حقل ضمني Underlying Field. فهذا الحقل ضعيف جداً لدرجة أنه غير مرئي، ولكن لنقل أنه حصل على الطاقة المناسبة –كأن يتفاعل مع إلكترون مثلاً– سيُظهر حينها قفزة Spike، أو إثارة Excitation، نلاحظها على شكل فوتون.
أطلق ديراك على هذه النظرية اسم الديناميكا الكهربائية الكمية Quantum Electrodynamics (اختصاراً: النظرية QED). وكانت أول نظريات الحقل الكمي، وفيها تكون الحقول غير المرئية -وليس الجسيمات- هي الكيانات الأساسية القصوى. مثل هذه النظريات ستصبح النظريات الروتينية التي تتداولها الفيزياء، والنموذج القياسي نفسه ليس سوى نظرية أكثر تفصيلاً منها. وعلى الرغم من نجاحها، كانت صعبة الهضم. فعندما لا يُستثار الحقل بالجسيمات المناسبة، يكون غير قابل للملاحظة لدرجة محبطة، وتكون لدينا همهمة خلفية لما ليس أشياء تماماً، والتي صار الفيزيائيون يطلقون عليها اسم «الجسيمات الافتراضية» Virtual Particles.
وفي غضون سنوات قليلة من طرح ديراك لنظرية الديناميكا الكهربائية الكمية، وسع علماء نظريون آخرون مفهوم الحقل ليشمل الإلكترونات والبروتونات. أتاح هذا للفيزيائي إنريكو فيرمي Enrico Fermi شرح كيف يمكن للمواد المشعة أن تصدر إلكترونات عندما لا تحتوي نواة ذراتها على أي منها فعلياً. فقد اختفت الصورة الثابتة للمادة تحت (دون) الذرية Subatomic Matter، وبناءً على الدراسات النظرية لفولفغانغ باولي Wolfgang Pauli، أظهر فيرمي أنه يمكن تكوين الإلكترونات، ما دام هناك جسيمات محايدة Neutral ونشيطة تسمى النيوترينوات Neutrinos تتكون بالتزامن معها. رفضت مجلة نيتشر Nature نشر بحث فيرمي حول هذا الموضوع، قائلة: «إنه يحتوي على تكهنات بعيدة جداً عن الواقع بحيث أنها ليست موضع اهتمام». ومع ذلك، فإن النيوترينو، الذي اكتُشف تجريبياً في الخمسينات من القرن العشرين، لم يكن سوى واحد من العديد من الجسيمات الجديدة الغريبة التي يجب على الفيزيائيين أن يتصالحوا معها.
جسيمات تحت ذرية جديدة
كانت الإضافة الأولى هي النيوترون Neutron تقدمةً من الفيزيائي التجريبي البريطاني جيمس تشادويك James Chadwick في عام 1932، وهو جسيم محايد له كتلة تعادل كتلة البروتون تعادل تقريبا كتلة البروتون. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، اكتشف فيزيائي أمريكي شاب يُدعى كارل أندرسون Carl Anderson بعض المسارات المعاكسة في صور التأين الإلكتروني Electron ionisations. وتبين أنها كانت شيئاً مما تنبأ به ديراك: أمثلة على أول جسيم ضديد للمادة (المادة المضادة) Antimatter Particle.
عند هذه النقطة، كان عالَم فيزياء الجسيمات لا يزال منطقياً. كانت هناك ذرات مكونة من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات وضوء أو فوتونات، وكانت هناك البوزيترونات Positrons أوضديد المادة. لكن في عام 1936، وبالاشتراك مع زميله سيث نيدرماير Seth Neddermeyer، وجد أندرسون شيئاً لم يتوقعه أحد: نسخة أثقل من الإلكترون تسمى الميون Muon.
ومع ذلك، كان هذا الميون غير المتوقع أقل ما يقلق الفيزيائيين النظريين. فقبل بضع سنوات، اكتشف جيه. روبرت أوبنهايمر J. Robert Oppenheimer، وهو فيزيائي صريح ومجتهد، مشكلة كبيرة إلى حد ما في الديناميكا الكهربائية الكمية. فقد أدرك أن هناك عدداً لا نهائياً من الطرق التي يمكن للإلكترون من خلالها أن يصدر الفوتونات الافتراضية ويعيد امتصاصها، ما يعني أن طاقته يجب أن تكون لانهائية، وهو أمر غير منطقي. وسرعان ما ظهرت اللانهائيات Infinities في كل مكان، وقال أوبنهايمر إن النظرية كانت «في حالة سيئة جداً». ولم يساعد نشوب الحرب العالمية الثانية.
عندما انتهى هذا النزاع، ظهرت ثلاث طرق مختلفة لتقييد اللانهايات: اثنتان في الولايات المتحدة ابتكرهما جوليان شوينغر Julian Schwinger وريتشارد فاينمان Richard Feynman، وواحدة في اليابان، ابتكرها سين- إيتيرو توموناغا Sin-Itiro Tomonaga. في النهاية، أدرك عالم الرياضيات فريمان دايسون Freeman Dyson أن جميعها تؤدي إلى الشيء نفسه. يتذكر لاحقاً ذلك قائلاً: «تفجرت الفكرة في وعيي تفجرا».
كانت طريقة دايسون الفريدة تسمى إعادة الاستنظام Renormalization وهي تعمل بتجاهل حصة الأسد من طاقة الإلكترون، والتي لا يمكن قياسها في التجربة. احسب فقط ما يمكن قياسه، ولن تبقى الطاقة الإجمالية لانهائية. فقد كانت فكرة بسيطة إلى حد مضحك، لكنها نجحت لبعض الوقت.
القوى تحت المجهر
بحلول خمسينات القرن العشرين، كانت قوتان طبيعيتان أخريان بخلاف القوة الكهرومغناطيسية في قلب الديناميكا الكهربائية الكمية تخضعان لمزيد من التدقيق: القوة الضعيفة Weak Force التي تقف وراء اضمحلال فيرمي الإشعاعي Fermi’s Radioactive Decay والنيوترينوات، والقوة القوية Strong Force التي تربط البروتونات والنيوترونات معاً في نواة الذرة. بالنسبة إلى هذه القوى، لم تنجح عملية إعادة الاستنظام.
هذه المرة، جاءت الفكرة الحاسمة من تشين- نينغ «فرانك» يانغ Chen-Ning «Frank» Yang، وهو فيزيائي نظري صيني دمث الخلق انتقل إلى الولايات المتحدة. لقد كان يركز على التناظرات Symmetries في تفاعلات الجسيمات، وهي خاصية تنص ضمناً على حفظ قيم معينة أثناء تحول من نوع ما (انظر: رأساً على عقب، من الخلف إلى الأمام). مثلاً، عندما تتفاعل الفوتونات مع الإلكترونات، تتوازن المعادلات طبيعياً دون الحاجة إلى تغيير شحنة الإلكترون. أي أن سبب وجود الفوتونات هو الحفاظ على شحنة الإلكترون. نحن نسمي هذا تناظر الشحنة Charge Symmetry.
وبالعمل مع زميله روبرت ميلز Robert Mills، قدم يانغ فكرة أن الجسيمات الحاملة للقوة Force-Carrying المشابهة للفوتونات يجب أن تكون موجودة من أجل الحفاظ على صفات الجسيمات الأخرى. كانت المشكلة أنه لم يتمكن من تقديم أي تنبؤات محددة، ما أثار انزعاج باولي، الذي قاطع يانغ كثيراً أثناء عرض تقديمي لدرجة أن الأخير صمت وجلس بعصبية. ودافع أوبنهايمر Oppenheimer، الذي ترأس الندوة التي قدم فيها يانغ نظريته، عنه قائلاً: «يجب أن نسمح لفرانك باستكمال عرضه». وحسنا فعلوا. فمن حيث المبدأ ومن خلال إظهار كيف يمكن تطبيق مفهوم التناظر في الديناميكا الكهربائية الكمية (وهي نظرية قابلة لإعادة الاستنظام) في مكان آخر، فقد وضع يانغ الأساس لفئة جديدة من النظريات من شأنها أن تشكل العمود الفقري للنموذج القياسي.
وفي ستينات القرن العشرين، وضع ستيفن واينبرغ Steven Weinberg مع زميليه الفيزيائيَين شيلدون غلاشو Sheldon Glashow وعبد السلام Abdus Salam نظرية حقل قابلة لإعادة الاستنظام تشمل كلاً من الديناميكا الكهربائية الكمية والقوة الضعيفة. توقعت النظرية تحديد صفات معينة للنيوترينوات بواسطة ثلاثة جسيمات جديدة، تُعرف بـــ بوزونات دبليو+ (W+) ودبليو – (W-) وزد (Z)، وهي ما نسميها حاملات القوة الضعيفة Carriers of the Weak Force.
في هذه الأثناء، كان الفيزيائيون، ومن بينهم موراي غيل- مان Murray Gell-Mann، يعكفون على صياغة نظرية جديدة للقوة القوية التي تربط البروتونات والنيوترونات معاً في النوى الذرية. أظهرت هذه النظرية، المعروفة بــــ الديناميكا اللونية الكمية Quantum Chromodynamics أن البروتونات والنيوترونات تتكون من كيانات أصغر تُعرف باسم الكواركات Quarks تحدد صفاتها جسيمات أحدث اكتشافاً تسمى الغلوونات Gluons وهي الجسيمات الحاملة للقوة القوية.
وحالياً، في حين صارت مصادمات الجسيمات Particle Colliders أداة قياسية للاكتشاف، كانت قائمة الجسيمات التي يُعثر عليها تنمو بسرعة. وكانت معظمها مركبة، مكونة من كواركات في مجموعات مختلفة. وعلى الرغم من أن الكواركات في البروتونات والنيوترونات تأتي إما بنكهات «علوية» Up أو «سفلية» Down، كانت هناك حاجة إلى المزيد من النكهات Flavours لتفسير تنوع المركبات الأخرى.
استقر الفيزيائيون في النهاية على وجود ستة كواركات عبر ثلاثة أجيال من جسيمات المادة الأولية. ففي الجيل الأول كانت هناك الكواركات العلوية والسفلية، بإضافة إلى الإلكترون والنيوترينو المرتبط بالإلكترون. وبدا أن جسيمات الجيلين الثاني والثالث هي نسخ أثقل من الجيل الأول باطراد.
وحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف لماذا تسلك الطبيعة هذا السلوك الخارج عن السيطرة عندما يتعلق الأمر بالجسيمات الأولية، يقول فيرمي: «لو كان بإمكاني تذكر أسماء كل هذه الجسيمات، لكنت عالم نبات». لم يكن هناك سوى جسيم واحد آخر لإكمال المجموعة: بوزون هيغز Higgs boson، وهو الجسيم الذي يحدد كتلة جميع الجسيمات الأخرى. وضع هذه النظرية في عام 1964 الفيزيائي النظري بيتر هيغز Peter Higgs إلى جانب آخرين، ولم تُؤخذ على محمل الجد إلا في أوائل سبعينات القرن العشرين. اكتُشف بوزون هيغز بعد 40 عاماً أخرى، وقال هيغز بعد العثور عليه في عام 2012: «جميلٌ أن تكون على صواب حيال شيء ما أحيانا».
إن النظرية التي لدينا الآن هي عمل فني متكامل، فقد صار اللحاف المرقع نسيجاً فاخرا
مع القبول الراسخ لبوزن هيغز نظرياً، ألقى واينبرغ محاضرته عام 1973 التي قدم فيها اسم مجموعة الكيانات التي تحكم الجوانب الأساسية للواقع: النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. وقد جُمّعت مختلف أجزاء البحث في سرد كامل لمعظم الجسيمات الأولية، وهو السرد الذي لم يتعارض حتى يومنا هذا مع أي بيانات تجريبية. كتب جلاشو بعد بضع سنوات: «إن النظرية التي لدينا الآن هي عمل فني متكامل، فقد صار اللحاف المرقع Patchwork quilt نسيجا مزخرفا Tapestry».
من ابتكر النموذج القياسي؟
لا يوجد لحظة محددة لولادة النموذج القياسي، ولذلك فإنّ موعد عيد ميلادها محل جدل قائم. وقد اعتمد اجتماع عُقد عام 2018 للاحتفال بالذكرى الخمسين للنموذج القياسي تاريخ نشر ورقة ستيفن واينبرغ البحثية «نموذج للبتونات A model of leptons» عام 1978، لكن مصطلح النموذج القياسي قُدم للمجتمع العلمي عام 1978 عندما ذُكر بشكل عابر مما يعني أنه كان متدوالا في ذلك الوقت.
يقول واينبرغ أنه استخدم هذا المصطلح لأول مرة في حديث له عام 1973 في إكس-اون-بروفانس في فرنسا، ولكنه مع ذلك يُشك في أصله، ويقول: «أعتقد أنني أنا من أعطاه هذا الاسم»، قبل أن يُضيف بلطف عام 2010 «لكنني غير متأكد من ذلك».
رأسا على عقب، من الخلف إلى الأمام
استُلهم النموذج القياسي من مبدأ أثبتته عالمة الرياضيات إيمي نويثر Emmy Noether عام 1918: كل تناظر يعني بالضرورة وجود قانون حفظ Conservation law. فعلى سبيل المثال، تناظر الفيزياء بالنسبة إلى الزمن يعني أن الطاقة ثابتة، كما أن التناظر المكاني يقود إلى حفظ كمية الحركة (الزخم) Momentum.
هذا المبدأ لا غنى عنه بالنسبة لفيزيائي الجسيمات الأوائل (انظر: المقالة الرئيسية) الذين اكتشفوا الكثير من التناظرات الجديدة. وبالاعتماد على هذه التناظرات، استنتجوا قوانين حفظ كشفت عن التفاعلات الممكنة. فمثلا، تناظر السلوك بين الالكترون والنيورينو قاد إلى توحيد الكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية في إطار النظرية الكهروضعيفة Electroweak Theory. وبدفع التناظر إلى حد أبعد، نحصل على «التناظر الفائق» Supersymmetry وهو توسعة للنموذج القياسي تنص على وجود نظير فائق أثقل لكل جسيم موجود. لكن، لم نجد دليل على ذلك حتى الآن.
© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.